انطلقت في بغدادوواشنطن مطلع السنة مفاوضات يفترض ان تنتهي خلال ستة شهور بتوقيع معاهدة ثنائية بين البلدين ستركز على اقصاء الدور القانوني لمجلس الأمن كطرف تمر من خلاله العلاقات بين البلدين سواء تحت بند"دولة الاحتلال والدولة المحتلة"او"قوات عسكرية توجد بتفويض دولي". المعاهدة يفترض ايضاً ان تسد ثغرات قضية القواعد العسكرية الدائمة كونها تنهي عوائق القانون الدولي وممانعات بعض اعضاء مجلس الأمن حول انشاء قواعد عسكرية قبل انهاء حقبة الاحتلال ما يتطلب ايضاً إنهاء اشراف مجلس الأمن على متابعة الملف العراقي ضمن الفصل السابع من الميثاق الدولي. الرئيس الاميركي جورج بوش القى في جولته الأخيرة على دول المنطقة بعض الضوء على ترتيبات الإقامة الطويلة في العراق بالإشارة الى وجود قد يستمر عقداً من الزمن. وكان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس الأميركي وقعا اتفاق مبادىء أولياً نهاية تشرين الثاني نوفمبر يؤطر الشكل العام للمعاهدة المرتقبة. لكن اسئلة كبيرة سيقت في نطاق مناقشة هذا الاتفاق تتصل بشكل المعاهدة النهائي قبل تموز يوليو من العام المقبل. رئيس الوزراء العراقي اعلن انه حصل على توقيع كل الكتل السياسية الرئيسة على الاتفاق فيما نائب رئيس الجمهورية السني طارق الهاشمي أعقب"توقيعه"بملاحظات ارسلها الى السفارة الاميركية تتضمن ضرورة الاشارة الى حل المليشيات وعدم التأثير في معاهدات العراق الاخرى مثل معاهدة الجامعة العربية وتفعيل المصالحة الوطنية. وتضمنت النسخة المعلنة للاتفاق ثلاثة محاور أمنية وسياسية واقتصادية وهي تتطلب تعهدات، على الجانب الاميركي الالتزام بها. ففي الشق الأمني تؤكد الوثيقة ان"على الطرف الاميركي تقديم الضمانات اللازمة للحكومة العراقية بردع اي عدوان خارجي يطال العراق"و"مساعدة الحكومة العراقية في مساعيها الى مكافحة الجماعات المسلحة"ودعمها الحكومة في تدريب وتجهيز القوات المسلحة العراقية وتحديد آليات انتشار القوات الاميركية وضمان وجودها الى حين استكمال بناء القوى الأمنية وتحصين الحدود". سياسياً تتضمن الوثيقة تعهداً اميركياً بحماية"النظام الديمقراطي واحترام الدستور ومنع عمليات الانقلاب غير الدستورية"و"دعم الحكومة العراقية لتحقيق المصالحة الوطنية وتقديم الدعم الى العراق في المحافل الدولية وعلاقته بدول المنطقة والعالم". وعلى المستوى الاقتصادي تذهب الوثيقة ونتحدث عن النسخة المعلنة الى ما يشبه"الزام"الولاياتالمتحدة تقديم"المساندة الى العراق في اطفاء ديونه واسترداد امواله المنهوبة وانعاش اقتصاده"بل و"تشجيع الاستثمارات الاجنبية والحصول على شروط تفضيلية لتصدير سلعه العراق الى اميركا". لكن ماذا سيقدم العراق في المقابل؟ هذا التساؤل ربما سيطول الحديث عنه في ضوء جملة حقائق. فالمعارضون يأخذون على اية معاهدة بين العراقوالولاياتالمتحدة ابرامها من دولتين غير متكافئتين على مستويات. وعلى رغم ان الحكومة العراقية ترد هذا الاعتراض بوجود معاهدات على هذه الشاكلة موقعة بين دول غير متكافئة عبر العالم، فإن المعارضين يعودون للتاكيد ان القوة الاقتصادية او السياسية ليست مربط الفرس بل في توقيع اتفاقية بين دولة احتلال ودولة محتلة بصرف النظر عن الصفة القانونية للقضية. وهذا الطعن يستمد اصوله من واقع دولي