بعد استبدال باسم عوض الله، رئيس الديوان الملكي الأردني الإشكالي، بشخصية إصلاحية توافقية، خمدت نار المواجهة السياسية في الأردن بين ما بات يسمى بپ"القوى الوطنية والليبرالية"والقوى التقليدية على أمل إعطاء دفعة لجهود التحديث التي يقودها الملك عبدالله الثاني منذ توليه الحكم عام 1999. لكن لعبة شد الحبل، التي مسّت الجبهة الداخلية الهشة، قد تستعر من جديد إن لم يستثمر زخم أجواء الارتياح، أو تفشل الجهود الرسمية في احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية وتحسين مستوى معيشة الناس، ومكافحة الفساد وتعزيز مفاهيم المواطنة والانتماء ودولة القانون وتكافؤ الفرص. يوم السبت الفائت أعلن الملك عبدالله عن اختيار ناصر اللوزي 51 سنة، صاحب الشخصية السياسية غير الصدامية مديراً للديوان الملكي، ذلك بعد مرور أربعة أيام على قبول استقالة عوض الله، الشخصية الديناميكية الأقرب الى العاهل الأردني منذ تسلّمه الدائرة الاقتصادية في الديوان في منتصف عام 1999 ليصعد نجمه السياسي وزيراً للتخطيط ثم وزيراً للمال ومديراً لمكتب الملك ورئيساً للديوان مع انه اضطر للاستقالة من وزارة المالية قبل أربع سنوات مع تصاعد الضغوط النيابية. يُصرّ مسؤولون أردنيون على ان استقالة عوض الله 43 سنة، وهو المعبر الأكبر عن نهج الليبرالية، حسمت صراعاً بين مراكز قوى مثّلت نهجين سياسيين واقتصاديين ? اجتماعيين متضادين منذ سنوات. وأثّّر هذا التجاذب أحياناً كثيرة في صدقية برامج الإصلاح النابعة من توجهات رسم الملك خطوطها الرئيسة قبل عقد. لكن ذلك لا يعني بأي حال تراجعاً عن نهج التحديث الذي توالت الحكومات المتعاقبة على تنفيذه ضمن مسارات واضحة رصفتها كتب تكليف ملكية. صحيح أن النتائج عند التطبيق لم تكن دائماً بمستوى الطموحات، إذ تفاوت أداء الحكومات تبعاً لقدرات المسؤولين وإمكاناتهم، وطبيعة العلاقات القائمة بين الشخصيات في مفاصل الدولة: الديوان الملكي ورئاسة الوزراء وإدارة المخابرات العامة، في غياب توافق مجتمعي حول شكل الأردن الجديد. واستمر الاختلاف على وسائل التنفيذ، وأحياناً على حدة الإجراءات وسرعتها لتعارضها مع العقد الاجتماعي أو البنية التشريعية. من جهة وقفت غالبية محافظة غير متجانسة سياسياً أو فكرياً لكنها تضم من يرفض الانفكاك بسرعة عن الدولة وتفكيك مؤسساتها الأمنية والسياسية، ومن يؤمن بإضعاف الولاية العامة للحكومة من خلال استحداث أطر عمل موازية غير دستورية لتجاوز البيروقراطية المتجذرة، وتضم هذه الغالبية كبار الموظفين المدنيين والعسكريين ممن يشغلون مواقع سياسية وإعلامية واقتصادية واجتماعية متقدمة. وهؤلاء محصّنون بثقافة المؤسسة الأردنية وثوابت الدولة والمجتمع التي قامت عليها المملكة، وأصبحوا يشعرون بأن مستقبل بلادهم بات مهدداً وأن هناك من يحاول كسر الإرادة الشعبية وتحضير الأرضية لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن. وفي الجهة المقابلة وقفت أقلية متنفذة لكنها متجانسة برئاسة عوض الله، المولود