لن يكون موعد الحوار اللبناني في الخامس من تشرين الثاني نوفمبر المقبل، الموعد العربي والإقليمي الوحيد المؤجل الى ذلك التاريخ، علناً أو ضمناً، والسبب الأكثر"إقناعاً"أن الجميع ينتظر ما سينجبه هذا الموعد. ففي ذلك اليوم يُنتخب الرئيس الأميركي الجديد الذي سيخلف الرئيس جورج بوش، وسيسمي الناخبون الأميركيون هذا الرئيس من بين المرشحين، الجمهوري جون ماكين والديموقراطي باراك أوباما. لحكام منطقتنا الحق في أن ينتظروا، وهم مارسوا كثيراً لعبة الانتظار هذه منذ عقود. لجأوا في إدارتهم الصراع مع إسرائيل الى التعويل على محطة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وراهنوا على تحولات وتغييرات لم تحصل، وبقي ملف الصراع على حاله مع تسجيل نقاط إضافية لمصلحة إسرائيل ونقاط سلبية لغير مصلحة الشعب الفلسطيني أو"شعوب الطوق"، وتفاقمت في الوقت عينه الأزمات، فالصراع المركزي المولود في نهاية أربعينات القرن الماضي، أضيفت إليه صراعات أخرى، وإسرائيل التي اعتبرت حين ولادتها قاعدة متقدمة للاستعمار في المنطقة لم تعد سوى واحدة من حاملات الطائرات والقواعد المنتشرة في دولها وبحارها، ترعاها قيادة مركزية أميركية تتسع صلاحيتها وحضورها من باكستان شرقاً الى مصر غرباً ومن كازاخستان شمالاً الى كينيا جنوباً، وهي قيادة حددت أهدافها منذ عام 1983 بتغطية"المنطقة الوسطى من الكرة الأرضية"وملء الفراغ بين القيادتين الأميركيتين في أوروبا والمحيط الهادئ. من المفيد العودة الى ظروف نشأة هذه القيادة وفق الرواية الرسمية العسكرية الأميركية، ففي 1 كانون الثاني يناير 1983 اتخذ القرار، وبعد احتجاز الرهائن الأميركيين في طهران والغزو السوفياتي لأفغانستان ازدادت الحاجة الى"تعزيز المصالح الأميركية في المنطقة"، وبعد أن كان الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر أنشأ فريق الانتشار السريع في آذار مارس 1980، اتخذ الرئيس الجمهوري رونالد ريغان خطوات لتحويل هذا الفريق الى قيادة موحدة دائمة على مدار عامين، مستقلة عن قيادة الاستعداد القتالي الأميركي... وكانت أولى عمليات هذه القيادة مكافحة عمليات التلغيم الإيرانية في الخليج العربي إبان الحرب العراقية ? الإيرانية. ومع أن الاستراتيجية الأميركية كانت تقوم حتى ذلك الوقت على احتمال"مواجهة تهديد سوفياتي بغزو إيران"، فإن قناعات جديدة بدأت تتبلور مع القائد الجديد للقيادة الوسطى الجنرال نورمان شوارزكوف، الذي مال الى التركيز على"التهديد الإقليمي الجديد"الذي رآه متمثلاً بالرئيس العراقي صدام حسين، وترجم شوارزكوف مخاوفه في"مناورات داخلية"صيف 1990، بدت تمهيداً لسيناريو سيطبقه صدام حسين بپ"إشارة"من الديبلوماسية الأميركية إبريل غلاسبي في صيف العام نفسه، عندما غزا الكويت في الأيام الأخيرة لتلك المناورات. وردّ الرئيس الأميركي الجمهوري جورج بوش بسرعة، فأدى النشر الفوري للقوات الأميركية وتشكيل الائتلاف العربي - الأميركي - الدولي الى ما اعتبره الأميركيون يومها"ردع صدام حسين"عن غزو بلدان خليجية أخرى، ثم الى تنفيذ عملية"عاصفة الصحراء"التي ستحرر الكويت. وبقية المسلسل معروفة. لم يكمل جورج بوش الأب اجتياح العراق، بل سعى الى تكريس منطقتي خطر جوي في الشمال والجنوب، وبدأ حصار هذا البلد تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، وفي خلال ولاية بيل كلينتون الديموقراطي اتخذ قرار"تحرير العراق"1998 لينفذه لاحقاً الجمهوري جورج بوش الابن 2003. وفي الأثناء خاضت الولاياتالمتحدة تجارب انتشار وتدخل في الصومال وتعرضت لهجمات في السعودية وتنزانيا وكينيا واليمن، إلا أن هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 كانت الشرارة التي أطلقت الاستراتيجية الجديدة، فاحتلت"القيادة الوسطى"أفغانستان ثم العراق، ووضعت سورية وإيران ضمن دائرة"الاحتواء المزدوج"، تلك النظرية التي سادت عشية إنشاء"القيادة"المذكورة ومع بدايات الحرب العراقية ? الإيرانية. والنظرية المذكورة لا تقتضي بالضرورة غزو إيران أو مهاجمة سورية، وإيران هي المقصودة قبل سورية، إنها، وعبر احتلال العراق وتضخيم الدور الإيراني وخطره على المنطقة، تدفع الى احتواء ثلاثي وليس مزدوجاً فقط، فبتضخيم"الخطر"الإيراني يتم تطويع الخليج العربي قبل أن يتم لاحقاً تطويع إيران ضمن دور إقليمي معترف