الحوار مع سليم بركات محنة، إذ كيف تختزل عالماً حفرت أساساته في "قامشلوكي" حيث ولد الكاتب مطلع الخمسينات من القرن الماضي وامتدت إلى غابة سكوغوس في الصقيع الاسكندينافي حيث استقر به المقام أخيراً؟ أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر"الأعمال الشعرية"لسليم بركات في مجلد واحد يضم أحد عشر ديواناً، وفي هذه المناسبة جاء هذا الحوار: تحدثت عن طفولتك في"الجندب الحديدي". لكن نود أن توجز لنا، الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، روح تلك الطفولة المشاكسة المتمردة؟ - في الأرجح أنني لن أتذكَّر ذلك الطفل إلا بالقَدْر الذي يجعل من شيخوختي طفولةً له. حين صغتُ ذلك"الطفل"لغةً، كنت أُبقيه شيخاً وثَّقتْه الكلماتُ بضمان بقائها حقيقة"نهائية"لن تتراجع أمام أي وصف لاحق. أحكمتُ عليه رتاج الكلمات لأحرره من زحف العمران، غير المتقَن، على أَبعاده: رأيت صوراً للقامشلي، في سنيني هذه. رأيت انتهاكاً من أبنية خرقاء، وأرصفة ميتة، في ذلك الغمر الساحر، الذي كان حقولاً، وجداول، وبساتين. رأيت"أرضاً هاربة"من بين يدي طفل"الجندب الحديدي"بلا عودة قط. رأيت"الطفل"ممزَّقاً في مشهد خَدَعه إلى الأبد. ما دوَّنتُه في"الجندب الحديدي"هو آخر عقد أبرمتْه الكلماتُ بين طفل هارب، وأرض هاربة. ما تبقَّى، خارج ذلك العقد، هو"الواقعيُّ"، الذي ينبغي أن يشهد، بضراوة، أنه يحتفظ بذلك الطفل، وبتلك الأرض، في سِجِلِّ الروح الدفينة تحت أساسات قامشلوكي، التي لا تَنْسى. ما الذي دفعك إلى كتابة سيرتك"الطفولة والصبا"في مستهل تجربتك الإبداعية؟ - ربما أدركتُ، مبكراً، بإلهامٍ من خيال الخسارة فيَّ، أن عليَّ الذهاب إلى سيرتي في مشهدها العاري. لم أخطط للأمر. حصل عفواً. في الصخب الدموي لنهاية السبعينات، في بيروت، استفاقت"برهة التحصيل"- كما أدعوها"البرهة قبل الغيبوبة: كثافة الحياة مُختزلةً في ماض لا يُشرف على شيء. الذاكرةُ الإقامة النهائية. الكليُّ عالقاً في الشبكة، مثلُهُ كالصور عند النَّزْع: المشرفون على الموت يعرفون"برهة التحصيل"، حيث لا شيء آخر، بعدها، إلا حظَّ المصادفة موزَّعاً، بشفاعة المُعْتَقَد، على العدم، أو الفردوس المُسْتَنْسَخ عن خيال اللَّذة بجسارتها الأرضية. في نهاية السبعينات، تلك، كنتُ كلَّما تقرَّيت صورةَ آتٍ ما، لم أجد إلا قامشلو - المرآة. وكانت عيناي، عينا الشاب آنئذ، تستطيعان التقاط نفْسي المتناثرة، بتفاصيلها، من غير تنقيح. كلما كبرنا كبرتْ نزعة التنقيح. قرأتُ سِيَراً"منقَّحة"بممحاة التاريخ الشخصي لكتَّابها: نزوع إلى"تطهير"ما. قال لي الشاعر الراحل نزار قباني، بعد قراءة"الجندب الحديدي":"ما كنتُ كتبت سيرتي كما كتبتُها، يا ابن ال... لو أنك كتبتَ سيرتك قبلي". ربما - وهو الشاعر، الذي مجَّد"الجنون"، بتعريفه الخاص، في مماحكاته النقدية جنساً وسياسة، ككشاف توافقه أو تخالفه - نَحَا بهدوء"كشراب التوت"إلى وضع سيرته بين يدي"ورديَّةٍ"متساهلة مع الحياة: هزَّه العنف الواقعُ الأبُ، الذي في"الجندب الحديدي". أما أنا فلم أرَ في ذلك العنف إلا سيرورة العاديِّ قَدَراً لم يحلم بغير أطفال غاضبين مثلنا، ولدوا غاضبين، وسيموتون غاضبين من أن الحياة ليست سوى إهانة. في السويد، خارج النقد المكتوب، تلقيت ردوداً طريفة من"جمعية الرفق بالحيوان"، عبر الهاتف، مستنكرة ذلك السياق"الوحشي"في علاقتي ببهائم الطبيعة. أظنني شرحت لإحدى سيدات جبهة الرفق، بإنكليزية"ضارية"في الالتفاف على الترجمة اللاموثوقة، التي نقلتها من خيالي إلى لساني ويديَّ: لم نملك ثلاجات لحفظ الطعام. الهررة تسرق ما تخبئه العائلة من طعام تحت القُفَف، في الحوش. الهررة تصطاد الصيصان. الكلاب تغزو البَيْض. كلابكم وقططكم خارجة، تواً، من تربية في مدارس لم يحلم بها نشءٌ مثلي. والطيور؟ إنها، يا سيدتي، لغز. نتصيدها لندرب أعضاءنا على خيال الحرية في لحم الطير غذاءً. سألتُها: أتأكلين النبات؟ ردت مستغربة: بالطبع. ما قصدك؟ قلت: أنتِ تأكلين أرواحاً. أتعبتُ رُسُل الجمعية بشروح عن هدنة مع الطبيعة، الآن: نحن مُنْهَكون. الطبيعة مُنْهَكة. كوكب مُنْهَك، برمته، من خذلان الآدمي للتراب، وخذلان التراب للآدمي، والأرواح للأرواح... الخ. في أشعارك تستخدم مفردات"ضارية"،"وحشية"،"هادرة"... ومفردات موازية"رقيقة"،"هشة"،"حنونة"... هل من تفسير لهذا التضاد المتناغم - إذا جاز التعبير -؟ - ليس في اللغة من لفظ ضارٍ، أو ليِّن العريكة، أو أنيس، أو وحشي، أو هَلِع. لقد درج الإنكار المنهجي للألفاظ على تصنيف المهمَل باحتسابه عبثاً بأمن اللغة، وخروجاً على طاعة النسق المتخفِّف من ترف الألفاظ"المعجمية". مؤرخو اللغة وظيفةً لا يعوزهم إيضاح الترابط في البنى المجتمعية، وقوانينها، والبنى اللغوية الموافقة لأحوال خطابها. ولا يعوزهم تصنيف المنعطفات في نقل اللغة من المجابهة المعجمية إلى صرفٍ في خصيصة كل جماعة، بتدرج أطوارها اقتصاداً، ومؤسسات إنتاج. اللغة العربية قبل مئة سنة لا تشبه، كثيراً، في تركيبها، لغة اليوم. تتقدم ألفاظ وتتأخر ألفاظ. تتزاحم الألفاظ على سُلطة اللسان الناظم للشفهي والمدوَّن، بنازع الغلبة من طبائع النمطيِّ، والمكرور، والمعتاد الواجب المحاكاة. لكن الأمر ليس دِيْناً: لا يُلغى لفظ بإقصائه، ولا تتَّضع مرتبتُه في طبقات الألفاظ بتصنيفه وحشيَّاً، موحشاً، حوشياً صُرِف إلى الإهمال. هناك رياء في طبع القراءة العربية للأثر الأدبي، وازدواجية في خُلُق الإدراك: ما من أربعةِ عربٍ يقدرون على تفسير معلَّقة، أو بيتين من شعر امرئ القيس الرائد في طلب عون الأجنبي على بني جلدته، فلم تتحصل له دبابة من الروم، أو هيطل من غير نقلة البصر إلى هامش شرح الألفاظ. ومع ذلك تبقى المعلَّقة معلَّقة في قدسية النفس الأدبية العربية، ويبقى امرؤ القيس فتاها، كأنما يصنَّف"الإرث"طاهراً خارج ألفاظه المشمولة - راهناً - بوجوب الإقصاء، عنفاً، عن اللسان الحاضر. فإن استعادها نصٌ"مارق"، في حضرة يومنا، عُدَّ الأمرُ هُذاءً. لكل لفظ، في اللغة، حصانة، مذ سلَّمه العقلُ خصيصةَ القبول كأثر من ميلاد اللسان"حصانة لا يُسقطها تقادم، أو نسيان. علماء الإناسة تصبَّبوا عرقاً في استعادة"الوحشي المفقود"، عبر لفظةٍ - أثرٍ بدئي، إلى عقل محفوظاتهم تأريخاً لسلطة على العالم في اللغة، أو توازن مع العالم في اللغة"وتوثيقاً للوجود بحروف ناطقة بكيد المصادفة. وأنا لن أتخلى، حيثما استطعتُ، عن تعزيز لفظةٍ بجلالها، ثانيةً. في المنفى السويدي البعيد، كيف تقضي أيامك؟ 1- أقضيها جلوساً إلى نافذة المطبخ. طبخٌ بعد العودة من التسوُّق الصباحي. قراءة على مسارات الأفاويهِ. بزور لإطعام العصافير خارجاً، واحتراس من القطط تحت مقعد الحديقة أن تتربص بالعصافير. أطفال لا يتجاوزون مدخل الحديقة فيعرِّجون عليَّ زائرين، يطلبون سكاكر مذْ عرفوني دهقاناً في وَهْبها. جيران يسلِّمون، في عبورهم، حتى لو لم يرني البعض من انعكاس النور على الزجاج المزدوج، لكنهم يعرفون أنني هناك، في كمين الطهوِ الصَّياد. حياة تُحسب وقائعها بالأشبار في عصف الغابة بجنٍّ شرقيٍّ من ظلال شجر التنُّوب الغربي، والبتولا. شواء أسبوعي. سناجب بنِّية تتقافز قرب شباك غرفة النوم، من صنوبرة إلى أخرى. زريابٌ مليح الجناحين، أخضرُ رماديٌّ بنيٌّ بألوان قوس قزح، لم أرَ غيره في الأنحاء، يقاسم السناجب البنية، وطيور القرقف، والشحارير، وكسَّار الجوز، أشجار الحديقة الخلفية، في المشهد المغلق بسماءٍ من شجرٍ يسند السماء التي تليها. لماذا صنَّفت العربُ الزريابَ القيْقَ مؤذِّناً في حجيج من الغربان؟. قيامة اليوميِّ بعد نفير السكينة المدوِّخ، في كل حين. لا أمل في شيء حتى لا أتعثَّر. عودٌ إلى الدائرة في حدائق اللاموصوف، المفقودة في متاهات من بياض الورق. لا أنسى، بالطبع، أن المشهد لا يكتمل توثيقاً إلا بملْءٍ يُشغله الأقرَبانِ إليَّ: زوجتي سِنْدِي، وابني رَان. لقد سلَّمتُ الأبديةَ بقشْرٍ رقيق كقشر حبة الكستناء، ناضجةً شواءً في الجليد الاسكندينافي.