كان من الطبيعي أن يلتقيا في مناسبة واحدة، فكلّ منهما ترك بصماته السحريّة على السجلّ الذهبي للأغنية الفرنسيّة. أما مناسبة اللقاء فهي ذكرى رحيلهما التي تصادف في الشهر نفسه. هذه الأيّام تحتفي باريس بعلامتين مضيئتين في ذاكرتها الثقافيّة، وإثنين من عمالقة الأغنية الفرنسية: جاك بريل وإديت بياف. الأوّل خطفه السرطان عن 49 عاماً، في مثل هذا الشهر قبل ربع قرن، بعد سنوات من الصمت والألم أمضاها في جزر الماركيز، يغنّي الحسرة ويتحدّى أصدقاءه وأعداءه وعشّاق حبيباته أن ينسوه بعد رحيله. إنّه جاك بريل، المغنّي البلجيكي الذي غنّى "وطنه المنبسط"، هو الفلمنكي الأصل، الذي دافع عن الهويّة الفرنكوفونيّة، وهي ليست المفارقة الوحيدة في مسيرته القصيرة. والثانية هي إديت بياف ببساطة، أكبر مغنية فرنسيّة خلال القرن الماضي، شهرتها جعلتها خير سفيرة لبلادها في العالم. وقد شبّهتها جريدة "لو موند" قبل أيّام ب"أم كلثوم بالنسبة إلى العالم العربي في عزّ نهوضه، وأماليا رودريغيز بالنسبة إلى البرتغال العاصمة السابقة للامبراطوريّة""! بياف التي يتماهى صوتها مع تاريخ باريس، شوارعها، أمكنتها الأليفة، وتراث شفوي يمجّد الفرح والحبّ ويختزن حكايات الانتفاضات والثورات، رحلت في مثل هذه الأيّام أيضاً قبل أربعين عاماً في الثامنة والأربعين، جرّاء تشمّع في الكبد. ذاك المرض الذي يشهد على حياتها الصعبة، حياة التسكّع والتشرّد والتيه... كل منهما أسطورة. جاك بريل البورجوازي الغاضب الذي غنّى لأبي الاشتراكيّة الفرنسية جان جوريز، والفوضوي المثالي الذي شتم "البرجوازيّة" في واحدة من أشهر أغانيه... وإديت بياف الفتاة الفقيرة التي وضعتها أمّها في الشارع، ورافقت طفلةً والدها البهلوان الذي كان يقدّم عروضه في الساحات العامة، وربيت في حي مينيلمونتان الشعبي في كنف جدّتها عايشة البربريّة المغربيّة الآتية من الصويرة، وبدأت مراهقتها بائعة هوى على أرصفة بيغال... قبل أن تسكن وجدان شعب كامل، و تدخل الأسطورة وهي تغنّي الحبّ والفراق ومرارة الحياة في الأزقّة، وبهجتها ولحظاتها الجميلة أيضاً. وتعيش قصص حبّ مع رجال بارزين من النجم إيف مونتان إلى بطل الملاكمة العالمي مارسيل سيردان الذي قضى في حادث طائرة أوائل خمسينات القرن الماضي. حياتا جاك بريل وإديت بياف متشابهتان ببعدهما التراجيدي وصخبهما وتلك النزعة الحادة إلى قول المشاعر بقسوتها وفجاجتها، نزعة تجد جذورها في الأغنية الواقعيّة الفرنسية. بريل وبياف تجمعهما أيضاً تلك الهالة المتبقية في الاذهان جرّاء وقوفهما على المسرح. كان البلجيكي الناقم والرومانسي الساخر يقيم علاقة قويّة بجمهوره، ولا تكتمل الصورة عنه إلا باستعادة حفلاته الاستثنائيّة في الأولمبيا وغيرها. وبياف ما زلنا نراها بفستانها الأسود، وقامتها القصيرة، ويديها المفتوحتين إلى وسط بقعة الضوء الصغيرة. "أنظروا الى هذه السيدة الصغيرة بيدين كيدي حلزون الخرائب. انظروا الى جبينها البونابرتي، إلى عينيها كأنّهما لأعمى استعاد البصر لتوّه"، هكذا وصفها صديقها الأديب الفرنسي جان كوكتو الذي أغمض عينيه في اليوم نفسه، بعدما بلغه نبأ موتها. واليوم تستضيف بلديّة باريس، معرضاً خاصاً بإديت بياف، فيما خصصت مؤسسة جاك بريل معرضاً له في بروكسيل. وقد أعيد اصدار مختلف تسجيلاتهما، في مجموعة الأعمال الكاملة مع أغان غير معروفة. بالنسبة إلى بياف 20 أسطوانة سي دي في علبة على شكل آلة الأكوردويون الأساسية في أغنياتها، و16 أسطوانة لجاك بريل في علبة "بون بون"، في احالة إلى أغنية شهيرة له. كما صدرت لكلّ منهما أسطوانات دي في دي، تتضمن تسجيل حفلات، وأفلاماً وثائقيّة وحوارات. وتجدر الاشارة الى أن أسطوانات أديت بياف وجاك بريل ما زالت تحقق مداخيل مرتفعة بعد كلّ هذه السنوات. فكل منهما يبيع مئة ألف أسطوانة سنوياً، في مقابل 120 ألف اسطوانة لفريق "بينك فلويد"، ومئة ألف ل"البيتلز" و80 ألفاً ل"الرولينغ ستونز".