تشهد المنطقة العربية والعراق عملية تعبئة مكثفة على الأرض وفي الاعلام ضد ايران متهمة اياها بالتدخل في العراق والوقوف وراء دعم قوى موالية لها في ارتكاب مجازر طائفية، ويترافق ذلك مع اتهامات من قبل الادارة الأميركية وبعض الدول العربية لايران بأنها تدعم الارهاب في العراق وتشجع على الفوضى وعدم الاستقرار. وما يثير الانتباه في هذه التعبئة، ان القيمين عليها يتجاهلون تماماً بأن هناك احتلالاً أميركياً للعراق جلب معه الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار والقتل والتقسيم لهذا البلد العربي محاولاً محو عروبته. ومن أكثر الأمور غرابة وفجاجة، ان يترافق كل ذلك مع تصوير خطة جورج بوش الجديدة على أنها خطة لانقاذ العراق. وهكذا يتحول عند بعض العرب الخطر الذي يتهدد الأمة العربية، انطلاقاً من العراق، من خطر الاحتلال الاميركي، الى خطر ايراني يستحضر فيه تاريخ الصراعات القديمة في المنطقة في إطار مخطط مدروس لنبش الماضي وجعله حاضراً ليسهل تعبئة العامة وقيادتها بالاتجاه الذي يخدم المشروع الاستعماري الاميركي، لاخراج جورج بوش وفريقه المحافظ المتشدد من حالة الانهزام والسقوط المدوي، الذي بدأ بتساقط قائد الحرب دونالد رامسفيلد والسفير الأميركي لدى الأممالمتحدة جون بولتون. إن من يتابع مسار الحرب الأميركية يدرك جيداً ان ادارة بوش كانت تستهدف منذ البداية اسقاط الدول الرافضة لمشروعها، التي تغذي المقاومات المتصاعدة ضد الاحتلال. ومن هذا المنطلق وضعت ضمن خطتها احتلال العراق وتحويله الى منصة، أو محطة ونقطة انطلاق من أجل تقويض استقرار كل من ايران وسورية باعتبارهما، وفق قاموس المحافظين الجدد، من دول"محور الشر"الداعمة للارهاب، وبالتالي يجب اسقاط النظامين الحاكمين فيهما، والاتيان بأنظمة ديموقراطية وفق مفهوم الشرق الأوسط الكبير الذي رسمته واشنطن للمنطقة، التي يجب تقسيمها وتفتيتها الى دويلات متصارعة، بما يجعل اسرائيل الدولة الأقوى المسيطرة في المنطقة. غير ان ادارة بوش فوجئت بأن قواتها، التي تملك أحدث الاسلحة في العالم، فشلت في احكام قبضتها على العراق، وغرقت في وحوله، وباتت عرضة لحرب استنزاف شرسة تخوضها ضدها المقاومة العراقية. عند هذه النقطة أصيبت الخطة الاميركية بانتكاسة كبيرة، وشعرت إدارة بوش بأن مشروع الشرق الأوسط الكبير غرق في وحل العراق، وانه بحاجة الى مساعدة لإنقاذه من الموت المحتم، ولهذا تصاعدت الأصوات من قلب الحزب الجمهوري الاميركي مثل شولتز، وكيسنجر تحذر من ان الورطة العراقية باتت تهدد مجمل المصالح الأميركية بالخطر ما يستدعي العودة الى السياسة القديمة في الاعتماد على الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة، بدلاً من العمل على التخلص منها وتقسيمها تحت عنوان نشر الديموقراطية، وقد تيقنت الادارة الأميركية من ذلك، بعد فشل عدوان تموز الاسرائيلي على لبنان، الذي نفذته اسرائيل بأمر من بوش من أجل ضرب المقاومة، والسيطرة على لبنان، وخلق التداعيات المطلوبة في كل المنطقة لفرض مشروع الشرق الأوسط الجديد، وزاد الطين بلة