في كواليس الإدارة الأميركية من يؤكد ان وزير الخزانة، هنري بولسون، أصبح"القيصر"المطلق اليدين في"وول ستريت". ولو مدة لن تكون طويلة. وإن عينوا مفتشاً مستقلاً لمراقبة قراراته. سلموه زمام الأمور من دون تكليف رسمي. يؤازره في خطته رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي بن برنانكي وجوقة مستشاري البيت الأبيض. وبالنسبة الى هؤلاء: الخطة أو الهاوية. سحب السندات المتعثرة المخزنة في الموازنات العامة للمؤسسات المالية. مصير اول اقتصاد في العالم على المحك. لا احد كان يعتقد ان الخطة لن تمر. بحلتها الراهنة او مع تعديلات بسيطة. أعضاء الكونغرس لا يخاطرون، الى أي من الحزبين انتموا، اقله على المكشوف، بصدقيتهم وقيادة بلادهم العالم. لكن المشكلة لا تكمن في تفاصيل الخطة، انها تكمن"في التفاصيل". صحف العالم، في مقدمها الأميركية، امعنت في الانتقاد. اتهمت الإدارة بالمجازفة. بمكافأة المسؤولين عن الكارثة بدلاً من معاقبتهم. بدلاً من تحميلهم مسؤولية أخطائهم التي كان ممكناً تفاديها، مع مخاطرة اقل وتواضع اكثر. برنانكي نفسه حذر الكونغرس من ان الاقتصاد لن يتمكن بهذه السهولة، من استعادة عافيته والعودة الى ما كان عليه في السابق. الدون كيشوتية المطلقة لا تكفي، ولو مدعومة بمئات بلايين الدولارات. تجارب كثيرة سابقة مماثلة، أظهرت فشلها في إعادة تحريك الاقتصاد الأميركي، وستظهره مرة أخرى مجلة"بزنس ويك"تحدثت عن تجارب اميركية سابقة، وأخرى في اليابان وكوريا الجنوبية والمكسيك. و"القيصر"بولسون قد يتمكن من ضخ البلايين في"وول ستريت". لكن مفعول الخطة لن يوازي هديرها. هي مرشحة للتغير في الطريق. فشل بعد فشل، كما حصل في دول أخرى بدلت خططها كلياً، وكما يؤكد صندوق النقد. التفاصيل اذاً. الخوف الأكبر فيها ان الأموال ستنفق من دون الفعالية المطلوبة. المستفيد الأكبر ستكون الشركات التي ارتكبت أفدح اخطاء. أي التي خاطرت من دون رقيب. او من دون رقابة ذاتية. أي التي جمعت اكبر عدد من السندات"المنبوذة". وعلى رغم انها طوعية لا تجبر احداً على بيع سنداته، تعول خطة بولسون المطلق اليدين، اذا لم يردعه احد، على المستقبل. وفي شكل تبسيطي، على صدقية الحكومة في اعادة قيمتها الى السندات الميتة. وقد ينجح الأميركيون في وقف الانهيار المحتم، ومنع امتداده كالانشطار النووي، موقتاً. وبعد؟ خبراء منهم يجزمون ان النظام المالي الأميركي كما نعرفه جميعاً، لن يكون هو ذاته في المستقبل المنظور. محللون أوروبيون يرون ان الأزمة ايدولوجية محض. الليبيرالية السياسية التي دعت منذ سبعينات القرن الماضي، الى تحرير الأسواق وتسليم الاقتصاد الى القطاع الخاص، أظهرت فشلها التام. فها هي الدول تعود اليوم الى التأميم الواضح لإنقاذ اقتصاداتها، والاقتصاد العالمي في آن. عودة الى"التفاصيل". كيف وصلت الأمور الى هذا الحد؟ لا شك في ان الفقاعة تمادت في الانتفاخ. لم يردعها احد. ارباح جذبت ارباحاً لا تحصى. لم يستفد منها كثر. حقيقية في جزء كبير منها، ودفترية في جزء اكبر. الأخطر. وسقط من سقط على الطريق. معلومات سابقة تداولتها وسائل الإعلام، بينت ان مؤسسات استثمار كثيرة اقرضت 36 دولاراً في مقابل كل دولار من رأس مالها! ثقة هوجاء بالنفس، وباقتصاد تبيّن انه يُقهر، او استهتار بأدنى قوانين السوق؟ مكتب التحقيقات الفيديرالياف بي آي لم يتخذ قراره بالتحقيق اعتباطياً. هو يملك معلومات. معلوماته هذه تسرب بعضها الى وسائل الإعلام، منها محطة"سي ان ان"الأميركية و"يورونيوز"الأوروبية. في بعض اتصالاتهم السرية ، تباهى محللون في مؤسسات مالية بأنهم سيصبحون"أغنياء قبل ان ينهار هذا القصر الورقي" أي المؤسسة التي يعملون فيها. اضافوا ايضاً انهم سيضعون علامات تقويمية جيدة للمؤسسات المذكورة. على رغم علمهم بخطورة اوضاعها. كي لا ينكشف وضعها قبل تحقيق الهدف. آخرون افادوا انهم لم يتمكنوا من مراجعة حتى نصف الحسابات المكلفين بها في الوقت المحدد. اكتفوا بذلك واعطوا تقويماً جيداً. زملاء لهم اكدوا ان على رغم ما رأوه، لم يقرعوا ناقوس الخطر لثقتهم بأن اقتصاد بلدهم ينبعث من رماده. المانيا، العالمة بمجريات الأمور، والخائفة على اقتصادها، الأقوى في اوروبا، حذرت منذ اكثر من سنتين. لم يردها الجواب. رفعت الصوت لكن من دون نتيجة. انتقلت الى الصراخ بشخص مستشارتها ووزيري خارجيتها وماليتها. لكن بعد فوات الأوان. دول اخرى حاولت، من دون جدوى. محللون في بورصات العالم يرون ان رفض الكونغرس التصويت في المرة الأولى ليس نهاية المطاف. صحيح ان وضع الإدارة ضعيف في معمعة الانتخابات القريبة. صحيح ايضاً ان نواباً كثراً انصاعوا الى طلبات ناخبيهم، لتأمين عودتهم الى مناصبهم، أي ان القرار سياسي محض. لكن بعضهم لا يخفي ان الرفض هزّ البورصات. أي ان الأسهم تكبدت خسائر تاريخية. أصبحت في متناول يد الصيادين المتربصين. اشتروا منها مئات الملايين. غداً تقرّ الخطة، معدلة ام لا. غداً تتضاعف الأسعار. يبيعون حين يريدون. والمساهمون الحقيقيون اكبر الخاسرين. نذكّر اخيراً بأن خطة بولسون، من دون احتساب شراء المؤسسات المنهارة في الأيام الأخيرة، تساوي700 بليون دولار، أي في حدود ما انفق على حربي العراق وأفغانستان. نذكّر ايضاً بأن العالم في حاجة الى ثلث ما انفق على الحربين الفاشلتين للقضاء نهائياً على الفقر! او الى ثلث ما يعرضه بولسون!