يميل الناس الى الاستفاضة في الكلام على مخاوفهم من انتهاك خصوصياتهم حين تذكر كلمة الخصوصية. ويدور كلام بعضهم على سوء استخدام السلطات العامة صلاحياتها وانتهاكها الحياة الخاصة، ويخجل بعض آخر من خروج قصص غرامياته وقصص تعاطيه المخدرات الى العلن. ويستهجن آخرون لجوء شركات الإعلان الى تقصي تفاصيل حياة زبائنها الخاصة لتمطرهم بإعلانات منتجات تتناسب مع أذواقهم. وخرجت هذه المخاوف من دائرة العلماء والاختصاصيين الضيقة الى دوائر مشاغل الأميركيين الخاصة. فالحدود تكاد تتهافت بين الحياة الخاصة والحياة العامة. فمعظم الأميركيين هم على الخط، أي مرتبطون بشبكة الانترنت. والإدارة الأميركية تنتهك دوائر حياة الاميركيين الخاصة، وتتستر على تفاصيل عملية الانتهاك هذه. ولم يعد في متناول المرء أن يكون مغْفلاً. فالحكومة لن تدخر جهداً لتقصي معلومات عن حياة الواحد منا لمعرفة من هو. وثمة عوامل جديدة تحمل الناس على كشف معلومات خاصة بهم، وسجلاتهم الطبية. فالطب"الشخصي"، وهو يدرس تاريخ الشخص المرضي وخريطة جيناته، يتوسل هذه المعلومات في علاج الاشخاص، ووضع احصاءات عن نسب تفشي الامراض. ويهوى عدد كبير من الناس مشاركة الآخرين معلومات عن حياته الخاصة على مواقع التعارف الاجتماعي الالكترونية، في حين يخشى عدد آخر من اطلاع ارهابيين على هذه المعلومات. وفي وسع أي كان أن يعيش حياة شبيهة بحياة المشاهير على شبكة الانترنت، وأن يطلع الآخرين على تحركاته، وعلى تفاصيل تغيرات وزنه، وعلى حوادث نهاره السيئة أو الجيدة، وأن يعلق على امتعاضه من تسريحة شعره"المفركشة". ويميل الناس الى الخلط بين مسألتين، انتهاك الخصوصية وتقويض أمن الشخص. فيترتب على الأولى استياء المرء من كشف معلومات عنه لا يريد إعلانها للآخرين، في حين أن الثانية تقوض أمن الشخص من طريق توسل هذه المعلومات لسلبه المال، أو لقمع حرية تعبيره. ولا شك في أن الموازنة بين اخراج شطر من المعلومات الى العلن، وبين التستر على شطر آخر هي شأن فردي وشخصي لا ينفي الحاجة الى قوانين تؤطر هذه الموازنة. وحريّ بالناس التمسك بحق مساءلة المؤسسات النافذة، سواء كانت مؤسسات حكومية أو مؤسسات عالم الاعمال الكبيرة، في عصر إعادة رسم الحدود بين دوائر العلانية ودوائر الحياة الخاصة. فهذا الحق هو شرط حماية الحريات والموازنة بين مصالح الافراد ومصالح المؤسسات. وانتهاك خصوصية المرء لا يقوض أمنه فحسب. فكشف المعلومات الجينية والطبية الخاصة قد يعرض صاحبها لخسارة خدمات شركات التأمين الطبي. ويؤيد عدد من الناس حق من يعاني أمراضاً خطيرة أو مزمنة في إخفاء اصابته عن شركات التأمين الطبي ليتفادى دفع ثمن مرتفع مقابل خدماتها. ويخلط هؤلاء بين الحق في حماية خصوصية المرء وبين نموذج إدارة الاعمال في شركات التأمين الصحي الاميركية. فوراء انشغال الاميركيين بالدفاع عن حق الناس في التستر على تفاصيل حياتهم الصحية هو سياسة شركات التأمين. وهذه ترفع كلفة الفواتير الطبية للمصابين بأمراض مزمنة. ويخشى بعض المراقبين أن تطلب هذه الشركات من زبائنها الخضوع لفحص جيني للوقوف على احتمالات اصابتهم بالامراض. ولكن الرئيس جورج بوش بادر في أيار مايو المنصرم الى التصديق على قانون يحظر