بالنسبة لادارة المحافظين الجدد فشل الحزب الجمهوري في الانتخابات التشريعية وسيطرة الديموقراطيين على الكونغرس بمجلسيه، ومن ثم صدور تقرير لجنة بيكر - هاملتون، الداعي الى إعادة النظر بالاستراتيجية التي اعتمدت في العراق والمنطقة، وسلوك طريق الحوار مع كل من سورية وايران، من أجل ايجاد طريقة للانسحاب من العراق بأقل الخسائر، وبما يضمن الحفاظ على منظومة المصالح الاميركية الاستراتيجية الحيوية في المنطقة، وفي مقدمها النفط ووجود اسرائيل. إلا أن بوش وفريقه قرروا اعتماد اسلوب المناورة اميركياً واستخدام تكتيك الاستعمار القديم عندما يصل الى طريق مسدود في مواجهة المقاومة وهو فرق تسد أي بث الفرقة والفتنة بين فئات الشعب المختلفة واختراع عدو جديد يصبح هو البديل عن مقاومة الاحتلال، الذي يشكل الخطر الأول والأساسي الذي يتوحد الجميع في مواجهته، فسارع الرئيس الأميركي الى وضع خطته موضع التنفيذ على خطين: الخط الأول: العمل على بث الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، بحيث يظهر أن الشيعة يعملون على ضرب السنة، والعكس، ويدخل المحتل الأميركي كطرف يسعى الى التهدئة وحماية الاستقرار. ومن أجل ذلك عمد الاحتلال بالتنسيق مع بعض الأطراف العراقية المتعاملة مع المحتل، والتي جاءت على ظهر الدبابات الأميركية، الى تشكيل فرق خاصة مهمتها القيام بسلسلة من عمليات التفجير والقتل على الهوية وإطلاق قذائف الهاون على تجمعات الناس أثناء إقامة مراسيم عاشوراء، ونسف المقام الديني في مدينة سامراء، والإقدام على مهاجمة مواطنين وقتلهم ونصب الحواجز لسيارات مدنية والاعتداء على المواطنين فيها، وتفجير السيارات المفخخة في الأسواق، وبث الشائعات التي تظهر أن هذا الطرف العراقي هو الذي أقدم على هذه الأفعال، وكان أكثر الأمور استفزازاً وخبثاً إقدام الاحتلال الأميركي على ترتيب عملية اعدام الرئيس العراقي صدام حسين، بطريقة تخدم مخططه لإحداث الفتنة وإذكائها، حيث قام بتسليمه الى السلطة العراقية. وكان من نتيجة ذلك أن تحقق هدف اذكاء الفتنة، كالنار في الهشيم، حيث صدق المواطنون العاديون أن من فعل ذلك هو التيار الصدري وليس الاحتلال وأدواته العميلة، وأصبح من الصعب اقناعهم بالعكس. ثم جرى اعدام عواد البندر وبرزان التكريتي وأرفق ذلك بخبر قال: ان رأس برزان انفصل عن جسده لاستفزاز مشاعر الناس التي استفزت فعلاً. ويمكن القول انه كما جرى ترتيب عملية إسقاط تمثال صدام، بعد سقوط بغداد، في محاولة لاظهار ترحيب الشعب العراقي بالجنود الأميركيين، وهو عكس ما كان في الواقع، تم التحضير لعملية اعدام الرئيس العراقي، وجرت دراسة تأثير ذلك على المسلمين في أول أيام عيد الأضحى، وكذلك الأثر الذي سيتركه اظهار اشخاص لحظة الاعدام يهتفون باسم السيد مقتدى الصدر. الخط الثاني: تحويل الصراع، من صراع بين العرب والاحتلال الاميركي، الى صراع عربي - ايراني، عبر تسخير كل تاريخ الصراع القديم واستحضاره للتأثير على الإفكار والمفاهيم واستثارة العرب ضد الفرس، وتصوير الأمر بالنسبة الى الدول العربية الخليجية بأن ما