كان نحيلاً، من غير غرام من الشحم، شأن حياته أو كتابته. وكان يحسب نفسه قبيحاً، على رغم شفتيه الشهوانيتين وعينيه القاتمتين، وكلاهما كان يوقد ما يشبه الحريق الذي يُلاحظ في اللواتي والذين ينشدون حد ما لا حد له فيهم. فكان وسيماً"وسامة القبيحين"، على قول غانسبور. وكان لا مثيل له وهو يغني، ما عدا إديث بياف، طبعاً. فهو، مثلها، حدِّيته حين يغني هي جسده كله، البنية المتداعية، والذراعان اللذان يلوح بهما في الاتجاهات كلها، واليدان اللتان ترويان النساء والمسنين والبورجوازيين والأغبياء والقذرين والحالمين والبحارة والعشاق وغير المتحابين، الجسد الملتوي، ومشية النوامي، وشرارات المسخراتي، واجتراحات صاحب الإيماء. والى هذا كله طاقة يحسب معها أنه إذا يبلله العرق من رأسه الى أخمص قدميه، منذ الأغنية الثالثة، فهو مخادع أو كذاب. والخداع ليس من شيمه. وقبل 30 عاماً، في 10 تشرين الأول اكتوبر 1978، توفي جاك رومان جورج بريل، المولود في شاربيك ببلجيكا، بسرطان الرئتين في الساعة العاشرة والدقيقة العاشرة صباحاً، في ليلة الأحد الى الاثنين، بالمستشفى الفرنسي الإسلامي ببوبينيي، ضاحية باريس الشمالية، وهو في التاسعة والأربعين من العمر. وهي سن مبكرة على من ينشد"الضحك، والبكاء، واللهو على شاكلة المجانين، حين أوسد الحفرة". فلا عجب إذا احتفلت الصحافة والتلفزة والإذاعة والكتاب سيرته بقلم أوليفييه تود بالمثال الفريد هذا. فهو كاتب نحو مئة أغنية ومغنيها، والفنان الذي لا ينسى الذي كانت حياته جملة مدهشة من العلاقات. فبريل هرب من الشرنقة العائلية، وتخلى عن خلافة والده على رأس معمل الكرتون. واتخذ الغناء حرفة، وغداة 15 عاماً من النجاح، طلق الخشبات، وانقلب ممثلاً سينمائياً. وترك السينما الى المنفى، وتقلب بين الإبحار وقيادة الطائرة والمغامرة في إحدى جزر المحيط الهادئ. وهذه وجوه من شرهه الى الحياة والى الاختبارات الجديدة، هو ملتهم الليالي والصداقات والأهواء، والمترجح، والسرطان ينهشه، بين طعم العيد والجنوح الى الاكتئاب، الساعي المزمن في بلوغ"نجمة ليست في المتناول". وداعيه الى طي الصفحات هو رغبته في"المشاهدة من قرب"، على قوله. والاحتفال بذكرى بريل قد يحمل عليه الحنين الى"أيام حلوة"مضت، أو احتساب بعض الشعراء المتبددين والماضين جزءاً من تراث ليس احياؤه عبثاً. فالحاضر، قياساً على ماضٍ يشخصه بريل، لم يجد على الجمهور بمغنين يضارعون بريل قوة تأثير في اللاشعور الجمعي. والحق أن السؤال عن الباعث على تكريم الرجل لا مسوغ له في الحال هذه. فالعمل الذي خلفه استثنائي، والرجل فريد في بابه، وحياته رواية غنية. وحين يجتاز كاتب، وبريل كاتب أغانٍ وشاعر حقيقة، عتبة المحادثة اليومية بين الناس، فهذا قرينة على دخوله حلقة ضيقة من مصادر الشواهد المتداولة. فمن قولته أو شاهده:"لا ننسى شيئاً أبداً وكل ما في الأمر أننا نعتاد الغياب"، الى شاهده الآخر:"ها أنا جئتكم بالبون بون"، وبينهما:"لا ليتني ساعة واحدة، ليس إلا ساعة، جميل وعبيط معاً". فهو، في شواهده هذه، رفيق مغنين آخرين كبار مثل ترينيه "ماذا بقي من عشقنا"، وبراسينس "كان اسمهم الصحب أولاً"، وبيكو "وماذا عساي أفعل الآن؟"، أو رفيق آخرين، أعلى رتبة، مثل لافونتين وموليير. الشاعر المتنازع، والساخر الجارح، وخادم العشق، وصاحب الآراء السياسية الخارج على الإجماع، لم يخشَ يوماً وصمه بالمثالية، وصاحب الميل الفردي تنازعته الفوضوية والمشاعر الإنسانية السخية. ومن المحال حصره في خانة، وهذا مدعاة شك وتهمة. ولم يحل هذا بينه وبين بلوغ"الجمهور العريض". وخلّصه صديقاه ورفيقاه، فرنسواز روبير، الموزع الموسيقي البارع، وجيرار جووانيه، عازف البيانو، من قيثارته وحملها. فتخفف منها، وأطلق العنان لإيماءاته وتشخيصه. فرسم بجسده كله، يديه وذراعيه وكتفيه ورأسه ووجهه، الصور، وحاكى الأخبار، وأيقظ الظلال. فبدت طبيعته على مداها الواسع، وقوة مبالغاته وإفراطه. فكتب مودعاً الحياة، في جزيرة ضائعة من جزر ماركيز في المحيط الهادئ، من غير أن يخشى السخافة:"أتريد أن أسرّ لك: الشكوى غير لائقة بالشاكي في جزر ماركيز"، ولو كان الشاكي جلداً على عظم، ويعد العدة"للموت ووجهه الى السرطان، نزولاً على قضاء الحكم"، راضياً وحزيناً لتركه زرقة السماء والمحيط التي كانت تملأ روحه المتعطشة الى الصفاء. عن فيليب لابرو،"لوفيغارو"الفرنسية، 6/10/2008