يتميز الحضور السينمائي في المغرب بوجود فترتين مختلفتين تماماً لكل منهما خصائص معينة. الأولى انتهت بانتهاء الحماية الفرنسية، والأخرى التي تلتها ترتبط بعهد ما بعد الاستقلال، لكن لا يزال يسكنها هاجس التأسيس الفعلي. سينما الحماية يؤكد معظم الباحثين والمهتمين أن المغرب عرف السينما منذ بداياتها الأولى. وذلك حين أرسل الفرنسيان الأخوان لوميير، مخترعا السينما، مصوراً إلى البلد لالتقاط ما يكون جذاباً ومثيراً، ويستحق الخلود في شريط سلولويد. بدا هذا كانخراط فعلي في إحدى علامات القرن الماضي، من دونه كان الأمر سيبدو تجاهلاً عصياً لذاكرة صورية توثيقية لمغرب أواخر القرن التاسع عشر، وذلك لكونه كان سيضع المغرب كبلد وحضارة وتاريخ في مصاف بقاع أخرى لم تكن لها هوية خاصة أو حضور مميز في الرقعة الجغرافية العالمية. فالسينما ترسخ الوجود كما يعلم الجميع. إلا أن هذا الدخول الحاسم في حقل فني جديد ويحبل بشتى الإمكانات الإبداعية، وسم السينما في المغرب بسمة طبعتها طويلاً، ولا تزال تفعل إلى الآن بعد أن صار المغاربة يصورون أفلاماً ويخرجونها ويكتبونها، وبعد أن حصلوا على ثقافة سينمائية مستنيرة. إنه طابع الانجذاب نحو التراثي والغرائبي ونحو المختلف وغير العادي في ذهن من صوروا في البداية. والحق أن الأمر له ما يبرره. فقد كان المغرب حينذاك يعيش قرناً أوسطياً والحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فيه بعيدة من روح العصر ومستجداته والثورات الكثيرة التي كانت تخلخله. كان المغرب يعرف سطوة الجمود والتحجر والانغلاق. الشيء الذي جعل الساكنة ومحيطها يسبحان في مجال حيوي يثير العين الغربية، ويذكرها بما تعرفه مأثوراً في كتب الشرق العتيقة وإبداعاته مثل"ألف ليلة وليلة". فكان المغرب الذي التقطته عدسة الكاميرا ممثلاً بالجلباب الفضفاض والرؤوس الحليقة والدروب الضيقة والوشم في الوجوه وحركة الدواب ودكاكين الحرفيين، كان مغرب الفانتازيا والمداشر والجبال وكل ما هو عتيق قديم أسطوري، حتى أنه كان بلد"الكثبان، الرمال، الصومعة، المرأة الملثمة، القائد صاحب النظرات الدموية والخطيبة البيضاء البشرة سجينة الحريم..."بحسب ما كُتب وقتها بخصوص أحد الأفلام المصورة آنذاك. لذا لم يكن غريباً أو مقحماً أن تسلم السينما المنتجة في المغرب بعد استتباب الأمر للحماية الفرنسية من هذه الألوان والأشكال والألحان والأصوات والنماذج البشرية الغارقة في طابعها القديم. هذه التي ولدت ما سمي في ما بعد بالسينما الكولونيالية الاستعمارية. وذلك ابتداء من عام 1919 حين أخرج أول فيلم وهو"مكتوب". ثم تلته سلسلة من الأفلام ناهزت 77 فيلماً. لم يكن غرض هذه السينما في الأصل التعريف المجرد الفاهم للمغرب أو الإشادة به وبخصوصياته الحضارية وثقافته وناسه. كانت سينما ينتجها فرنسيون يعيشون في البلد، وهذا الأخير كان واقعاً فعلياً لا يمكن تجاهله. هو الديكور الأساسي وهو المانح للخلفية التصويرية. إضافة إلى أن على السينما أن تلعب الدور الثقافي الدعائي والتحريضي الموجه لإظهار الفرنسي المحتل كإنسان حامل للحضارة وليس مستعمراً ناهباً للخيرات ومستغلاً للأهالي. كما أن جهل هؤلاء سيساعد على ترسيخ هذه الرؤية الاستعمارية بفعل جاذبية الصورة ومستوى قراءتها الأولي المفهوم من جانب الجميع. وهكذا تم نقل حكايات مغربية إلى الشاشة الكبيرة سواء تلك المأثورة والمتناقلة شفاهياً أو تلك المختلقة والمكتوبة للضرورة"السيناريستية". هذا من جهة. من جهة أخرى تم اختيار مجموعة من الأشخاص المغاربة لأداء أدوار معينة تشخيصية أو أدوار مساعدة في الجانب التقني، حاضرة في الفيلم الكولونيالي لإعطاء الاعتبار للآخر الفرنسي في أدواره الطلائعية، ولإعطاء الانطباع بأن الأمر مساهمة وفعل إرادي، وبأنه ينم عن سعة صدر وقبول تام. جل الأفلام الكولونيالية أبدت هذه الصورة العامة مع اسثتناءات معدودة. إن هذه الصورة السلبية لا يجب دفعها كلها وتحقيرها حالياً بعد مرور الزمن. فهي جزء مسجل روائياً من مشاهد مغربية. سجل توثيقي في أقل الأحوال مهم ومجدٍ تاريخياً وسوسيولوجياً وثقافياً، فيه الكثير مما لا يرضي والذي يخدش الكبرياء المغربية وعزة نفسها وكرامتها. لكن التحليل والدرس يفترضان التجرد لفهم أجواء وحالات مغربية سالفة نجهلها. فليس التاريخ إيجابياً كله وما يصدق على مجالات أخرى سياسية في الدرجة الأولى يصدق على السينما أيضاً. بخاصة أن الكم المنتج