ماذا يمكنك أن تفعل إن كنت مثقفاً تميل الى الكتابة وتحب المسرح من بين الفنون جميعاً، وتعيش ذات لحظة مأزومة من حياتك إذ تجد نفسك مع زوجتك في مشاكل دائمة وعلى غير تواصل وأنتما معاً تقطنان بيتاً صغيراً في الريف الإنكليزي؟ ببساطة سيكون الجواب: تكتب مسرحية. وهذا ما فعله جون أوزبورن بالفعل أوائل عام 1956، لكنه وهو يفعله، غير مسار المسرح الإنكليزي كله وأوجد، حتى من دون أن يدري، تياراً جديداً في الكتابة المسرحية حمل اسم"الشبان الغاضبين"فيما حمل المسرح الذي كتب هؤلاء نصوصاً له اسم"مسرح الغضب". والحقيقة ان هذا الاسم لم يكن دخيلاً أو مفاجئاً، بل أتى من عنوان تلك المسرحية التي كتبها أوزبورن عند ذاك:"أنظر الى الوراء بغضب". في البداية لم يكن أوزبورن يريد أكثر من أن يسجل جزءاً من سيرته الذاتية في ذلك الحين... لكنه وهو يفعل، أحدث تلك الانعطافة في المسرح الإنكليزي التي لم يكن هو يتوقعها، كما لم يكن يتوقعها أي شخص آخر. بل إن هذه المسرحية، حين أنجز أوزبورن كتابتها وأرسلها الى عدد من الفرق والمسارح لعل أحداً يقبل تقديمها، كانت تعاد إليه بسرعة مع الشكر، الى درجة أنه سيقول لاحقاً: ان ما من مسرحية في التاريخ الإنكليزي الحديث رفضت بمثل السرعة التي رفضت بها"أنظر الى الوراء بغضب". ومع هذا حين قدمتها أخيراً فرقة مجازفة كانت تبحث عن جديد. ثم حين حولها طوني ريتشاردسون بعد عامين الى فيلم سينمائي، صارت هذه المسرحية واحدة من أشهر أعمال الخشبة الإنكليزية... والأوروبية كذلك. ناهيك بأنها ألهمت، بفضل بساطتها ونجاحاتها عدداً كبيراً من الكتّاب الإنكليز والأميركيين ومن بينهم إدوارد البي وهارولد بنتر وجو اورتون. كانت"أنظر الى الوراء بغضب"ثالث مسرحية يكتبها جون أوزبورن، لكنها كانت أول مسرحية تقدم له في لندن. أما تقديمها فحكايته حكاية: إذ كما أشرنا، ما إن انتهى أوزبورن من كتابتها حتى راح يبعث بنسخها الى كبريات الفرق، فكانت كل فرقة تسارع الى رفضها. وفي النهاية وصلت الى فرقة حديثة نسبياً تدعى"فرقة المسرح الإنكليزي"كان قد سبق لها أن قدمت عملين فشلا، فراح القائمون عليها ينتظرون نوعاً جديداً من الأعمال المسرحية لعله ينقذهم من عثرتهم، خصوصاً أن عقدهم مع"رويال كورت تياتر"كان يلزمهم تقديم عمل جديد. على الفور أدرك وعلى رأسهم المخرج جورج ديفاين أن هذا النص يمكن أن يقول شيئاً: فهو نص شاب وحديث وحميم، تكاد حواراته الغاضبة والمتهكمة تشبه حديث الشبيبة الإنكليزية التي كانت طالعة لتوها من أتون الحرب العالمية الثانية باحثة لنفسها عن آفاق وآمال سرعان ما اضمحلت. صحيح أن جو المسرحية حميمي، ويكاد يعكس حكاية بالغة الخصوصية، عن علاقة كأداء بين رجل وزوجته، لكن الحوارات والمواقف والبعد الاجتماعي للشخصيات، أتت كلها صورة لما كان يعتمل في المجتمع في ذلك الحين. وحين نعرف أن المسرح الإنكليزي قبل هذا العمل، والتيار الذي أوجده، كان يتألف من ميلودرامات ومن مسرحيات الصعود الطبقي، يمكننا أن نفهم الجديد الذي جاء به عمل، يعكس الصراع الأساسي فيه بين رجل وزوجته، الصراع الاجتماعي بين أفكار الطبقة العاملة الغاضبة، وأفكار الطبقة العليا. فالزوج في المسرحية، وهو جيمي بورتر، الذي يكاد يكون جون أوزبورن نفسه، هو مثقف آت من صفوف الطبقة العاملة، ليجد الدروب مسدودة في وجهه. أما زوجته آليسون فهي ابنة كولونيل سابق في الجيش ما يعني أنها آتية من أسرة ثرية ورفيعة اجتماعياً. وهذه الفوارق الطبقية، كان من الطبيعي لها أن تنفجر لتشكل الموضوع الأساس في عمل، يتحدث بخاصة عن الواقع الاجتماعي وعدم قدرته على التكيف مع تطلعات أبنائه. وعدم القدرة هذا على التكيف يعبر عنه بالتصعيد اللفظي الذي يمارسه جيمي منذ بدايات