في القدس والذي حصل على درجة الدكتوراه بتميّز في بريطانيا بمنحة من القصر في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وتبنت هذه الجهة نهج الليبرالية الاقتصادية وليس السياسية، وحاولت هندسة مجتمع جديد من خلال رسم طبقة اقتصادية - سياسية تدعم نهج تسريع الخصخصة الاقتصادية والانفتاح وتقليص دور الدولة شبه الرعوي وتعزيز مبدأ المواطنة. وحاولت وقف الهدر في برامج الدعم الحكومي وتوجيهه للفئات الأكثر تضرراً، إضافة الى ضرورة حفز القطاع الخاص لأنّه يولد فرص عمل ويضمن ديمومة نمو اقتصادي. هذه المدرسة تبنت نظرة عملية ومحاسبية حيال قضية الحقوق والمواطنة الحسّاسة في بلد نصف سكانه من أصول فلسطينية لم يحسموا بعد أمر هويتهم الوطنية بانتظار تحقيق حق العودة والتعويض. وأرادت تحصيلها عبر تأسيس نظام محاصصة سياسية حتى قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ولو كان في ذلك اقتطاع من حساب الأردن مجتمعاً ودولة ومؤسسات سيادية ضمن نهج سارت عليه الدولة لعقود.پ يقول سياسي أردني:"في مرحلة ما بعد التغيير الأخير لا بد من التأكيد أن برنامج الإصلاح الاقتصادي، واستكمال بناء اقتصاد وطني قوي ينعكس في شكل إيجابي على مستوى معيشة الأردنيين، بقي مستمراً لأنه برنامج الملك، وليس برنامج أشخاص آخرين اجتهدوا في طريقة تنفيذه وأثّروا في صدقيته". "يكمن التحدي الأول هذه الأيام في مواصلة نهج الإصلاح الاقتصادي لتعظيم الإنجازات وتجاوز المشكلات البنيوية المرتبطة بالطبقتين الوسطى والفقيرة مع قرب حلول فصل الشتاء على وقع أزمة ارتفاع أسعار المشتقات النفطية التي لم تعد مدعومة منذ عام تقريباً. إضافة الى مواجهة ترهل القطاع العام الذي بات يؤثر سلباً في إنتاجية الدولة"، بحسب ما قال مسؤول ل"الحياة". في المقابل ستسير الإصلاحات السياسية تدريجاً وببطء مقارنة مع الانفتاح الاقتصادي وذلك في ظل"بعد إقليمي سياسي". وذلك يعني إصلاحات مبرمجة توسع من قاعدة صناع القرار من دون المسّ بهوية الدولة قبل حل القضية الفلسطينية. قد يسبق ذلك إحياء الشق السياسي في الأجندة الوطنية، التي وضعت قبل أربع سنوات كخريطة طريق شاملة للإصلاح على مدى عقد، حيث تطبق غالبية بنودها الاقتصادية والتعليمية والصحية من دون الاقتراب من الطروحات السياسية المتعلقة بالانتخاب على قاعدة القوائم النسبية. مسؤول حكومي آخر دعا إلى"بناء توافق وطني حول الثوابت الأساسية للدولة الأردنية ومفاهيم الإصلاح السياسي قبل الشروع في تغييرات أساسية تمس صميم عملية التحول السياسي". لكن ذلك، بحسب ما قال، لا يعني عدم فتح ملف تعديل قانون الانتخاب قبل الانتخابات المقبلة 2010 بطريقة تعيد الاعتبار الى مجلس النواب وترفع تدريجاً عدد النواب الأردنيين من أصول فلسطينية لضمان عدالة اكبر في التمثيل. استثمار في الشمال أما بالنسبة إلى التغيير الأخير، فيبدو أن الملك حرص على ألاّ تظهر استقالة عوض الله وكأنها انتصار للمحافظين. لذلك اختير نشر خبر الاستقالة ليتزامن مع موعد