1 " I have a dream لديّ حلم"، مارتن لوثر كينغ كان يردد ذلك، ولكنني أنا أيضاً "لدي حلم" يتردد ! 2 منذ كنا صغاراً في المدارس كنا نتعلم أن الحضارة الإسلامية نبعت في عصرها الذهبي من خارج الأرض العربية، ففي الشرق سمرقند وبخارى وطشقند، وفي الغرب: قرطبة وأشبيلية وغرناطة. كانت أسماء تلك المدن رنانة إلى درجة أنها لم تكن في مخيلتنا الصغيرة آنذاك أسماء مدن فحسب... بل أسماء كواكب. كنا نعرف سمرقند أكثر مما نعرف القمر، ونتوق للوصول إلى قرطبة أكثر من توقنا للوصول إلى المريخ. كنا نتوق إلى زيارة قرطبة وأخواتها لأننا علمنا أنها ما زالت موجودة، أما سمرقند وأخواتها فكانت في ذاكرتنا أشبه بالكائنات المنقرضة. وكان ظناً منطقياً للعقول الغضة أو حتى الغليظة، فمدن سمرقند وبخارى وطشقند ولدت وحدها أسماء ذهبية لامعة في سماء الحضارة الإسلامية حتى اليوم: البخاري، مسلم، الترمذي، النسائي، ابن سينا، الخوارزمي، الفارابي، الرازي، البيروني، الماتوريدي، النقشبندي، وغيرهم من أعضاء القائمة الذهبية في التاريخ الإسلامي والإنساني. كنا نظن أن المدن الفريدة التي أنجبت تلك الأسماء الفذة من العلماء والفلاسفة، لا بد أنها أصبحت صفحة من الماضي، وأنه قد دفنها الغبار الذي دفن المسلمين! لكني لحسن حظي المؤلم كنت من القلة الذين اكتشفوا بأن تلك المدن الرنانة، آنذاك! لم تنقرض بعد، وأنها ما زالت موجودة بأسمائها ومواقعها ومبانيها ومعاهد علومها ومدافن علمائها. هنا... بدأت أحلم، لسنوات طويلة، بزيارة متحف أوزبكستان، الدولة الحاضنة لتلك المدن، وشقيقاتها. أوزبكستان متحف، أكثر من مجرد كونها دولة! 3 تحقق الحلم... وهبطنا بالطائرة في مدينة طشقند، ثم سمرقند ثم بخارى ثم خوارزم خيفا ثم طشقند في طريق العودة. أخيراً... تحقق الحلم، ها أنا من دون تمثيل أو دوبلاج أو عمائم أو ماكياج، أتجول في أزقة الزمن الجميل، أرى وأشمّ بل وأتذوق طعم العَظَمة التي كانت. هنا الآن أكثر من 4 آلاف أثر تاريخي من الحضارة والهندسة الإسلامية، بين مسجد ومعهد وبيت ومدفن، هنا أكثر من مئة ألف مخطوطة أصلية تنتظر الباحثين والمحققين والمرمّمين، وعلى رأس تلك المخطوطات قاطبة النسخة الأصلية من أول مصحف مخطوط على 353 رقعة من جلد الغزال"مصحف عثمان"الذي ظل يتنقل بين أيدي الفاتحين، أو الغزاة، من بغداد إلى سمرقند إلى موسكو ثم إلى طشقند أخيراً... وربما ليس آخراً! هنا تتجول بين المباني المزينة بالنقوش الإسلامية والمطعمة بالسيراميك الفيروزي والمرجاني، هنا تجد المبنى الواحد وقد تجاور الى جانبيه المسجد والمدرسة، مسجد لم يمنع المدرسة حين ذاك أن تعلّم طلابها العلوم التطبيقية التي جعلت الخوارزمي يضع الجبر واللوغاريتم والصفر، ومدرسة لم تصدّ علماءها الأفذاذ عن ذكر الله. هنا تكمن الخلطة السرية للعظمة التي كانت، هنا... سمرقند. 