وحقائق سياسية وعسكرية على الارض على رغم تأكيد الحكومة العراقية ان"القوات الاجنبية موجودة اليوم بإرادة عراقية". والسلوك الطبيعي لأي دولة احتلال عبر التاريخ يذهب الى تكبيل الدولة المحتلة بالمعاهدات والالتزامات غير المتكافئة ولم نعرف احتلالاً انتهج سلوكاً مغايراً. وبصرف النظر عن نيات الاطراف العراقية التي وافقت على بحث عقد اتفاقية بعيدة المدى مع الولاياتالمتحدة قبل انهاء احتلالها للعراق رسمياً وقانونياً وفعلياً"وليس بعده"فإن الخطوة في دلالاتها تنذر بتعقيد الموقف العراقي بدل ضمان استقراره. المدافعون عن المعاهدة مع الولاياتالمتحدة يعتبرون ان العالم تجاوز منذ عقود حساسيته المفرطة ازاء مفهوم"السيادة المطلقة"وتوجه الى التعامل الواقعي مع معطيات العالم الجديد الذي يضمن لأصدقاء اميركا ما لا يضمن لأعدائها. ويمضي المدافعون للتأكيد ان المعاهدة تعد مكسباً للعراق بأي شكل كانت وان دولاً اخرى تمنح الولاياتالمتحدة اكثر مما تمنحه هذه الاتفاقية على رغم عدم توقيعها معاهدات مشتركة معلنة. والحق ان اتفاق المبادىء الذي اعلنت نسخة منه لا يشير من قريب او بعيد الى أي تنازلات عراقية ما يثير التساؤل في شأن جدية النسخة المعلنة كونها لا تستوي مع السلوك السياسي لأي دولة ناهيك عن كونها دولة احتلال. الحكومة العراقية اكدت مراراً ان قضية القواعد العسكرية الثابتة لم تبحث في ضوء اتفاق المبادئ ما أيده البيت الابيض على رغم ان أياً من الطرفين لم يشر الى ان مسألة القواعد لن تكون في جدول اعمال المفاوضات حول المعاهدة الدائمة. وفي موضوع القواعد العسكرية كما في قضية التعامل مع الوجود العسكري المباشر في العراق عملت الإدارة الاميركية بعد قراءة اكثر عمقاً للواقع السياسي والاجتماعي العراقي لمحاولة فرض الوجود العسكري الاميركي كأمر واقع يستمد ضرورته من الفصل الطائفي والعرقي المستمر والمنتج. فعلى الارض تتحول القوات الاميركية الى"حكم"بين متنازعين عراقيين والى قوة فصل نزاعات لا تنقصها سوى"القبعات الزرق"فيما تجهد لتكون"القواعد الاميركية"مطلباً للقوى الرئيسة في البلاد بدل ان تكون مطلباً اميركياً. والاصل في هذه الحكاية ان التصنيف الطائفي والتعقيدات التي تأسست عليه ترك جميع الاطراف في موقف"الضعف". فأحزاب السلطة الشيعية لن تضمن سيطرة بعيدة المدى على الاقل داخل المدن الشيعية التي يراد لها ان تعلن كإقليم فيديرالي من دون دعم اميركي يلجم التيارات الثائرة والمتعطشة للسلطة والمال والدور السياسي والديني. وابعد من هذا ان تلك القوى اخذت تبتعد تدريجاً عن الموقف الايراني في ضوء ادراك اولي ان تدخل ايران لقلب معادلات التنازع في العراق طائفياً وسياسياً يندرج في نطاق مصالح ايرانية استراتيجية تخص صراعاً طويل الامد مع الولاياتالمتحدة فيما الأخيرة لن تسمح بإقليم شيعي ينطلق بمباركة ايرانية. وفي المقابل فإن تنظيم"القاعدة"بآليات عمله"السرطانية"سيكون مستعداً دائماً للقفز الى الواجهة"السنية"في حال خلت من الدور الأميركي بموازاة تحول"دراماتيكي"في المزاج السياسي السني الذي وجد في القوة الأميركية ضامناً لمنع"ابتلاعه"على يد القوى الكردية والشيعية وهو ضمان فشلت الدول العربية في تحقيقه طوال سنوات الاحتلال. والتصدع في المرجعيات والقوى السياسية والعسكرية السنية يشكل من