الفصل الأول، حيث نجده يزداد أكثر وأكثر غضباً، بل يترك لآليسون إمكان الارتباط بصديق لهما، من دون أن يجعل من ذلك الارتباط دراما، بل انه على العكس من ذلك، يجعله وسيلة لإبداء مزيد من الاحتقار لزوجته ولطبقتها الاجتماعية. ولعله ليس من قبيل الصدفة، أن يطالعنا الكاتب بموقفه من هذا كله، من خلال جعل آليسون تنهمك في كيّ الثياب طوال الفصل الأول تقريباً، بينما تنشغل بإعداد العشاء طوال الفصل الثاني. والحقيقة أن ما من أشياء حقيقية انعطافية تحدث في هذين الفصلين ولا حتى في الفصل الثالث. كل ما في الأمر أن الهوة بين الزوجين تزداد وردود الفعل اللفظية من جانب بوتر خصوصاً تزداد حدة وعصبية. ويمضي بوتر وقته وهو يدخل الى الخشبة غرفة المعيشة في بيتهما ويخرج، ثم يصطدم مع صديقهما المشترك كليف، قبل أن يبدأ صداماته بهيلينا صديقة زوجته التي ستلعب دوراً أساسياً في رسم العلاقات والمشاهد. بل حتى في إبداء تصرفات للدفاع عن اليسون تبدو هذه وكأنها لا تستسيغها، ومنها مثلاً، الاتصال بالكولونيل ردفرم، والد آليسون، كي يأتي وينقذ ابنته"من الجحيم الذي تعيش فيه"مع زوجها. وبالفعل سيأتي الكولونيل لنجده، على عكس ما كنا نتوقع، رجلاً مسالماً لطيفاً، حتى وإن كان يعيش خارج الحياة المعاصرة. أما القلبة"المسرحية"هنا فإنها تحدث في الفصل الثالث، الذي تدور أحداثه بعد شهور، ليبدو وكأنه مجرد تكرار للفصل الأول، ولكن بعد أن حلّت هيلينا محل آليسون واصلة الى حد ارتداء قميص جيمي الأحمر الذي كان، هو، يرتديه في الفصل الأول. ويبدو من الواضح هنا أن جيمي بورتر يشعر مع هيلينا بسعادة تفوق، أضعافاً، ما كان يشعر به مع آليسون. أما كليف الموجود بدوره فإنه يعلن أنه من الآن وصاعداً سيحلق بجناحيه. وإذ يفتح جيمي الباب استعداداً لسهرة ثلاثية يجد أمامه آليسون، التي تبدو له كالميتة، فيطل من وراء كتفيها ليصرخ في رفيقيه في الداخل:"ثمة صديقة هنا تريد أن تراكما". وفي المشهد التالي، نرى آليسون تشرح لهيلينا كيف انها، إذ أدركت أنها حامل ورغبت في أن تحتفظ بالطفل، تشعر بنفسها هالكة بعد أن فقدت هذا الطفل، ما يذكرنا بواحدة من أقسى عبارات جيمي في الفصل الأول، حين كان تمنى لآليسون أن تنجب طفلاً ثم تفقده. تعزي كل من الامرأتين الأخرى، بيد أن هيلينا سرعان ما تدرك أن موقفها كله يفتقر الى البعد الأخلاقي فتقرر أن تغادر، وتخبر جيمي بذلك فيدعها تفعل وهو يتمتم بعبارات وداع ساخرة لئيمة. غير أن هذا كله، والمناخ الغاضب اللئيم، لا يمنع المسرحية من أن تنتهي نهاية مفاجئة: إذ تحدث مصالحة غير متوقعة بين جيمي وآليسون... وينصرف الاثنان معاً الى لعب لعبة قديمة كانا اعتادا لعبها أيام حبهما في الصبا... ما يعني بالنسبة إلينا نحن المتفرجين أن الاثنين، إن لم يعيشا من الآن وصاعداً كل السعادة التي كانا يتمنيانها لأنفسهما، فعلى الأقل نوعاً من التواطؤ، أو بكلمات أخرى، نوعاً من الهدنة الطبقية! إذاً، الحوار والمواقف أكثر من الحبكة ورسم الشخصيات، هي ما وفر لهذه المسرحية التي كانت جديدة كلياً في ذلك الحين، نجاحها ومن ثم ريادتها إذ راح عدد من رفاق جون اوزبورن 1928 - 1994 يحاكونه انطلاقاً من ذلك النجاح، ما وفر للمسرح الإنكليزي عالماً مسرحياً جديداً، أتى موازياً - بل سابقاً - للسينما الحرة البريطانية، وكذلك لموجة الغناء الشعبي التي قادها فريق البيتلز، علماً بأن مؤرخي الثقافة، غالباً ما يربطون بين مسرح الغضب وتلك السينما والغناء الشعبي، على اعتبار أنها جميعاً، إنما كانت التعبير الأكثر نجاحاً عن تطلعات طبقات شعبية أتت من الحضيض ومن عنف الصراع لتضع لبريطانيا ثقافتها الأساسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. [email protected]