أربعون عاماً مرت على ذكرى تلك الأيام الكئيبة في التاريخ العربي الحديث عندما تمكنت إسرائيل من احتلال أراض مصرية وسورية وفلسطينية وأدخلت في قاموس العلاقات الدولية اصطلاح أزمة الشرق الأوسط. حقاً لقد كانت أياماً حالكة السواد انتكست فيها رايات الأمة وتعرضت شعوبها لأكبر صدمة ربما في تاريخها كله إذ تمكنت دولة صغيرة بمفهوم تلك الأيام من الانقضاض على الجيوش العربية تحت تأثير حسابات سياسية خاطئة ومواجهات عسكرية غير متكافئة، فلقد ظن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أنه بقامته القومية العالية وشعبيته العربية الواسعة يستطيع أن يدخل حرباً إعلامية مع إسرائيل فيها تلويح بالقوة من دون استخدامها واستعراض للعضلات بلا مبارزة حقيقية، ولكن الدولة العبرية كانت أعدت عدتها وجهزت قدرتها وحسمت أمرها وقررت الدخول في مغامرة عسكرية سريعة ضد القوى العربية المحيطة وهي تعلم أن الجيش المصري متورط في"حرب اليمن"وأن جنرالاته ترهلوا بفعل التقادم والاسترخاء الاجتماعي، كما أن الجيوش العربية الأخرى لم تكن في مجملها أفضل حالاً منه، كذلك فإن إسرائيل كانت تدرك أن الظروف الدولية مواتية تماماً، فهناك إدارة جونسون في العاصمة الأميركية وهى واحدة من أسوأ الإدارات التي تعاقبت على العاصمة الأميركية وأكثرها كراهية للعرب واستخفافاً بهم بالإضافة إلى ضجر سوفياتي من عبد الناصر الذي يمسك بزمام الوسطية ولا يحسم أمره وإنما يطرح مشروعه الذي يمثل نصف الطريق نحو الفكر الاشتراكي والتطبيق الماركسي! كما أن إسرائيل كانت تدرك أن هناك انقساماً عربياً حاداً وتقسيماً مفتعلاً بين ما يسمى ب"القوى التقدمية"و"الدول المحافظة"، لذلك أيقنت إسرائيل في مثل هذه الأيام منذ أربعين عاماً أنها على موعد مع القدر العدواني الذي تجيده دائماً ولا تتورع عنه غالباً، فضربت ضربتها لتترك بصمة طويلة الأمد في المنطقة كلها والتي ما زالت آثارها باقية على الأرض العربية، تذكرنا بسنوات الهوان والتراجع القومي والاستهانة العالمية بالعرب والعروبة معاً إلى أن جاءت حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 لتمحو عار الهزيمة الشائنة التي حدثت في حزيران يونيو 1967، بل إن البسالة اللبنانية التي أظهرها أبناء الجنوب في حرب تموز يوليو 2006 تكاد تكون هى الأخرى استكمالاً جديداً للروح الظافرة التي محت آثار الهزيمة نفسياً واستراتيجياً بصورة أصبحت معها أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أمراً قابلاً للنقاش بل والتشكيك على نحو يرفع روح الإحباط عن كاهل الأمة العربية وشعوبها، وقد يكون من المناسب أن أشير - ونحن نقترب من الذكرى الأربعين لنكسة 1967 والذكرى التاسعة والخمسين لنكبة عام 1948 - إلى عدد من الملاحظات نوجزها في ما يلي: 1- إن الهزيمة العسكرية التي واجهتها بعض الجيوش العربية صبيحة 5 حزيران عام 1967 لم تتحول بالضرورة إلى هزيمة سياسية فلقد حارب الفدائيون المصريون في معركة"رأس العش"بعد أيام قليلة من وقوع النكسة وبرغم مجزرة الأطفال التي ارتكبتها إسرائيل بقصف مدرسة"بحر البقر"وغيرها من جرائمها المعتادة، ظهرت معارك"شدوان"و"الكرامة"وقبلهما ضرب المدمرة"إيلات"قرب السواحل المصرية لتشكل في مجموعها مؤشرات للإرادة القوية والرفض العربي للهزيمة والإحساس بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وفي شهور قليلة استجمعت الجيوش العربية قوتها وبدأت تستعيد توازنها وتدخل في حرب استنزاف مضنية مع العدو الإسرائيلي وهو ما يؤكد أن النكسة كانت استثناءً لا يجب أن يتكرر مهما كانت الظروف. 2- لقد راجعت الدول العربية ملفاتها وأعادت حساباتها وناقشت بوضوح أخطاءها فانتحر القائد العام للجيش المصري المشير عبد الحكيم عامر صديق عبد الناصر الأول ورفيق دربه وشريك ثورته، كما عاد الجيش المصري من اليمن بعد أن أدى مهمة قومية بحسابات ذلك الزمان وبدأت بعض الدول وفي مقدمتها مصر تردد حديثاً علنياً عن الحريات ورفع الحراسات والسعي نحو الديموقراطية ولو على استحياء، فصدر بيان 30 آذار مارس 1968 في القاهرة تأكيداً لذلك المعنى ولكن ظلال النكسة الكئيبة كانت تحجب عن الروح العربية آفاقاً جديدة نحو الإصلاح الداخلي وإعادة ترتيب البيت الوطني بمنطق أنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، وأيامها خرج المارد الإسلامي من القمقم وردد دعاته أن المشروع القومي فشل والمشروع الاشتراكي انتهى، فلماذا لا نجرب المشروع الإسلامي خصوصاً أن رصيده متوفر في ظل إحساس عام بأن النكسة عقوبة لعلمانية العصر الناصري وابتعاده عن الروح الدينية وصدامه المعروف مع جماعة"الإخوان المسلمين"في مواجهتين حادتين عامي 1954 و1965؟ 