تضع مسألة التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع الولاياتالمتحدةالعراق على مفترق طرق، في مواجهة لحظة تاريخية انتقالية سواء على مستوى الأزمة الداخلية أم على مستوى العلاقة مع كل من إيرانوالولاياتالمتحدة. المفارقة الأولى أنّ القوى السنية العراقية الرئيسة جبهة التوافق وكيانات الصحوة أقرب إلى قبول الاتفاقية، وإن كانت لم تعلن موقفها رسمياً إلى الآن، فيما أعلنت هيئة العلماء رفضها، انسجاماً مع موقفها من الاحتلال ابتداءً. التحول النوعي في الموقف السني ناجم عن مراجعة استراتيجية لحسابات العديد من القوى المقاومة سابقاً، بالتحديد مع تشكيل الصحوات ثم الكيانات السياسية الناشئة منها. ووفقاً للقراءة الجديدة فإنّ الخشية السُنية الأكبر هي من"النفوذ الإيراني"وليس من"الاحتلال الأميركي"، وهذا يعني أن بقاء الدور الأميركي فاعلاً ومؤثراً على الصعيدين السياسي والأمني- العسكري هو في مصلحة السنة حالياً، مما يقلل من هواجسهم من تسليم الأمور بالكلية للقوات العراقية، التي تسيطر عليها القوى الشيعية، ويرى السُنة أن لإيران يداً طولى فيها. ويتوافق مع الموقف السني موقف القوى الكردية التي تحرص بصورة كبيرة على تحالفها الاستراتيجي مع الإدارة الأميركية، وقد أعلن مسعود برزاني بصراحة موافقته على مسودة الاتفاقية الأمنية. في المقابل، فإنّ الإشكالية الكبرى تكمن حالياً في موقف القوى الشيعية. إذ أنّ أغلب الإدانات والتحفظات الكبيرة والمظاهرات ضد الاتفاقية الأمنية، جاءت منها، سواء المعارضة، أي التيار الصدري، أو حتى الائتلاف الشيعي الحاكم. فمن الواضح أنّ إيران تتحرك بقوة في خلفية المشهد الشيعي ضد المعاهدة الأمنية، التي ستساعد الولاياتالمتحدة على إبقاء قواتها في قواعد متعددة في العراق، دون أن تتورط في دخول المدن والاشتباك اليومي العسكري والأمني. المصلحة الإيرانية - التي تتمثل في عدم استقرار الأوضاع في العراق من خلال استراتيجية"إدارة الفوضى"- هي المفسر الرئيس للمفارقة الكبرى في الموقف السياسي الشيعي، الذي أيّد الاحتلال الأميركي، أو سكت عنه في أقل تقدير، وكان العمود الفقري في النظام السياسي الجديد، ثم هو اليوم ينتفض ضد الاتفاقية، ويتحفّظ عليها. بينما التيار السني العام الذي عارض الاحتلال ابتداءً يقبل اليوم ولو ضمنياً إلى الآن بالاتفاقية. المؤشر الأبرز على تحولات الموقف الشيعي يتمثل بالفتاوى التي بدأت تصدر من مراجع شيعية كبرى تحرّم الاتفاقية، كما حدث مع كاظم الحائري المقيم في طهران أو مع محمد حسين فضل الله المقيم في لبنان. الحائري يرى في فتواه أنّ الاتفاقية سوف تؤدي إلى"فقدان العراق سيادته الوطنية". والمفارقة المدهشة أنّ هؤلاء المراجع لم يتحمّسوا ضد الاحتلال الأميركي نفسه، ولم يشرّعوا المقاومة المسلّحة، بل لاذ المراجع إما بالصمت تجاه"المقاومة"السنية أو تضليلها واتهامها، بينما هي اليوم تقف بصلابة مع ضجة إعلامية ضد الاتفاقية! بخصوص التيار الصدري، فإنّ موقفه من المعاهدة ينسجم مع خطابه الرافض للاحتلال الأميركي والمُطالب بخروج القوات الأميركية بالكلية من العراق، وقد سيّر التيار مظاهرات واحتجاجات ضد توقيع المعاهدة. في حين أنّ المعضلة الحقيقية تكمن في الائتلاف الشيعي الحاكم حالياً، وفي خيارات رئيس الوزراء، نوري المالكي وحزبه الدعوة الإسلامية مع حلفائه من المجلس الأعلى الإسلامي العراقي. فالمالكي يتمسّك، علناً، بالاعتراض على بعض المواد في الاتفاقية، خاصة المرتبطة بالولاية القضائية للحكومة العراقية والسيادة وتوقيت جدولة انسحاب القوات الأميركية. لكن الخلاف الأهم هو الخلاف الإيراني الأميركي الذي يضع المالكي بين فكي كماشة. فمن جهة، إيران ترفض المعاهدة بشدة وصلابة، وتتمتع بنفوذ كبير على القوى الشيعية المختلفة، وتملك مفاتيح تقلب الأوضاع على المالكي بين ليلة وضحاها، أمنياً وسياسياً. سواء في التأثير على الائتلاف الشيعي وتماسكة أو في دعم التيار الصدري عسكرياً ومالياً. وعلى الجهة المقابلة، تمارس الإدارة الأميركية ضغوطاً كبيرة على المالكي للتوقيع على الاتفاقية، قبل نهاية تفويض مجلس الأمن للولايات المتحدة في العراق 31 كانون الأول/ديسمبر 2008، وإلاّ فإنّ الإدارة الأميركية مضطرة إلى الرجوع مرة أخرى الى مجلس الأمن للحصول على التفويض، وهو ما يضعها أمام ما تتجنبه من ضغوط دولية من قبل الدول الكبرى الأخرى بخاصة الصين وروسيا. وقد وصلت الضغوط الأميركية على المالكي الى ذروتها بتحذير رئيس هيئة الأركان الأميركية، مايكل مولن، للحكومة العراقية من"عواقب وخيمة"إذا لم تقرّ الاتفاق. والرسالة الرئيسة التي يمكن التقاطها من هذا التصريح تتمثل، في حدها الأدنى، بأنّ القوات الأميركية لن تساعد القوات العراقية لتأمين الأوضاع الأمنية، مع وجود تأكيدات أميركية على عدم استعداد الحكومة العراقية لاستلام الوضع الأمني بالكامل، مما قد يعيد العراق إلى المربع الأول. موازين القوى الإقليمية والمعادلات الداخلية لا تسمح للمالكي بشق عصا الطاعة حيال إيران، وفي الوقت نفسه فإنّ الكلفة السياسية كبيرة جداً لخسارة الإدارة الأميركية! والحال أنّ المخرج الوحيد له اليوم يكمن في لعبة"تبديد الوقت"والتحايل على الإدارة الأميركية في التوقيع على الاتفاقية، بمد حبال المفاوضات إلى حين الانتخابات الأميركية وقدوم إدارة جديدة، وإلى حين تتمكن من بناء أجندة عملية واضحة، فلربما تحدث متغيرات تساعد المالكي على الخروج من هذا المأزق. وتبعاً لجميع السيناريوهات"فإنّ الإدارة الأميركية مصرّة على عدم إجراء"تعديلات جوهرية"على الاتفاقية، بينما تصر إيران على رفضها بشدة. ومع استبعاد عقد صفقة إقليمية كبرى بين الطرفين فإنّ تضارب المصالح بين الولاياتالمتحدةوإيران سيفرض نفسه، ما يبقي المالكي أمام الخيارات الصعبة نفسها عاجلاً أم آجلاً. * كاتب أردني.