عقب فوز جورج بوش الإبن بمنصب الرئاسة، أصدر الكاتب الأميركي"غايل شيهي"دراسة واسعة رسم فيها طبائع شخصيات شهيرة من خلال ممارساتها للألعاب الرياضية المختلفة. وحاول في تلك الدراسة ابراز سلوك كل شخصية عن طريق رصد أدائها فوق الملاعب. وروى الكاتب شيهي على لسان بربارة بوش ما جمعته من انطباعات عن تصرفات نجلها جورج، جاء فيها:"عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، حصلت له على إذن خاص للتدرب على لعبة الغولف في نادي هيوستن مع صديقه دووغ هانا. وكنت أتضايق كلما سمعته يكيل الشتائم الى حظه العاثر ساعة يخطئ في إصابة الهدف. وكثيراً ما كان صديقه ينصحه بضرورة تقبل الخسارة بروح رياضية، تماماً مثلما يتقبل الربح. وكان جورج يتظاهر بقبول النصيحة، ولكنه سرعان ما يعود الى طبيعته، أي الى الصياح وقذف الشتائم البذيئة كلما سجل منافسه هدفاً ضده". وبين الملاحظات الدقيقة التي سجلها الكاتب شيهي على لسان الوالدة بربارة بوش، ان نجلها كان يختار أصدقاءه ممن لا يجاهرون أمام الناس بخسارته. كما أنه كان يحرص على مواصلة اللعب إذا خسر على أمل الفوز... ولكنه يتوقف فجأة عن متابعة اللعب إذا ربح. وهو في الحالين، يتعمد تغيير قواعد اللعبة لعل التغيير يساعده على كسب المباراة. في ضوء هذه العقد النفسية التي عانى منها جورج بوش، يقارن الكاتب شيهي بين سلوكيات الشاب اليافع فوق ملعب الغولف، وبين ممارساته السياسية في البيت الأبيض. ذلك انه هرب من ورطته العسكرية في العراق وحصر المسؤولية بوزير الدفاع ومهندس حملته على العراق دونالد رامسفيلد. ولما فشل في إقناع الرأي العام بأن اجتثاث حزب البعث العراقي شبيه باجتثاث النازية الألمانية، ابعد صاحب فكرة هذا التماثل الحاكم المدني بول بريمر واستبدله بقيادة محلية. وهو حالياً يستعد لإنهاء ولايته الثانية والأخيرة في ظل أزمة مالية خانقة لم يعرفها العالم منذ أزمة 1929. كما انه يستعد لتجيير مسؤوليات جسام سيلقيها على كاهل خلفه، بدءاً بالحروب الطاحنة في العراق وافغانستان وفلسطين... وانتهاء بعملية ترميم النظام الرأسمالي المنهار الذي تسبب في إرباك النظام الاقتصادي العالمي. ويتوقع خبراء المال ان يقود ارتفاع العجز المضاعف للولايات المتحدة الى ضعف الدولار كعملة الاحتياط الرئيسية في العالم، الأمر الذي يدفع بكثير من الدول - وبينها دول مجلس التعاون الخليجي - الى التخلي عن الدولار. في آخر يوم من كانون الأول ديسمبر المقبل، ينتهي تفويض مجلس الأمن الدولي للقوات الدولية العاملة في العراق، بانتظار صدور اتفاق جديد ينظم الوجود الأميركي في العراق بعد سنة 2008. وقد حذر رئيس الأركان الأميركي الأميرال مايكل مولن، الشعب العراقي من مخاطر أمنية وخيمة ما لم تقر الحكومة مسودة الاتفاق. ورد عليه المتحدث باسم الحكومة العراقية علي الدباغ، بأنه من الضروري ادخال تعديلات على مسودة الاتفاق بحيث تصبح مقبولة من مختلف الأحزاب الوطنية. ويجمع المراسلون في بغداد على القول ان موجة الرفض لتجديد شرعية الوجود الأميركي قد اتسعت، خصوصاً بعدما ارتفعت اسهم المرشح أوباما، المناهض لمبدأ الحرب ضد العراق. وربما وظفت ايران هذا الاحتمال لتشجيع حلفائها على عدم تمرير الاتفاق الملزم. وقد ساعدها على تعميم هذه القناعة الموقف الضعيف الذي تعانيه إدارة بوش، داخلياً وخارجياً. ويتوقع المراقبون ان ينعكس هذا الضعف بشكل سلبي على مجمل