3- إن هزة النكسة حركت الوجدان العربي نحو بعض المظاهر الإيجابية ولن ينسى العرب ذلك اليوم الذي جاء فيه المناضل العربي الراحل هواري بومدين إلى القاهرة ومعه"شيكات"على بياض لشراء أسلحة للجيش المصري من الاتحاد السوفياتي حتى يتمكن من رد العدوان وتحرير الأرض العربية، كما أن رفض التنحي الذي حاوله عبد الناصر في 9 حزيران 1967 رفضته الجماهير والزعامات العربية أيضاً وليس الشعب المصري وحده فلقد قرر الجميع خوض المعركة حتى النهاية، ولا زلنا نتذكر تلك المرارة التي كانت تملأ صدور العرب في الفترة من 1967 إلى 1973. إنني شخصياً أدرك قسوتها كجندي في الجيش المصري من حملة المؤهلات العليا وعلى الرغم من أن المدة لم تطل بي في الميدان إلا شهوراً قليلة فإنني أتذكر زملاء لي قضوا ما يقرب من سبع سنوات على شاطئ قناة السويس يحاربون عدواً أسكرته نشوة النصر وحركته غطرسة القوة. 4- إن موقف الدول العربية في أعقاب الهزيمة يحمل ومضات مشرقة جددت الآمال وقتها برغم جراح النكسة وأهوالها، فلقد وقف عاهل السعودية المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز موقفاً يحمل أفضل الشيم العربية، اذ على رغم خصومته السابقة مع عبد الناصر شعر بأسى عميق لما جرى في غمار أيام النكسة الحزينة ووقف صامداً يدعم عبد الناصر ويدافع معه عن القضية الفلسطينية - قضية العرب الأولى - ويسانده بقوة في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في آب أغسطس 1967 ولا عجب فهو"فيصل العرب"الذي قاد معركة حظر البترول عام 1973 في فترة كانت فيها صورة العرب أفضل ما تكون بعد حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 بأصدائها الدولية ونتائجها الإقليمية واستعادة العرب لثقتهم في الذات واستعادة العالم لمصداقية العرب من جديد. وقد يقول قائل إن نتائج حرب 1973 كان يمكن توظيفها سياسياً على نحو أفضل بكثير مما حدث. وهنا أسجل شهادة للتاريخ وهي أن إجهاض جزء من نتائج تلك الحرب الظافرة لا يعود إلى مبادرة الرئيس السادات وحدها ولكن إلى العقلية العربية أيضاً التي تعاملت مع الموقف وتداعياته في ذلك الوقت بروح الرفض الحاد من دون مناقشة أو مراجعة أو شراكة. 5- إن لاءات الخرطوم الثلاث الشهيرة التي تبنتها القمة العربية عام 1967: لا سلام، لا تفاوض، لا اعتراف، تقابلها نعم الثلاثية في قمة الرياض 2006 حيث تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال وظهرت تحولات دولية في مقدمتها سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الاشتراكية إلى جانب اتفاق اوسلو ونتائجه على الأرض الفلسطينية فضلاً عن تفجيرات 11 أيلول سبتمبر عام 2001 والتداعيات العميقة التي تركتها في وجدان العصر كله، لذلك فإن القضية الفلسطينية - وبعد أربعين عاماً من بداية مشكلة النازحين وتسعة وخمسين عاماً من بداية مشكلة اللاجئين - توحي كلها أننا أمام روح جديدة وعصر مختلف تسهم فيه ادارة جورج دبليو بوش بقسط وافر من انحسار مظلة السلم والأمن الدوليين لا في الشرق الأوسط وحده ولكن على امتداد جبهة عريضة تبدأ من كوريا الشمالية لتصل إلى شعوب أميركا اللاتينية مروراً بوسط آسيا وغربها والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومناطق أخرى في أنحاء العالم، تشعر جميعها بالقلق من نوازع تلك الإدارة التي تخلط الدين بالسياسة وتوظف الثروة في خدمة الاستبداد! هذه ملاحظات خمس ترتبط بخواطر عربي عاش تلك السنوات الأربعين وانتقل معها وبها من شرخ الشباب إلى مشارف الشيخوخة وشهد تحولات كبرى في السياسات الدولية وتراجعات واضحة في المواقف الإقليمية، مواطن عربي قد تكون عواطفه مع روح عبد الناصر بينما قد يكون عقله مع فكر السادات، ولكنه يظل يتأرجح بين الخيارين في أحضان أمته بشعوبها العربية من دون استثناء مؤمناً بأن الوقت حان للانتهاء من آثار أربعين عاماً ثقيلة على الأرض العربية المحتلة وأصبح يتعين على العرب أن يقفوا بموضوعية وواقعية أمام روح العصر شركاء فاعلين فيه لا متفرجين سلبيين عليه. فلقد آن الأوان لكي يعكس العرب إمكاناتهم الحقيقية على سياساتهم جماعية كانت أو ثنائية حتى لا يعود من جديد شبح ذلك الماضي الكئيب ليطل على الأمة من جديد، فإسرائيل كيان عدواني توسعي استيطاني وهو أيضاً بمقاييس العصر يجسد مفهوم دولة عنصرية يدرك الجميع - داعموها ورافضوها - أنها تأخذ ما لا تستحق وتنتهك ما لا يجب وتعبث بحقوق الآخرين، ومع ذلك فهي في النهاية دولة عادية بكل المقاييس فلقد انتهى عصر الأساطير ولن يعود مرة أخرى. * كاتب مصري