خلال هذه الفترة، إلى حدود 1955، كم مهم كما أسلفنا قوله وكان بعضه ناطقاً بالدارجة المغربية. سينما الاستقلال جعل ذهاب الفرنسيين الإنتاج الفيلمي يتوقف لمدة طويلة. فقد كان المغرب يشيّد مؤسساته، ويعيش مخاض تسيير الذات، وتصفية الإرث الاستعماري. الشيء الذي جعل النشاط السينمائي يتجلى فقط في مؤسسة المركز السينمائي المغربي. لكن الإنتاج الأجنبي الذي لم ينقطع، والعدد الهام من القاعات السينمائية. والإنتاج الفيلمي كان موزعاً على تصوير بعض الأشرطة القصيرة والأشرطة الوثائقية والأفلام الإخبارية. وكان أول عمل قصير مغربي صرف هو الذب وقّعه العربي بنشقرون"صديقتنا المدرسة"وذلك عام 1956. أما الإبداع الفيلمي الحقيقي فكان غائباً إلى حدود 1968. وهكذا مرت السينما بفترة غياب طويلة سكن فيها هاجس خلق سينما وطنية بعض أذهان أشخاص قليلين تكونوا سينمائياً في الخارج واحتاجتهم الدولة لتسيير دواليبها السينمائية المذكورة آنفاً. لكن اللافت كان عدم وجود نزوع قوي لزرع بذرة سينمائية مغربية موجهة الى الجماهير سواء كانت تجارية أم إبداعية خالصة. أعمال قصيرة هي الغالبة لا يمكن بحال من الأحوال أن تمنح صفة سينمائية يعتد بها. كأنما السينما ليست سوى ترف زائد. والحال أن الثقافي عموماً كان يتميز بالندرة وبطابع التأسيس. وسيعرف عام 1968 إخراج أول فيلمين مغربيين مطولين من إنتاج المركز السينمائي المغربي هما"الحياة كفاح"لمحمد التازي وأحمد المسناوي وپ"عندما يثمر النخيل"لعبدالعزيز الرمضاني والعربي بناني. لكن الملاحظ أنهما لم ينتجا تبعاً لسياسة فنية ثقافية مدروسة ومقررة، بل من أجل المشاركة في مهرجان السينما المتوسطية الذي احتضنته مدينة طنجة وقتها. لم يكن من المعقول أن ينظم بلد مهرجاناً من دون أن يشارك فيه. هذا التذبذب هو الذي سيشكل علامة فارقة في الفن السابع في المغرب. فالأفلام لا تنتج وتخرج إلا بحسب رغبات أصحابها أو تبعاً للصدفة. وقد استمر الحال حتى حدود عام 1980 الذي سيشكل فيه صندوق دعم الإنتاج السينمائي، مما سيمكن المخرجين من العمل في شكل متواتر نسبياً، لكن من دون أن يترسخ الإنتاج ويقوى فنياً وجماهيرياً إلا بعد سنوات، أي بعد عام 1995 الذي عرف تغييراً أساسياً في صندوق الدعم، وفي أسلوب تقديمه، وبعد ظهور ما يسمى بالإنتاج المشترك مع دول غربية. سينما المخرج تتميز السينما المغربية بكونها غير ذات ملمح واحد يجمعها ويعلن عنها. إنها سينما أشخاص يتوقون للحصول على صفة المخرج المبدع قبل كل شيء. وربما تحت تأثير التكوين الثقافي الفرنسي الغالب أو الأوروبي الشرقي. فقد نحت المغاربة سينما في أجواء يطبعها طغيان ثقافة سينمائية يسارية أو متياسرة وثقافة متأثرة بالنظريات الأدبية والفنية التي كانت سائدة في السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي. في الوقت ذاته قام مخرجون آخرون بتجريب سينما على الطريقة المصرية كعبدالله المصباحي وحسن المفتي. كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تترك أثراً يذكر في ذهن الجماهير أو النخبة باستثناء أفلام قليلة مثل"وشمة"لحميد بناني أو"عرائس من قصب" للجيلالي فرحاتي. وحتى في ما بعد، حين تحقق السينما طفرتها الجماهيرية نسبياً سيظل المخرج سيد الموقف وصاحب المبادرة الكلية، على رغم كون النزعة التثقيفية السابقة لم تعد هي المتحكمة في عقول السينمائيين بعد أن أثبتت فشلها. وذلك كيفما كان النوع السينمائي المنجز: كوميديا شعبية مثل"البحث عن زوج امرأتي"لعبدالرحمن التازي وپ"عبدو عند الموحدين"لسعيد الناصري، أو فيلم اجتماعي مثل"نساء ونساء"لسعد الشرايبي وپ"الراقد"لياسمين قصاري، أو فيلم حميمي سياسي مثل أفلام عبدالقادر لقطع أو الأفلام الغرائبية كالتي أنجزها مصطفى الدرقاوي أو أفلام حكيم نوري الحرفية ذات القبول الواسع، أو في الأخير أفلام الشباب الجدد مثل نبيل عيوش وداوود أولاد السيد وجمال بلمجدوب ونرجس النجار ونور الدين لخماري وغيرهم... السينما المغربية سينما المخرجين وليس المؤسسة أو الدولة على رغم أنها المساهم الأكبر في انتاجها، فهي لا تسطر نوعاً سينمائياً معيناً أو مضامين محددة. وهذا الأمر لا يجعلها تحظى بالاستمرارية المرجوة بحيث تظل رهينة إبداع أشخاص فقط، ورهينة التمويل الخارجي المكمل. ويوم يتم التفكير في إشراك أكبر للكل وتحفيز أصحاب الأموال للاستثمار فيها سيكون لها حضور، ستكون بالفعل سينما مغربية مئة في المئة.