4 كانت تلك المدن الأوزبكية، محطات أساسية في طريق الحرير، الذي كان يربط قوافل التجارة العابرة من الشرق الآسيوي إلى الغرب الأوروبي مروراً ببلاد العرب منذ أكثر من ألفي سنة، وعبر طريق يبلغ طوله أكثر من سبعة آلاف كيلومتر. وقد كان لطريق الحرير، على رغم غرضه التجاري أساساً، تأثير كبير على ازدهار عدد من الحضارات القديمة كالحضارة المصرية والصينية والهندية والرومانية من خلال تبادل المنتوج الثقافي، وليس التجاري فحسب، الذي يتركز بشكل خاص في بضاعة الحرير التي كانت تنتقل من الصين وآسيا الوسطى إلى أوروبا مقابل سلع غربية إلى الشرق. "طريق الحرير"هذا هو محور نقاش المائدة المستديرة التي نظمتها حكومة أوزبكستان بالتنسيق مع منظمة اليونسكو الأسبوع الماضي. تناول فيها الباحثون الأبعاد الثقافية والحضارية لذلك الطريق التاريخي، حيث يعمل علماء آثار ومسؤولون ثقافيون على اتفاق مشترك يحمل عنوان"خطة العمل للطلب المتعدد الجنسيات لتضمين طريق الحرير في لائحة اليونسكو للتراث العالمي الثقافي". وقد تم رسم خريطة بالمدن والبلدان التي يمر بها طريق الحرير من الأطراف الشرقية للصين حتى الأطراف الشرقية لأوروبا، مروراً بالهند وإيران والشام والجزيرة العربية. ولعل"رحلة الشتاء والصيف"القرشية، التي كانت تنطلق من مكةالمكرمة إلى اليمن والشام، ووثّقها القرآن الكريم في سورة قريش، هي مسار تواصلي لطريق الحرير قبل الإسلام، ثم لاحقاً أصبحت الأجزاء الكبرى من طريق الحرير واقعة في ديار الاسلام بعد الفتوحات. وتشير بعض المصادر الصينية الى أن العرب حلوا محل الفرس في أوائل القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي في السيطرة على تجارة الحرير. www.china.org.cn 5 لكن الحضارة الإسلامية آنذاك لم تسيطر على طريق الحرير فحسب، بل سيطرت على طرق البحث والاختراع والتفكير والتأمل، حين قدمت للبشرية عقولاً نيّرة تركت منارات بحثية واستخلاصية تنعم البشرية بنتائجها حتى اليوم. شخصيات تسمع وقع أقدامها وترى وميض عقولها ينبض خجلاً اليوم في أزقة سمرقند ومنارات بخارى ومتاحف طشقند، التي يبذل فيها الرئيس الأوزبكي اسلام كريموف جهوداً ملموسة ومحمودة لترميم الآثار الإسلامية النفيسة التي بدأت تتآكل بفعل الزمن. وقد كان اختيار طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2007 فرصة إضافية لتعزيز جهود الترميم التي تحتاج الى دعم وتكاتف الدول الإسلامية والمنظمات غير الحكومية القادرة على تمويل ودعم هذه الحملة التي أحالت سمرقند وبخارى وطشقند إلى ورش عمل ترميم متواصل من أجل الحفاظ على ملامح وجهنا الجميل. قابلت بالصدفة في طشقند فريقاً من البنك الإسلامي للتنمية يرعى مساهمة البنك بمبلغ مليون و800 ألف دولار لترميم الآثار. هي حقاً لفتة كريمة وفطنة مشكورة من البنك، لكنها بالطبع لا تغني عن الدعم المنتظر من دول ومؤسسات أخرى. 6 شكراً للسيدة لولا كاريموفا، سفيرة أوزبكستان لدى اليونسكو، التي تسند جهود والدها الرئيس إسلام كريموف في ترميم وتحضير"متحف أوزبكستان"/ بلاد أوزبكستان. شكراً لكل من ساندني في تحقيق"الحلم"، وفي رؤية تراب مشى عليه البخاري وابن سينا والخوارزمي. ... تراب مشوا عليه، ومشى علينا!! * سفير السعودية لدى اليونسكو [email protected]