بعد مرور ثلاثة عقود ونصف عقد على حرب السادس من تشرين الأول أكتوبر 1973، للمراقب أن يتساءل عن أحوال العرب وما آلت إليه مقارنة بما كانت عليه إبان تلك الحرب. جسدت حرب تشرين الأول الإصرار العربي على رفض استمرار الخضوع للاحتلال، ولم يتجاوز الهدف المحدد للعمليات العسكرية حدود الواقع والإمكانات المتاحة، فقد كان المطلوب من الحرب هو فقط تغيير الوضع على الأرض بما يدفع إسرائيل إلى قبول التفاوض لإنهاء الاحتلال سلماً، إلا أن هدف"إنهاء الاحتلال"لم يعد مقدساً بعد أن أصبح بعيد المنال، وأضحى التفاوض مع إسرائيل هدفاً بحد ذاته، وكأن مجرد إبعاد شبح الحرب أصبح بذاته غاية عربية قصوى، بغض النظر عن موقف الطرف الآخر، وإن كانت سياساته وسلوكياته تعكس منطقاً مخالفاً، بل ويمارس عملياً فعل شن الحرب - أو بعض حرب - على العرب من حين إلى آخر. وتكشف أن مغزى مقولة"السلام خيار استراتيجي عربي"ليس مجرد إسقاط الحرب كأولوية من قائمة الوسائل العربية لتحرير الأرض، بل هو تأكيد عربي جماعي بعدم القدرة ولا الرغبة في خوض حرب جديدة ضد إسرائيل، ما يحمل استجداء أكثر مما يحمل موقفاً إرادياً له بدائل. وامتدت تداعيات هذا الإحساس بالعجز الحاضر ليطاول صورة وقيمة النصر الماضي الذي تحقق في تشرين الأول، فتراجع الإحساس بأهمية وقيمة ذلك الانتصار وكأنه لم يكن. لا شك في أن انحسار وتضاؤل ذلك الشعور ليس وليد اللحظة الراهنة، ونتيجة استمراره وتزايد انحساره تدريجاً تقلص حتى تلاشى أو كاد، إذ مرت ذكرى هذا العام والعالم العربي يكاد لا يشعر بها. وبالنظر إلى حصاد السياسات العربية منذ تشرين الأول 1973 وحتى الآن، يمكن بسهولة اكتشاف أن التخلي عن خيار الحرب عربياً، لم يقابله تخل مماثل من الطرف الآخر، بل على العكس، فبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى سواد السلام وإنهاء الاحتلال، استمر الاحتلال وتكرس، بل لم يقتصر على إسرائيل وحدها، فبادرت الولاياتالمتحدة أيضاً لتحتل العراق. لم يكن الانحسار العربي سياسياً فقط وإنما عسكرياً أيضاً، فالجيوش العربية التي خاضت حرب تشرين الأول، ليست هي الجيوش الحالية المسترخية. فقد تقلصت أعدادها وتكلست عدتها، الى درجة أن الميزان العسكري في المنطقة يوضح بجلاء أن أياً من الجيوش العربية - بلا استثناء - لا يملك القدرة الكاملة على الدفاع عن أرضه وحماية حدود دولته وسيادتها، فأحدها لم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل منذ اتفاق وقف إطلاق النار 1973، وتلقى في العامين الأخيرين صفعات عسكرية متتالية من الطيران الإسرائيلي. وآخر تفرغ للأعمال المدنية والخدمات العامة حتى لم يعد قادراً على ردم أنفاق التهريب والتسلل في جانب من الحدود، أو منع خطف سياح أبرياء في جانب آخر. وجيش ثالث تخلى طواعية عن برامج تسليحه وخطط تطويره نووياً. إذا كانت هذه حال الجيوش العربية، فكيف يتوقع منها أن تدافع عن شعوبها بينما الدول الأخرى تجاوزت مرحلة الجيوش التقليدية فانتقلت إلى الأسلحة فوق التقليدية منذ سنوات، ثم ترنو الآن إلى الفضاء. ولكن، لأن الجيوش دائماً أداة ووسيلة لتنفيذ القرارات، فإن المعضلة الحقيقية تظل في ما - ومن- وراء الجيش وقبل القرار العسكري. المعضلة في الإرادة السياسية التي أضحت غائبة عن الواقع العربي. لقد جرت حرب تشرين الأول في مرحلة كان التهديد الذي تتعرض له الدول العربية واحداً، ولم يقف الاتفاق عند تحديد الخطر ومصدره، بل أيضاً كان هناك اتفاق عام على أسلوب وطريقة مواجهته. أما الآن فلا اتفاق على المواجهة لأنه لا توافق أصلاً على طبيعة الخطر ولا مصدره، فمن المؤكد أن عدداً من الدول العربية لا تعتبر إسرائيل تهديداً أو مصدر خطر ولو محتمل عليها. بينما يرى بعضها أن إيران هي الخطر القادم وربما الداهم على المنطقة، في حين قد تتراجع إيران وإسرائيل كثيراً في أولويات مصادر التهديد أمام مشكلة انفصالية أو حتى خلاف حدودي لدولة عربية مع جارتها الشقيقة. تعود جذور هذا الانفراط العربي إلى ما بعد حرب تشرين الأول مباشرة، فقد خاض العرب حرب تشرين الأول وراء مصر التي كانت لا تزال تحتل موقع القيادة بقوة الدفع الذاتي بعد غياب عبدالناصر. أما الآن، فمصر لم تعد مؤهلة لتقود، بينما خرج العالم العربي من طوق القيادة العربية، فبات الانقياد للخارج ربما تأثراً بالعولمة واندماجاً معها. بالتالي فلا غرابة مطلقاً في افتقاد العالم العربي قيادة تحركه وقاطرة توجه مساره. * كاتب مصري