لا جدال في أن تعامل أنقرة مع المسألة الكردية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية يشهد تطورا جذريا، من ملامحه أن عددا متناميا من الاتراك - تحديدا سياسيين ومعلقين وأكاديميين، بل ربما عسكريين أيضاً - بات اليوم يتبنى الدعوة الى ضرورة التمييز بين هذه المسألة وحزب العمال الكردستاني. أحد كبار المعلقين، محمد علي بيراند، كتب قبل ايام في عموده اليومي صحيفة"ميليت" أن عدم التمييز بين الإثنين منع الحكومات المتعاقبة من"اتخاذ الاجراءات اللازمة لتجفيف المستنقع"، إذ ركزت بدلا من ذلك عبثا على"مواجهة البعوض"في مسعى دائم الى"إنهاء حزب العمال الكردستاني قبل تحقيق الاصلاحات". لكن طالما استمر الفشل في انتاج مثل هذه الخطوات فان"مواطنينا من ذوي الأصل الكردي سيستمرون في تقديم الدعم لارهاب حزب العمال الكردستاني، وبالتالي نبقى عاجزين عن الخروج من هذه الحلقة المفرغة"، بحسب المعلق التركي. الحلقة المفرغة - الأزمة هذه ظلت حادة منذ تفجر النزاع المسلح بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي في منتصف الثمانينات، الأمر الذي أحبط في النهاية مساعي سابقة من اجل تحقيق اصلاحات سياسية ? اجتماعية ? ثقافية على الصعيد الكردي، على رغم ان بعض هذه المساعي كان جديا كما في حال الرئيس الراحل تورغوت أوزال في مطلع التسعينات. والجهود التي بدأها أوزال وأُحبطت لاحقا تزامنت مع نشوء علاقات مميزة وخاصة رعاها أوزال شخصياً، بين أنقرة والقيادة الكردية في العراق. ولم يكن هناك مفر من حدوث تشابك بين هذه العلاقات والوضع الكردي في تركيا نفسها، خصوصا بعدما اكتسب اقليم كردستان العراق وضعا شرعيا يكفله دستور العراق الجديد. والتوترات المتفجرة بين الحين والآخر بين انقرة وأربيل هي من بعض تبعات هذه التحولات. من المؤكد أن تحقيق إصلاحات لمعالجة المسألة الكردية في تركيا من شأنه ان يزيل بؤرة التوتر ويضع العلاقات بين تركيا وكرد العراق على مسار جديد يخدم مصلحة الطرفين. بعبارة اخرى إن بقاء أنقرة في حلقة مفرغة بسبب عجز النخبة التركية عن التمييز بين حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية لا يخدم مصلحة كرد العراق والعلاقات بين انقرة وأربيل. في المقابل، وهنا المفارقة، هناك تيار من النخبة الكردية في العراق يعاني عجزا مماثلا عن التمييز بين حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية، وبالتالي فإن موقف هذا التيار يُدخل أقليم كردستان أيضا في حلقة مفرغة ويمنع إزالة التوتر في العلاقات بين الإقليم وأنقرة. إن التعاطف الذي يشعر به كرد العراق تجاه كرد تركيا أمر طبيعي باتت تتفهمه أنقرة في عهد حزب العدالة والتنمية. لكن إذا كان يمكن أنقرة أن تتفهم تعاطف كرد العراق مع كرد تركيا فإنها، من وجهة نظر الأمن القومي للدولة، تتوقع من جيرانها الامتناع عن دعم حزب تعتبره ارهابيا وتحوض حربا ضده، خصوصا إذا كان هذا الحزب يتخذ جزء من أراضي هؤلاء الجيران ملاذاً وقاعدة لشن الهجمات. طبعا ليست هذه دعوة الى أن يعلن اقليم كرسدتان العراق الحرب على حزب العمال الكردستاني. حتى أنقرة لم تعد تطالب سلطات الاقليم بمثل هذا الموقف، فهي تؤكد ان المطلوب هو العمل الجدي من اجل منع حزب العمال من استخدام اراضي الاقليم. وهذا ما أكده مجددا المبعوث التركي الخاص الى العراق مراد أوزجيلك على رأس وفد ضم البروفسور أحمد داوود أوغلو مستشار رئيس الوزراء طيب رجب اردوغان للسياسة الخارجية إثر محادثات أجراها في بغداد قبل أيام مع رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني. وزيارة الوفد التركي الى بغداد خصوصا للقاء بارزاني تُعتبر مؤشرا واضحا الى تقارب جديد بين أربيل وأنقرة. ويتوقع أن تتبع هذه الزيارة خطوات عملية أخرى لوضع آليات للتعاون بين الطرفين. الى ما سلف نضيف أنه في غضون ذلك أخذت محرمات كثيرة تتساقط في تركيا إن لجهة التعامل مع الشأن الكردي أو مع الجيش التركي الذي ظل فوق الانتقاد... حتى الآن. قادة الجيش تعرضوا لانتقادات قوية في الصحافة التركية التي وجهت اتهامات لقادته بالتقاعس في حماية الجنود وفشل قيادة الجيش في الانفاق على تعزيز القواعد الحدودية بينما أطلقت التمويل بسخاء لتشييد ملاعب للغولف في عدد من المعسكرات. هذا على صعيد الجيش. أما على الصعيد الكردي فكشفت صحف تركية عن اتصالات قام بها مسؤولون اتراك كبار مع عدد من زعماء حزب العمال الكردستاني. رئيس تحرير صحيفة"حريت"إرتوغرول أوزغوك مثلا كتب عن لقاء في حينه بين عدد من كبار الصحافيين الاتراك مع المدير العام لوكالة الاستخبارات الوطنية ميت إمري تانر كشف فيه الأخير أنه التقى زعيم حزب العمال عبد الله اوجلان في سجنه في مسعى من اجل اقناع مقاتلي الحزب بالقاء السلاح. المعلق السياسي فاتح جيكيرغه نقل عن تانر قوله انهم في الجهاز مستعدون للحديث"حتى مع ثعبان"إذا كانت المصلحة تستدعي ذلك. واضافة الى"الثعبان"أوجلان اشار أوزغوك الى"ثعبانين"آخرين هما مراد قره يلان القائد العسكري للمقاتلين في جبال قنديل وزبير أيدار حيدر المسؤول عن الحزب في اوروبا. الخلاصة أن هناك عقلية مختلفة اليوم في أنقرة لجهة التعامل مع المسألة الكردية داخليا، وأن لكردستان العراق مصلحة أكيدة في اقامة علاقة مميزة مع تركيا. وبالتالي فان العمل من اجل هذه العلاقة يخدم مصلحة الكرد في تركيا ايضا. وقصارى الكلام أن هذا الطرح بدوره يجعل حزب العمال الكردستاني خارج الصدد، ومن حق القيادة في كردستان العراق أن تتصرف على هذا الأساس.