جانب آخر عامل دعم لتحالف اميركي - سني في العراق اثبتت تحالفات العشائر والقوات الاميركية جدواه على الارض ومهدت زيارة شيوخ"الصحوات"الى واشنطن له بحديث مسهب عن اقليم لا ينقصه النفط والامكانات الاقتصادية والبشرية غرباً. وشمالاً تتسمر"التجربة الكردية"في مهب رياح الجار التركي الذي لن تقوى قوة غير اميركا على"فرملة"تهديداته بنسف الإنجاز الكردي التاريخي ب"شبه دولة شمال العراق"ناهيك عن مشروع قومي واسع وطموح لإحياء"كردستان الكبرى"سيكون من المستحيل الشروع في بلورته من دون الانضمام الى الصف الأميركي المتحفز لتغيير في خريطة منطقة الشرق الاوسط برمتها. صناع القرار في واشنطن خلصوا بعد تجربة الأعوام الأربعة المريرة الى ان التعقيد العراقي سيفرز من جانبه الاكثر عتمة حلولاً اميركية دائمة والقواعد العسكرية لن تشكل هاجساً في ضوء حاجة الاطراف العراقية الى وجودها. النقطة الاكثر حيوية في الاتفاق الثنائي تتمثل بطلب عراقي أن يكون تجديد ولاية القوات المتعددة الجنسية في العراق هو"الأخير"ولمدة عام واحد والعمل على إخراج الوضع العراقي من البند السابع لميثاق الأممالمتحدة الذي دخله من عام 1990. والتمديد لولاية القوات المتعددة الجنسية اتخذ طابعاً روتينياً منذ اصدار القرار 1546 في حزيران يونيو 2004. وكان ذلك القرار الخاص بتشكيل حكومة ذات سيادة وانهاء حالة الاحتلال قد مهد لتناقض في مجمل الوضع القانوني العراقي بدأ بغزو اميركي خارج الشرعية الدولية تبعه اصدار القرار المرقم 1483في 22/ 5 / 2003 والذي اعترف صراحة بالاحتلال قوة على الارض وفوض القوات المتعددة الجنسية صلاحيات ادارة شؤون البلاد . ابعد من ذلك، حاول القرار ضمناً تجنيب الولاياتالمتحدة التبعات القانونية والاعتبارية والاقتصادية التي ترتبت على احتلال كشفت السنوات اللاحقة كذب المبررات التي سيقت له اميركياً وبريطانياً. قرار مجلس الامن هذا كان سبقه طلب من"مجلس الحكم"العراقي آنذاك تمهيداً لتشكيل الحكومة الموقتة. وخيط الربط بين القضيتين هو في ان طلب مجلس الحكم في حزيران 2004 يشبه الى حد بعيد طلب الحكومة العراقية الحالية اخراج العراق من البند السابع عام 2008. فإبقاء العراق داخل البند السابع من الميثاق الاممي حتى بعد عام 2003 كان يشكل اعترافاً ضمنياً بالاحتلال كون كل القرارات التي صدرت بعد ذلك التاريخ تدخل في البند نفسه وتعد ملزمة لجهة علاقتها بمفهومي"دولة الاحتلال"و"الدولة المحتلة"على ما شاب هذين المفهومين من غموض في صياغات القرارات الدولية ذات الصلة. القرار المفصلي 1483 الذي تقدمت به الولاياتالمتحدة وبريطانيا كان انهى ايضاً حالة الحصار عن العراق ماعدا قرارات التسليح العسكري ذات العلاقة بأسلحة التدمير الشامل لكنه وضع في المقابل العراق تحت رعاية مجلس الأمن لجهة الحسابات النفطية والقرارات الخاصة بوحدة اراضيه وسلامتها. والنقطة المنهجية الأخيرة بحسب المعارضين لخطوات الحكومة العراقية هي الأكثر قرباً في تفسير السعي الاميركي الى اخراج العراق من البند السابع ما يرفع عملياً تبعات تسليحه وينهي التعهدات حول وحدته وسلامة اراضيه. كما ان ابقاء العراق في نطاق ولاية البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة سيعني بالضرورة استحالة عقد معاهدة خاصة وطويلة الأمد بين