الضجة التي أثارتها محاضرة الشاعر أدونيس عن بيروت قبل فترة كادت تطغى على صدور ديوانين جديدين له عن دار الساقي. والديوانان يمثلان المرحلة الجديدة التي يجتازها شاعر "مهيار الدمشقي" واللافت فيها تجربة الحب التي خصّها بديوان خاص عنوانه "أول الجسر آخر البحر". ولعلها المرّة الأولى يكتب فيها أدونيس كتاباً عن الحب، ولكن انطلاقاً من رؤية خاصة جداً. هنا قراءة في الديوان الأول: "تنبّأ أيها الأعمى". إنّ قراءة النص الأدونيسي تستلزمُ رحلةً لا مناص منها بين نصوصٍ عدة، تنتمي إلى ثقافات مختلفة، وأزمنة مختلفة، تتشابكُ وتتفاعلُ في ما بينها، من خلال رموز وشخصيات مركّبة، تأتي تارةً من سحيق الذاكرة الجمعية للغة الشعرية، وتارةً من مخيلةٍ فردية استشرافية لشاعرٍ خبر لغته وأحوالها. وذلك في تجسيدٍ لافتٍ لقلقِ البحث عن المعنى، وقراءة العالم كمرثيةٍ مطوّلة، يشترك في صوغها شعراء وفلاسفة ولاهوتيون ومغامرون بدءاً من جلجامش وهوميروس وأوفيد مروراً بالمتنبي وجويس وابن رشد وإليوت، وغيرهم. جميع هؤلاء تتقاطع أصواتهم، بدرجات متفاوتة بالطبع، في نص أدونيس، كأنما في تجسيد حي لمقولة الشاعر الإنكليزي شللي، الذي يرى أن الشعراء جميعاً يشتركون في كتابة قصيدة واحدة هي دوماً في طور النموّ والاتساع. في كتابه "تنبّأ أيها الأعمى" الصادر عن دار الساقي - 2003، يقدّم أدونيس نصّاً معرفياً مفتوحاً، تتلاقى فيه إشعاعاتٌ مختلفة" نصّاً يسير متموّجاً، وليس مستقيماً، يتشعّبُ ويتفرّعُ في كل اتجاه. في محرق هذا النصّ، نرى الماضي يغور في المستقبل، فيما يظل الحاضر لحظةً مؤجّلة بين هذين القطبين. أي أنّ ما نسمّيه الرّاهن ينزاحُ ويميلُ وينحرفُ، هاجراً مركزه السّقراطي، لا ليشدد على علوّ أو عمق، بل ليقيمَ في الانزياح نفسِه، متوغلاً في نسيج اللغة، وطبقاتها المتداخلة. فالمرئي لا يُرى إلاّ من خلال الرّمز، والمعيوش لا يُعاش إلاّ من خلال الاستعارة. ناهيك بأن المركز لم يعد مركزياً، ولا الكلمة جسداً. ولم تعد وظيفة اللغة إثبات الحقيقة أو نفيها، بل الاحتراق المستمرّ في لهب الاختلاف. ليست الحقيقةُ سوى استعارة تحجّرت، والوصول إليها ليس سوى ارتحالٍ دائم باتجاهها: "ليس للحقيقةِ جسدٌ لكي نلامسَه/ وليس بينَنا وبينَها غير اللّهب". ص 74. يطرح أدونيس في ديوانه أزمةَ الرائي الأعمى في عالمٍ "أعمى" يحارب الرؤيا وينفيها، هذا الرائي الذي يعرف ما لا نعرف، ويحدس بالكارثة قبل وقوعها. إنه دليلنا إلى عائلةٍ من القتلة أو القديسين، يرسمُ أدوارَنا، كقرّاء ومؤولين، نحن أحفاده "المبصرين"، أبناء أوديب وقابيل. الجذر الأسطوري لهذا الرائي يمتدّ إلى معبد طيبة وحارسه المعتم، تيريزياس، الذي يظهر في تراجيديات سوفوكليس كعرّاف وساعي بريدٍ للآلهة الاغريقية. كما أنه يظهر لاحقاً في قصائد الكثير من الشعراء، ومن أبرزهم إليوت. والحق أن أدونيس يسمّيه، صراحةً، في قصيدته "كونشيرتو، 11 أيلول سبتمبر" واصفاً إياه بالملهم الذي يوسوس في قلوب الشعراء عن أسرار الغيب، ويكشف لهم عن ظلام المعرفة، مضرماً الإشراق في أرواحهم: "وكانت نبوءات تيريزياس/ في ما بعد ملأت عيني هوميروس بظلمةٍ تنحدر" ص 129. إنه تيريزياس الأعمى، إذاً، يرى ما لا يراه المبصرون، يلجأ إليه أدونيس ليكون عيناً له ترى في