به، وفي المرحلة الأخيرة يكون"الاحتواء الثلاثي"قد تحقق، ولا يبقى لسورية إلا أن تجد لنفسها موقعاً منفذه الوحيد والإلزامي تتويج مفاوضتها مع إسرائيل باتفاق ترعاه الإدارة الأميركية المقبلة. إلا أن الوصول الى هذه النتائج لن تكون طريقه مفروشة بالدراسات، ففريق"الممانعة"الذي يبني سياسته على مقولة هزيمة المشروع الأميركي، يتصرف وكأن نهاية عهد بوش هي نهاية لسياسة أميركا، بل حضورها في المنطقة، ويعتبر أن سبب هذه النهاية، هو مقاومته وصموده، ومع ان البحث عن هذين المقاومة والصمود سيحتاج الى مناظير مكبرة، فإن العين المجردة قادرة على رؤية الواقع وهو أمر آخر. ففي العراق تعاون وتفاوض إيراني ? أميركي عبر"ممثلين عراقيين"للطرفين، وفي أفغانستانوباكستان أمرٌ مماثل الى حد بعيد، وبقدر ما يعلو الصوت الإيراني ضد الاحتلال الأميركي للعراق بقدر ما تظهر الممارسة تمسك طهران بهذا الاحتلال، وفي الجانب الآخر أمورٌ مشابهة، يكفي لاختصار معانيها القول إن دمشق التي رفضت التبادل الديبلوماسي مع نظام صدام حسين"القومي العربي"أجرت هذا التبادل مع حكومة عراقية حازت رضا الاحتلال وانتخبت"ديموقراطياً"تحت جناحيه. وتقول الوقائع إن في قيادة الأنظمة التقدمية وغير التقدمية العربية اتسعت حدود إسرائيل من النهر الى البحر، وفي وجود سورية التي دخلت لبنان"دفاعاً عن عروبته وعن المقاومة الفلسطينية في وجه العدوان الإسرائيلي"ثم اجتياح لبنان واحتلال أرضه. وتضيف الوقائع أن حرب بسمارك العراق على الكويت جاءت بالقوات الأميركية الى المنطقة، بعد أن كانت تزورها بين الفينة والأخرى، فبات لها حضور دائم في قلب العالم العربي وقواعد قريبة في دولٍ مجاورة تمتد من قيرغيزيا الى كينيا، مروراً بغالبية البلدان والبحار والمحيطات والأجواء... ويصعب على هذه القوات أن تغادر ضمن شروط الممانعين الحاليين، هذا إذا اعتبرنا أن هؤلاء يريدون فعلاً رحيلها. ولن يقنع تعداد الجنود القتلى في صفوف القوات الأميركية في العراق أياً كان، بأن موعد بداية الانسحاب الأميركي قد أزف، ولا مجال للمقارنة بين فيتنام والشرق الأوسط، فهناك خاضت الولاياتالمتحدة حرباً أيديولوجية أكثر منها حرب مصالح، أما الشرق الأوسط فحربه حرب مصالح ونفط، وپ"القيادة الوسطى"لم تنشأ إلا لهذا الهدف، بعد أن باتت مهمات قيادتي الأطلسي والمحيط الهادي روتيناً لا يستحق التجديد إلا في حال بروز ثروات نفطية وغير نفطية، وهو ما جعل الإدارة الأميركية تُعيد أخيراً إحياء الأسطول الرابع المخصص لأميركا اللاتينية بعد أن أحيل الى المتحف إثر الحرب العالمية الثانية، ذلك أن النفط ظهر أمام سواحل البرازيل. حتى الآن يَلعب الممانعون لعبتهم تحت سقف الأهداف الأميركية، لا فوقها ولا ضدها: تهدد أميركا إيران فتهدد إيران دول الخليج العربية واستناداً الى بعض الروايات تتدخل في شؤونها وتعد فيالق للتحرك في اللحظة المناسبة داخل أراضيها، وأكثر من ذلك تثير فقاعة الصراعات المذهبية، وهو الأمر الأكثر خطورة على واقع المنطقة ومستقبلها. وفي لبنان وفلسطين حيث الحاجة الى حد أدنى من التماسك الوطني لضمان استقلال لبنان من جهة ولضمان وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال من جهة ثانية قادت المانعة، التي قضت بتأييد"العملية السياسية"تحت الاحتلال في العراق الى نسف وحدة الشعب الفلسطيني في حدها الأدنى والى وضع لبنان على حافة مستدامة للحرب الأهلية بما يمهد لتدخلات خارجية مُستدامة... هي الأخرى. وبالتأكيد، ليس بمثل هذه السياسات يمكن مواجهة ما يسمى المؤامرات الغربية، وليس التفاوض مع أميركا أو إسرائيل مبرراً لمنع التقاء أبناء البلد الواحد والشعب الواحد أو أبناء المنطقة الواحدة وبلدانها، كما لا يُمكن الاستمرار طويلاً في خوض حروب الكلام عندما يكون التفاوض قائماً، على عكس ما يعنيه الكلام زجلاً أو شعراً مقفى... أو نثراً. وربما لمعرفة الفرقاء اللبنانيين بمحاسن الزجل أرجئ موعد الحوار لاستكمال المصالحات، وهذا أفضل من انتظار تحولات السياسة الأميركية والإقليمية، فهم على الأرجح يعرفون ويشعرون بأن حسابات الآخرين لن تجعل منهم سوى أوراق أو ضحايا، ومن المفيد بالتالي أن يوفروا على أنفسهم ممارسة ممانعة ليس لها معنى إلا في قواميس لا تخدم في السوق المحلية قدر استخدامها في بازارات طهران واسطنبول. * من أسرة "الحياة"