الإفطار وعشية بدء عيد الفطر، الذي تحتجب خلاله الصحف الاردنية لثلاثة أيام. واختار أيضاً مواصلة الاستثمار في الساسة الشباب لأن غالبية الحرس القديم جُرّب وأظهر حدود قدراته العملية. اللوزي 51 سنة، أبن عشيرة شرق أردنية يحمل شهادة الهندسة المدنية من إحدى الجامعات الأميركية، ويجمع قدرات مختلفة لا سيما في مجال التعامل مع ألوان الطيف السياسي والاجتماعي. وبالتالي يمتلك القدرة على سد الفجوة بين النهجين المتضادين. وقال أحد الوزراء إن"اللوزي أبلغ بوضوح أن عليه تفادي كل الإشكالات التي وقعت سابقاً مع سلفه، ليضمن نجاحه في هذا المنصب وحتى تتناغم كل أجهزة الدولة في تنفيذ الرؤيا الملكية التحديثية التي تعرضّت لتشويش مقصود أو غير مقصود". لرئيس الديوان الجديد خبرة واسعة في مجال الإدارة والاقتصاد. والده تسلم قبل ثلاثة عقود رئاسة الحكومة ومجلس الأعيان والديوان الملكي. كذلك خاله عبدالكريم الكباريتي، الذي تسلم رئاسة الحكومة عام 1996. أما هو، فسبق له أن شغل ثلاث حقائب وزارية. الإعلام والأشغال العامة والنقل. وكان آخر منصب تقلّده رئاسة مجلس إدارة الخطوط الملكية الأردنية، وقبله كان نائب رئيس بنك أردني - كويتي. طلب منه الملك"مواصلة مسيرتنا في الإصلاح والتحديث والتطوير وتحقيق التنمية الشاملة ومواجهة التحديات والمعوقات التي تواجه هذه المسيرة". كذلك كلفه إعادة ترميم علاقة الديوان الملكي بالأوساط الشعبية والسياسية، وفتح أبواب القصر أمام جميع الأردنيين. اعادة تموضع سياسي يقول سياسيون إن التغييرات الأخيرة في حديقة الملك الخلفية ستساعد الأردن على إعادة التموضع مع السياسات الداخلية والخارجية في مرحلة انتقالية ذات طبيعة متغيرة، لمواجهة تحدي فشل خيار السلام الذي راهن عليه الأردن الرسمي مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش وعودة الحديث عن"الخيار الأردني"وازدياد الوضع السياسي في إسرائيل والأراضي الفلسطينية تعقيداً، ما لا يسمح بخيارات حاسمة قريباً. وسيتبع ذلك، بحسب بعض الوزراء، تعديل وزاري، على الأرجح نهاية العام الحالي، ليرفع من وتيرة التجانس داخل فريق الرئيس نادر الذهبي، بعد ان بدأت السلطة التنفيذية تستعيد الولاية العامة تدريجاً بما يبعد الملك عن المسألة تماشياً مع الدستور. رئيس الوزراء يعمل في أجواء مريحة للغاية في ظل دعم ملكي كبير، معزز بمبادرات متتالية، وبمنظور اجتماعي ينشد العدالة الاجتماعية. وهو أثبت خلال عام قدرة جيدة في إدارة الملف الاقتصادي، وكسب دعم غالبية فئات المجتمع والبرلمان بسبب وضوحه. يجمع الذهبي 62 سنة، أربعة عقود من الخبرة العملية في سلاح الجو وإدارة"الملكية الأردنية"، ثم وزير نقل ورئيس مفوضية العقبة الخاصة قبل تعيينه رئيساً للوزراء عقب الانتخابات التشريعية الأخيرة أواخر 2007، التي أفرزت مجلس نواب محافظاً غير مسيس انحسرت حصة الإسلاميين فيه من 17 إلى 6 من اصل 110 مقاعد، وسط اتهامات بالتزوير نفتها الحكومة السابقة. قبل أيام أعيد انتخاب المهندس عبدالهادي