يجري هو تهديد ايراني لأمنهم وعليهم تشكيل جبهة للتصدي له، وبذلك تخلق ادارة بوش جبهة عربية في مواجهة ايران، من أجل محاصرتها، وتقوم هي بدور مساندة وتغذية هذا الصراع، كما فعلت في الحرب العراقية - الايرانية الأولى، التي قامت خلالها بدفع دول الخليج الى تمويل الحرب ضد ايران لإضعاف الثورة الايرانية، التي اسقطت الشاه وحولت ايران من دولة تحمي المصالح الاميركية والاسرائيلية الى دولة تتصدى للمشروع الأميركي - الاسرائيلي وتدعم المقاومة ضد الاحتلال في فلسطينولبنان. فكيف لعاقل أن يقتنع للحظة بأن ما يجري في العراق هو احتلال ايراني وليس احتلالاً أميركياً، أو أن هناك خطراً ايرانياً، وليس الخطر خطراً اميركياً على العراق والأمة العربية؟ فالكل يعرف ان اميركا تستهدف ايران من أجل منع دعمها للمقاومة وضرب مشروعها النووي خدمة لاسرائيل، فإيران ومنذ اسقاط نظام الشاه، باتت قوة مهمة مساندة للحقوق العربية، وحليفة لسورية، عوضت خروج مصر من دائرة المعركة ضد اسرائيل بعد اتفاقات كامب ديفيد. فكيف يكون هناك احتلال ايراني للعراق، وفي الوقت ذاته احتلال اميركي، ونشاهد القوات الأميركية تغير على القنصلية الايرانية في اربيل وتعتقل"الديبلوماسيين"الايرانيين فيها بحجة دعمهم للارهاب، ثم ان تقسيم العراق سينعكس سلباً على ايران التي تعيش فيها مذاهب واثنيات متعددة، فكيف تعمل طهران ضد مصلحتها؟ ان مصلحة العرب، خصوصاً المقاومة العربية ضد الاحتلال، تكمن في توطيد التحالف مع ايران في مواجهة المشروع الأميركي، الذي يستهدفهم، وبالتالي عدم الوقوع في شرك الخطة الاميركية المنصوبة لهم، والتي تسعى الى الايقاع بالجميع لانقاذ المشروع الاميركي من السقوط، وتحقيق مصلحة اسرائيل، كذلك على ايران ازالة كل الالتباسات التي يسعى المحتل وعملاؤه الى استغلالها لتشويه صورتها. وفي السياق نفسه يجب التنبه الى خطورة التعبئة المذهبية في العراق والمنطقة العربية، فليست كل الطائفة الشيعية مع اميركا، أو ان كل الطائفة السنية ضد أميركا، والصحيح ان هناك من الشيعة والسنة من يدعمون ويؤيدون الاحتلال الاميركي ويستندون اليه لتحقيق مآربهم الخاصة، وهناك من في السنة والشيعة من يقاتلون الاحتلال الاميركي ويرفضون مشاريعه ومخططاته، وما الحملة الاميركية على التيار الصدري لتشويه صورته حيناً بإظهار انه يقف وراء اعدام صدام حسين وعمليات القتل والفرز المذهبي، ومهاجمته واعتقال قياداته حيناً آخر، بوصفه خطراً على المشروع الأميركي، إلا دليل واضح على حقيقة المخطط الاميركي وزيف الحديث عن صراع سني - شيعي يقف وراءه المحتل للخروج من مأزقه. قد تكون هناك خلافات بين الأطراف المناهضة والمقاومة للاحتلال، لكنها خلافات في الرأي والتكتيكات على أرضية مواجهة الاحتلال، وعلى جميع هذه الأطراف ادراك ألاعيب المحتل وخطة بوش الجديدة لضرب الشعب العراقي بعضه بعضاً، والعمل على التصدي لها وتوضيح الحقيقة للشعب حتى لا يقع فريسة لمخططات الفتنة التي تلحق الأذى بالمقاومة وبنضال الشعب العراقي لتحرير أرضه وإزاحة كابوس الاحتلال عنه. * كاتب فلسطيني