المواقع العسكرية الأميركية في العراق، على اعتبار ان السنوات الست لم تنجح في رأب الصدع الذي أحدثه الاحتلال. اختلف الصحافيون في بغداد على حجم الكارثة التي خلفتها عملية غزو العراق، ولكنهم اتفقوا على ان العراق الموحد أصبح جزراً متباعدة تفصل بين طوائفها وأعراقها بحار من الكراهية والاحقاد. وهم يتوقعون انفجار حرب أهلية عقب انسحاب قوات الاحتلال، لا فرق إن كان ذلك خلال السنة المقبلة أم خلال سنة 2011. وتعيد مناقشات القيادات الأميركية حول مستقبل العراق إلى الأذهان وضع الهند في أربعينات القرن الماضي، أي بعدما قرر البريطانيون الرحيل بأقصى سرعة غداة خسارة مرشح المحافظين أمام مرشح"حزب العمال"، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حرب أهلية في شبه القارة الهندية. وتفترض المقارنة أن القوات الأميركية تنسحب من العراق وتخلف كارثة وراءها، عقب انتخاب رئيس ديموقراطي وحلوله محل جورج بوش الجمهوري. ومن المتوقع أن تفوق سرعة انفجار العراق وانقسامه إلى أقاليم ومحافظات، سرعة انفجار الهند بعد 1945. ذلك أن البريطانيين تركوا في الهند إدارة قوية نظمت عملية الانتقال من الاحتلال إلى الاستقلال، أما العراق فإنه يفتقد إلى حكومة قوية متماسكة، وإلى أحزاب تريد وحدة البلاد، وإلى جيش قوي قادر على ملء فراغ قوات الاحتلال. وفي أفضل الأحوال قد يلقى العراق مصير الهند، أي حرباً أهلية يليها تقسيم، ثم حرباً بين الدول الجديدة وليدة التقسيم. وربما تخوف"الزعران الأربعة"الذين شجعوا الرئيس بوش على غزو العراق، من احتمالات التحقيق معهم، لذلك اندفع هذا الأسبوع بول ولفوفيتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فيث، إلى إعلان تنصلهم من مسؤولية اتخاذ قرار الغزو وحصرها بوزير الدفاع المُقال دونالد رامسفيلد. في أنقرة، حذر قائد الجيش الجنرال يشار بيوكانيت من تداعيات تقسيم العراق وفق الحل الأميركي الذي أقره الكونغرس. وقال إن دولة مستقلة في شمال العراق ستمثل خطراً كبيراً على تركيا من الناحيتين السياسية والعسكرية. لذلك نبهت الصحف التركية الى احتمال إلحاق المناطق الشمالية بإدارة أنقرة وإنهاء تمرد حزب العمال الكردستاني. صحيفة"واشنطن تايمز"استعجلت فرضية تقسيم العراق، وذكرت أن التنظيف العرقي بوشر مع طرد ما يقارب ثلث المسيحيين. وتقدر جمعيات الاغاثة والمساعدات العالمية عدد المسيحيين الباقين في العراق ما بين 300 ألف و600 ألف مسيحي. في حين أن ارقام الاحصاء الأخير سنة 1986 سجلت عدد المسيحيين بحوالي مليون نسمة من أصل عدد السكان البالغ 25 مليون عراقي. والملفت أن رئيس الحكومة نوري المالكي كان قد وعد مطران الكلدان شليمون وردوني بوقف عمليات استهداف المسيحيين في البصرة وسهل نينوى، إلا أن تدخله لم يوقف حملة الاغتيالات والطرد الجماعي. ويبدو أن هذه الحملة الواسعة لم تقصر ملاحقتها للمسيحيين فقط، وإنما أرعبت المسلمين السنّة في البصرة أيضاً. والدليل أن"الحزب الإسلامي العراقي"أصدر بياناً تحدث فيه عن استهداف المواطنين السنّة والتعرض اليهم بالخطف والاغتيال عن طريق زرع عبّوات ناسفة أمام أبواب المساجد. وطالب الحزب في بيانه، القوى السياسية العراقية، بضرورة توضيح موقفها من المحاولات الحثيثة لإفراغ البصرة من أهل السنّة والتوقف عن التنكيل بالأبرياء من الناس. عقب احتلال العراق من قبل الأميركيين، صدرت في الولاياتالمتحدة وأوروبا