التمييز بين الناس استناداً الى بياناتهم الجينية. وعليه، يحول هذا القانون دون سوء استخدام شركات التأمين والتوظيف بيانات الزبائن والموظفين الجينية. ولا شك في أن القوانين التي تحمي خصوصية المواطنين ضرورية لتنظيم علاقاتهم بالمؤسسات الحكومية التي تجمع المعلومات عنهم. ولعل أنجع القوانين في حماية دوائر الحياة الخاصة من تطفل الاجهزة الحكومية هي تلك التي تقيد صلاحيات هذه السلطات، لا تلك التي تلتزم احترام طابع هذه الدوائر الخاص. وطوال عقود، كانت وسائل الاعلام أبرز وسيلة لاطلاع المواطنين على أعمال الحكومة، ومراقبتها، ومساءلتها. وفي وسع المواطنين اليوم أن يقوموا بمساءلة الحكومة ومراقبتها، وفضح انتهاكاتها من طريق شبكة الانترنت ووسائلها، على ما حصل في 2004، يوم خرجت صور تجاوزات معتقل أبو غريب الى العلن. فالشبكة الالكترونية هي منبر يطل منه مستخدمها الشبكة على العالم، ويعرض أمام الملأ ما يشاء. فالناس تتبادل على مواقع التعارف الاجتماعي الالكترونية ومواقع تشاطر الملفات تقارير منظمات غير حكومية. ويتناقل الناس محتوى هذه التقارير في رسائلهم الالكترونية والخليوية. والى وقت قريب، لم تعبر معلومات تتناول ما فعله المرء في حياته الخاصة القارات من بلد الى آخر، ومن منطقة الى أخرى، ومن شارع الى آخر. ولكن مفهوم ما هو خاص يتغير. ويستهجن الراشدون والمسنون التفاصيل التي ينشرها المراهقون على موقعي"فايسبوك"و"ماي سبايس". ولا شك في ان الأولاد والفتيان لم يفقدوا حس الخصوصية، وهم يبالون بآراء الآخرين في ما يفعلون. ولكن، على خلاف جيل الآباء، تدور حصة راجحة من حياتهم في دوائر العلن، عوض دوائر الخاص. فالحدود بين العلانية والحيز الخاص تتغير. ففي القرن التاسع عشر، درج الناس على الاشتراك في استخدام سرير واحد او غرفة نوم واحدة. وكان الاولاد ينامون في غرفة والديهم، أو يشتركون في استخدام غرفة واحدة. واستعان أثرياء القوم بالخدم لمعاونتهم في ارتداء ثيابهم، والاهتمام بحاجاتهم الحميمة. وطوى القرن العشرون صفحة هذه العادات والتقاليد، وصاغ مفهوماً جديداً عن الخصوصية الجسدية والشخصية. وثمة منعطف جديد في عالم الخصوصية على الشبكة الالكترونية. ففي وسع مستخدم عدد من مواقع التعارف الاجتماعي، على غرار"فايسبوك"، أن ينتقي ما يريد أن يعلنه أمام مجموعة من الناس أو الاصدقاء والاقارب، وما يريد ستره عن مجموعة أخرى منهم. فثمة مراتب ودرجات في العلانية. وقد يعلن المرء امام طبيبه وزوجته وأصدقائه وزملائه في العمل التزامه نظاماً غذائياً لتخفيض وزنه. ولكنه قد يتستر على إجرائه عملية زرع شعر الرأس عن زملائه في العمل، ويعلم زوجته وأصدقاءه المقربين بالامر، ويسكت عن معاناته عجزاً جنسياً عن الآخرين. ويبدو أن الناس يميلون الى الاستعانة بخدمات مواقع توفر لهم وسائل صنع صورتهم وإخراجها على الشبكة الالكترونية، أي تركيب صورة شخصهم وميوله، وتقديمها على أنها هم. وجليّ أن تعاظم حصة العلانية في حياتنا لن يغير طبيعة العلاقات المركبة، ولن يبسطها. فالغموض هي صفة تكاد لا تبارح العلاقات الاجتماعية، سواء خرجت تفاصيلها الى العلن، أو بقيت وراء الأبواب المغلقة. عن إستر ديسن، "سيانتيفيك أميريكن" الاميركية، 9/2008