"ظهرها إلى الحائط" هو الديوان الثاني للشاعر علي عطا بعد ديوانه "على سبيل التمويه" الذي صدر في 2001 عن"الهيئة المصرية العامة للكتاب". الديوان الجديد صدر حديثاً عن دار"شرقيات"في القاهرة، ويضم اثنتي عشرة قصيدة كُتبت بين القاهرة والرياض بين عامي 2002 و2006. يقدم الشاعر تجربة في شعرية عالم افتراضي، عالم كالذي تحركه فأرة على شاشة الكومبيوتر، حيث كل شيء حقيقي جداً، وزائف تماماً في الوقت نفسه: "ما الذي جعلني أدعوها"حبيبتي"/ فيما الأثير بارد كجثة / والورود والقبلات والأحضان / وحتى فنجان الشاي / والوجوه المبتسمة والحزينة والخجولة/ مجرد صور تحركها فأرة". ص 13 يكفي للتماهي مع هذا العالم، بحسب وَصْفة الذات الشعرية، أن يكذب المرء متعمداً، ولا يتوقف طويلاً أمام تأنيب الضمير:"أنا الذي يكذب متعمداً / ويكاد من فرط تأنيب ضميره / أن يقول: /"انتبهوا... أمامكم كاذب". ص11 وفي موضع آخر من القصيدة الأولى نفسها التي تحمل عنوان"صور تحركها فأرة"، يضيف الشاعر:"فيبتسم المولعون بالكذب/ وأحياناً يقهقهون: نعرفك أكثر مما تعرف نفسك / لكنني أبداً لا أصدق/ وأبكي بحرقة كلما استدرجتُ بنتاً/ إلى غرفتي الافتراضية. ص11 وأن يظل على الصراط بين الواقع واللاواقع، الحقيقة والخيال، ميالاً إلى تصديق ما لا يوجد:"ربما أكون عرفت بنتاً اسمها ريم/أو لم أعرفها/ لكنني أحتاجها الآن". ص17 ولأن عالماً كهذا تسوده حقائق وأكاذيب وانطباعات وقناعات لا يمتحنها المرء، إذ يكفي أن تكون سائدة، أو قابلة للتصديق، لتصبح من قناعاته التي تشكل عالمه، نجد الذات الشعرية تقول:"لا أذكر أني شاهدت أياً من أفلام مارلين مونرو/ ومع ذلك أتذكرها/ كلما شاهدت فيلمًا لهند رستم/ أو مرّت بخاطري البنت مريم". ص19 والذات التي تتعمد الكذب، الذات المفرَّغة من المشاعر الحقيقية تجاه طرائدها، تقول: في القصيدة التي يفتتح بها الديوان أيضاً:"كتبت البنتُ الرقيقة/ احضني في حدودك/ وكتبتُ أنا كلاماً ليس من القلب". وهو ما يؤكده في مكان آخر، وفي علاقة أخرى: "دعتني إلى الرقص/ ثم قالت فجأة/ تزوجني وأنا على ديني/ وأنت على دين أمك/ كانت تقهقه بصخب في تلك الليلة/ لكنها أحرقت قلب أمها عن عمد/ عندما سكبت البنزين على ملابسها الرثة/ وأشعلت الكبريت". ص20 الرجل الافتراضي لا يأسف لانتحار الحبيبة، لا يشعر بالألم أو الفقد، إنه، ببساطة، يكتفي بكلمات جارحة في حياديتها، قائلاً: إنها أحرقت قلب أمها!"هذا البطل الافتراضي، في الديوان، يقدم قصائده إلى محبوبةٍ، لا يشدّه إليها سوى استداراتها المحكمة، كما يقول في الإهداء الذي يتصدر الديوان:"بعدك وقعت عمداً في حب كل امرأة صادفتني". إن أحداً لا يقع عمداً في الحب، ومع كل امرأة يراها وما يعنيه في الحقيقة هو الإغواء، وهو أمر متعمد بالطبع، والذات الافتراضية تفعل ذلك، خالطة بين الوهم والحقيقة، في عالمها، الأمر الذي يجعل بعض طرائده يكتشفن الزيف ويبتعدن:"كتبتْ ماريا/ الرجال هم الرجال في كل العالم/ ثم أغلقت الكاميرا/ عندما أخبرتُها بأنني متزوج". ص18 هناك أمثولة أخرى للكاميرا، لكنها ليست في يد المرأة هذه المرة، بل في يده هو، ومع امرأة أخرى:"لا أفهم / لماذا لا تنظرين نحوي كلما حدقتْ آلةُ التصوير/ في صدرك المصبوغ بلون البرتقال? ص78. الأولى تغلق الكاميرا، لأنها لا تريده معها في العالم الذي تحلم به، والثانية تهرب من آلة التصوير في يديه، لأن الصورة ستجعلها جزءاً من ذاكرته. اكتشفت ماريا بعد أسبوعين انه رجل مثل كل الرجال، طالبُ نزوةٍ لا أكثر، فأغلقت الكاميرا دونه. أما الأخرى/ المتمرسة، التي تخبره بأنه لا يشبه أياً من أصدقائها، فهي تعيش عالماً افتراضياً أيضاً، لكن بشروط أقسى، وبانضباط يجعلها تتحكم في اللعبة:"بمقدورنا ارتكابُ حماقات/ ليس بينها الحب". ص 56"فأجاريها: في السيارة، وعلى الهاتف/ وفي المقهى/ وداخل المصعد/ ثم يحل الصمت فجأة/ ونتبادل كلاماً تافهاً يليق بمجرد صديقين". ص69 وهو ما يجعله يخرج من الدور الذي يمثله، فيشعر بالخديعة ويبدأ في التهاوي: تماماً مثل كل أصدقائك الذين كنت تقولين/ أنت لا تشبه أياً منهم/ أنا الآن مجرد مهرج في بلاطك/ كأنما ستكتفين بصوتي الذي يأتيك كل يوم قبل النوم/ يشاطر أعضاءك الصخب حتى تهدأ". ص55 وفي انحداره مع القوس لا يتبقى له سوى استعادة استحلاب ما ناله من فاكهتها، عبر الذاكرة أو الحلم:"ليتها تناوشني كما في ذلك الحلم القديم/ الجديد". جاء الحلم في قصيدة أخرى هي"وجوه تتسكع في الذاكرة":"هذا ما تبقى في ذاكرتي من حلم ليلة أمس/ وجه امرأة تقول لزملائنا في العمل/ سأتخذه ولداً/ ثم مجرد لمسة من شفتيها المتشققتين/ فشهقة منتفض فوق فراش مهجور/ منذ شهرين". لعنوان الديوان"ظهرها إلى الحائط"أكثر من دلالة، أقربها بالطبع ما يرشح من تجربة بطلة القصيدة صاحبة العنوان، لكني أجد العنوان دالاً أيضاً على المرأة التي تدافع عن عالمها الافتراضي، مؤمنة ظهرها لتتمكن من فعل ذلك. لقد نبهته إلى طبيعة اللعبة وحدودها، نبّهته ساخرة:"ستقول بعد قليل: أحبك/ وتنسى وعد التوغل برفق/ وتختصر المسافة الموصلة إلى الفقد". لكنه كان أصبح مغرماً بالفعل، فكسر العالم الإفتراضي من جانب واحد، مما يذكرنا بعذابات أورفيوس، عندما أذهله الوجد عن الشرط، والتفت ليرى الحبيبة، فكانت الرؤية / الفقد:"ليتها تفر ثانية إلى الساحل/ وتغلق هاتفها/ حتى لا أفسد استعادتها حباً قديماً". يصنع علي عطا هذه التراجيديا عبر تقنيات المونودراما، كما في قصيدة"تواطؤ"، وتقنية الحلم، حيث تُختزلُ التجربة في أيقونة مكتفية بذاتها. ويصنع هذه التراجيديا أيضاً عبر التعامل مع أشكال من السرد تتراوح بين الوجازة والاستطراد، وعبر بناء العالم من المشاهد الحية في الواقع، أو الذاكرة، كما يقدمها من خلال لغة رائقة بسيطة، وعبر مجازات مبتكرة وجميلة، لكنه في بعض القصائد، وهي قليلة حقاً، تقوده غواية السرد فيتركنا أمام النثر ليس إلا.