سلسلة كتب تتحدث عن"الاستعمار الجديد"، وعن احتمالات الإخفاق في حرب قد تنهي الامبراطورية الأميركية! واستأثر كتاب ايمانويل تود، وعنوانه"ما بعد الإمبراطورية"باهتمام المحللين الذين تبينوا من خلاله خطأ ادارة جورج بوش وتأثيره السياسي على مجرى الأحداث. وخلاصة البحث الذي قدمه الكاتب، تشير الى تحول اميركا من عامل استقرار في النظام الدولي الى عامل فوضى ونزاعات. ووصف استراتيجية بوش الإبن بأنها نقيض استراتيجية والده وسلفه كلينتون. وقال عنها انها استراتيجية الجنون التي اربكت حلفاءها الأوروبيين ولم تخف أعداءها. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1989، انتفت حاجة الدول الأوروبية الى حليفتها الكبرى، الولاياتالمتحدة. وبسبب زوال الحرب الباردة، وتحرر الاتحاد الأوروبي من تهديد حلف وارسو، استبدلت سياسة القوة بسياسة الاحتكام الى القانون الدولي، واسهمت المساعي الأوروبية في بلورة عصر يتطلع الى سيادة المعايير الدولية وبناء المؤسسات. ووصفه رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير"بعصر العقيدة الدولية". وكان ذلك عقب انشاء محكمة الجنايات الدولية، وإبرام"بروتوكول كيوتو"للحفاظ على البيئة، وإعلان حظر استخدام الألغام، والسعي الى مصادقة الدول على معاهدة حظر التجارب النووية. عندما دخل جورج بوش الإبن البيت الابيض، كان الرئيس السابق بيل كلينتون يتصرف كامبراطور روماني، وحاول الرئيس الجديد انتهاج سياسة واقعية تهدف الى لجم طموحات بلاده الدولية وتخدم مصالحها القومية فقط. وفي ضوء سياسة التراجع، انسحب بوش من مفاوضات كيوتو وعارض إنشاء محكمة الجنايات الدولية، ومعاهدة حظر التجارب النووية. إثر هجمات الحادي عشر من ايلول سبتمبر، انتهجت ادارة جورج بوش استراتيجية عدائية أخرجتها من حال الهدنة والاستقرار الداخلي. وشنت ما عُرف ب"الحرب على الارهاب"وطلبت من كل حلفائها في الغرب والشرق مشاطرتها هذه السياسة. وحسبت ان مكافحة نفوذ الاسلاميين المتطرفين شأن مشترك مع الأوروبيين. ثم تبين لها ان الخطر المحدق بالأميركيين يتهددهم من خارج أرضهم، في حين ان مشكلات الأوروبيين مع التطرف الاسلامي شأن محلي. عندما أعلن مهندس الحملة على العراق دونالد رامسفيلد، الحرب على نظام صدام حسين، وعد بأن القوات الأميركية لن تبقى الى الأبد. ووضع في حينه نائبه بول ولفوفيتز، هدفين للحرب: أولاً، إعادة هيبة الولاياتالمتحدة. ثانياً، توفير نموذج يعتبر به أعداء الولاياتالمتحدة في العالم الإسلامي والعربي، ويبعث الخوف في صدور حلفاء أميركا ممن يمولون الإرهاب. وبدا للرئيس بوش أن ارساء الديموقراطية يعبد الطريق أمام عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية. وحسب أن العراقيين الراغبين في سقوط نظام صدام تواقون إلى تبني الديموقراطية الأميركية. ولكنه سرعان ما أخفق في نقل هذه التجربة لأن العراقيين غير مجمعين على صورة مستقبلهم. قبل أسبوع من نهاية ولاية جورج بوش الثانية، تعلن الولاياتالمتحدة عن إفلاسها الاقتصادي وهزيمتها العسكرية أمام تحديات الإرهاب في أفغانستانوالعراق. وهي حالياً تبحث عن منقذ يخرجها من المستنقع الذي رماها فيه جورج بوش الابن. وبحسب آدم بروجورسكي الذي عرف الديموقراطية بأنها"حق المواطنين في تغيير قادتهم عن طريق صناديق الاقتراع"... فإن الرابع من الشهر المقبل سيشهد على هذا الحق. * كاتب وصحافي لبناني