العراقوالولاياتالمتحدة من دون تدخل مجلس الأمن ولو على المستوى الشكلي إضافة الى انه سينهي الجدال القانوني حول حقيقة السيادة العراقية. اضف الى ذلك ان معاهدة تقر علاقات خاصة على اتساع مفهوم الخصوصية وغموضه بين العراقوالولاياتالمتحدة لن يروق لمراكز قوى نامية بمواجهة التفرد الأميركي خصوصاً روسيا والصين وفرنسا داخل مجلس الامن ودول اخرى خارجه ولها تاثير في القرار العراقي مثل منظومة الدول العربية وايران وتركيا. اما التجديد لولاية اخيرة مدة عام فانه سينهي عملياً علاقة المنظمة الدولية بأي طلب جديد من الحكومة العراقية بوجود قوات عسكرية اميركية على اراضيها ويدخله في نطاق العلاقات الثنائية والمعاهدات العسكرية بين دولتين ذات سيادة. وعلى ذلك فإن إقرار"الاتفاقية الثنائية"وأيضاً"المعاهدة طويلة"الامد يرتبط جوهرياً بإخراج العراق من البند السابع وفك ارتباط وجود القوات الاميركية بقرارات الأممالمتحدة مثلما ان كلاً المطلبين مرتبط بتطورات الشأن الداخلي الاميركي. فطموح الديموقراطيين المعارضين للحرب والمستندين في حملاتهم الانتخابية الى فشلها وسوء ادارتها لنيل منصب الرئيس بعد اجتياحهم الكونغرس سيتم معالجته موضعياً بتطور"استثنائي"وسريع لمجمل الازمة العراقية يضمن اعلان نتائج الحملة الأميركية ضد هذا البلد بقائمة طويلة من"الإنجازات"تبداً بفرضية انهاء تهديد"القاعدة"في ساحة الصراع الرئيسة معه، العراق وتنتهي بعقد اتفاقية تضمن المصالح الاستراتيجية الأميركية وضمان حليف مقرب ومطيع جديد داخل منطقة الشرق الأوسط ذات التضاريس السياسية والإيديولوجية المعقدة والمنتجة للأزمات والتهديدات. الترتيبات الأميركية في العراق تسبق نهاية ولاية الرئيس الاميركي جورج بوش الابن الذي قاد حقبة تاريخية معقدة ومأزومة في التاريخ الاميركي الحديث ومثل صعوداً لافتاً لطبقة المحافظين الجدد العاملة على توسيع نطاق التدخل الخارجي الأميركي في مقابل عودة لافتة افرزتها الحرب على العراق لنظرية تتماهى مع الفلسفة الانعزالية العميقة الجذور اميركياً. وكرة"الحرب على العراق"يراد لها ان تتدحرج خلال الاشهر الثمانية المقبلة من ملعب الديموقراطيين الى ملعب الجمهوريين. لكن مجمل الخطوات الأميركية الاخيرة لن تكون مضمونة على الارض العراقية المتحركة، فالانتقال من"دولة محتلة"الى"دولة صديقة"ليس يسيراً بقياس الوعي الجماعي للشعوب ولايمكن حسمه بأشهر أو سنوات مثلما ان الترتيبات المستعجلة والطارئة التي ستضمن تثبيتاً مفترضاً لشكل الحكم الحالي في العراق بقواعده المتناقضة وآليات عمله المنتجة للصراع الداخلي لن تقود بالضرورة الى شطب حقبة الاحتلال بتداعياتها والتزاماتها ونتائجها من المشهد السياسي الدولي المعاصر. وبالحديث عن الشق العراقي من المعادلة فإن"اتفاق المباديء"لم ينص على جملة"ضمان وحدة العراق"التي تحولت الى نص تقليدي في قرارات الأممالمتحدة ويقول المطلعون ان هذه الجملة استعيض عنها بجملة تنص على"احترام الدستور وصيانته باعتباره تعبيراً عن ارادة الشعب العراقي، والوقوف بحزم امام اي محاولة لتعطيله او تعليقه او تجاوزه"باعتبار ان ضمان وحدة العراق نص دستوري فيما ان النص الدستوري يشير ايضاً الى تشكل العراق عبر"اتحاد اختياري"بين مكوناته، والدستور العراقي برمته معرض لتغييرات ومراجعات.