المجالى، وهو سياسي محافظ، رئيساً لمجلس النواب للمرّة التاسعة على التوالي بينما يسيطر زيد الرفاعي، وهو سياسي مخضرم ورئيس وزراء سابق معروف بتشدده السياسي، على منصب رئاسة مجلس الأعيان لمدة عام آخر. بعد مجيء اللوزي، لم يعد أمام الذهبي من أعذار لعدم ممارسة صلاحيات الحكومة وتنفيذ ما التزمت به أمام الشعب والملك بحسب نواب ومسؤولين. وبالتزامن مع خروج عوض الله، عين الملك رئيس تحرير صحيفة"الغد"الأسبق أيمن الصفدي مستشاراً له برتبة وزير ومشرفاً على دائرة الإعلام والمعلومات في الديوان الملكي التي ترأسها أمجد عضايلة، حليف عوض الله الذي قرر أيضاً طلب الاستقالة يوم الأربعاء الماضي. الصفدي يتمتع بعلاقة عمل قوية مع اللوزي، ومهامه الأساسية تدور حول ضمان الانفتاح على وسائل الإعلام التي عكست حال الاستقطاب، مع سعي أقلية سياسية وإعلامية لتلوين الصراع المحتدم، حول مسار الدولة وآليات تطويرها واجتثاث الفساد منها، بصبغة إقليمية تنامت وطأتها مع عودة هواجس خيار"الوطن البديل". وقريباً سيعين عامر الفايز رئيساً جديداً للتشريفات الملكية لتكتمل حلقة الإدارة هناك. پفي خلفية المشهد السياسي يجلس منذ ثلاث سنوات الفريق محمد الذهبي 48 سنة، على رأس دائرة المخابرات العامة، الأكثر نفوذاً بين أجهزة الدولة في زمن تداخل الملفات الإقليمية - المحلية الأمنية والسياسية. وبعد خروج عوض الله، بات الذهبي أقرب المعاونين للملك بلا منازع. يحسب له أنه ساهم في خدمة مصالح الأردن عبر محاولة تحييد رابطة الدم مع شقيقه رئيس الحكومة، والتعامل بحسب ما تقتضي تقاليد الوظيفة العامة في غياب آلية رقابية قانونية ودستورية فاعلة. قاد الذهبي أخيراً عملية حساسة ومعقدة لإعادة"فتح"قنوات الاتصال مع كل من جماعة"الاخوان المسلمين"وحليفها الفلسطيني حركة المقاومة الإسلامية"حماس". ذلك التحرك لاقى استحساناً شعبياً بعكس الإشارات التي وردت من واشنطن وتل أبيب والقاهرة ودمشق، كل لحساباته الخاصة. پتحسن العلاقات مع"حماس"عبر بوابة"الأخوان"بعد سنوات من سوء الحال، سيساعد على توسيع خيارات الأردن داخلياً وخارجياً. لكنّه يتطلب مهارة فائقة لكي لا يأتي على حساب العلاقات المتينة بين الملك والرئيس الفلسطيني محمود عباس، شريكه الأساس في عملية السلام مع انه يواجه مصيراً سياسياً ضبابياً مع قرب انتهاء ولايته الدستورية بداية 2009. إذاً، بين اللوزي والصفدي من جهة، والشقيقين الذهبي والمجالي والرفاعي من جهة أخرى، يبدو أن آليات الربط بين مفاصل الدولة ستشهد تجانساً أكبر لمواجهة المصاعب المقبلة. ويأمل سياسيون في أن تكون كل الأطراف الرئيسة في الدولة قد خرجت من الأزمة الأخيرة بدروس واستخلاصات أساسية أهمها ضرورة تحديد الأدوار ومساحات الحراك وإعادة الاعتبار لقيم الدستور كمرجع للجميع. يقول رئيس حزب وسطي:"يبقى من المهم استغلال الزخم الإيجابي الناتج من عملية التغيير الأخير للتشديد على قدسية الوحدة الوطنية وتحييد مظاهر الغربة السياسية والتهميش والإقصاء والاستفراد".