الظلام: "عينٌ بلّورية تقرأ لمن يريد أن يصغي" ص 189. في تجلياته الكثيرة لدى إليوت، يقتحم تيريزياس قصيدةَ "الأرض الخراب"، في القسم الثالث منها، المعنون "عظةُ النار"، حيث نراه جالساً عند جدران معبد طيبة، يناجي نفسه: "أنا من مشى بين أكثر الأموات انخفاضاً"، للدلالة على دوره الكهنوتي، كمؤوّل أحلام، هناك في تلك المنطقة المظلمة من الوعي الإنساني. وعلى رغم أنه مجرد شبح أو متفرّج، وليس "شخصية"، كما يقول إليوت، لكنّ صوته هو الأكثر أهميةً في نبوءة اليباب، إذ "إنّ ما يراه تيريزياس، في الحقيقة، هو جوهر القصيدة". لدى أدونيس، يظهر هذا الأعمى، كقارئ للغد، لابساً وجه "قايين" في القصيدة الأولى من الديوان المسمّاة "سجّيل". لكنه يفترق عن رائي إليوت في أنه لا يأتي من عالم الأموات، بل الأحياء، حيث يعتلي مسرح الجريمة، شاهداً ورائياً. يرى أعمى أدونيس الحياة مؤسسةً على الدم، متجسّدة في قابيل، أوّل الرّائين: "كم كان قايين رائياً،/ ولم يسر في التيه" ص10، ورؤياه قائمة على القتل بصفته كيمياء المخيلة البشرية، إذ "منذ قايين، والدم شهوة أولى" ص 105. أدونيس يقدّم الأعمى كشاهدٍ على جريمة، إذاً، هي دوماً في طور الحدوث، في عالم أجوف يسكنه أخوةٌ أعداء. في قصيدة "أفصحي، أنتِ، أيتها الجمجمة"، يكرر أدونيس لازمةً شعرية محورية، هي بمثابة أرضية متحرّكة يقف عليها الأعمى، هذا الهابط دوماً إلى العالم السفلي، من خلال استشرافه غيباً مكفهراً لا ينذرُ سوى بالتوحّش والدّم: "- فلكٌ من دم. الهبوطُ. يدُ الغيبِ ممدودةٌ./ - لا أظنّ يدَ الغيبِ إلا دماً" ص 34. كل ما يراه الرائي يميل إلى اللون الأرجواني، لون الدم، والكون يدخل فلكَ التلاشي، وربما الانقراض، في عالم يكتظّ بالرجال الجوف، حيث التصحّر، والضلال، والخواء: "لم يكن ضوؤنا/ غير وهمٍ، ولسنا سوى بشرٍ من ورق" ص43 . ومثل السيد بروفروك، إحدى شخصيات إليوت في قصيدته "أغنية حبّ لألفرد بروفروك"، الذي يهبط إلى العالم السفلي لمدينة لندن، ويقول: "أنا لستُ نبياً... لا! لستُ الأمير هاملت، ولم أولد لأكونَه"، يقفُ الرائي في قصيدة أدونيس، على الحافّة، منبوذاً، منكسراً، أجوفَ اللحظات، قاسياً في اعترافاته حدّ المفارقة، ليقول: "لستُ جلجامش ولا يوليس. لا ذاهبٌ ولا عائدٌ، ومن أين لي أن أكون نبياً؟" ص 15. هنا يندمج صوتُ العرّاف، لدى الشاعرين، بصوتِ الإنسان المهزوم، والمنكسر، في رؤية بانورامية للخراب الكوني. الرائي الأدونيسي بطلٌ من دون بطولة، تماماً مثل سلفه الإليوتي، حيث لا ذهاب ولا إياب، لا سفر ولا رحلة، لا نبوءة ولا خلاص. وقد كنّى أدونيس عن هذا اليباب الجديد/ القديم بنشيد شبه جنائزي عن البحر الميت، في قصيدته "كونشيرتو تأويلٍ آخر لمخطوطات البحر الميت" مستحضراً ضحالة الواقع وخواءه، قديماً وحديثاً، فهو بحيرة سدوم وعمورة، وهو البحيرة الميتة أو المقلوبة. وهو أيضاً المشهد الراهن بكل قبحه وملوحته حيث أيامنا "أيامٌ لا تكفّ عن السباحة في البحيرة المقلوبة/ أيامٌ مقلوبةٌ كمثل هذه البحيرة" ص 86. ويقتبس أدونيس حاشيةً من جيمس جويس في روايته "عوليس" ليختمَ نشيده برؤيةٍ عدمية لكل الأساطير التي ولدت من مائه، فبحرُنا "بحرٌ ميتٌ في أرض ميتة، رمادية عتيقة، قديمة الآن" ص 96. وفي توظيفٍ مدهش لطريقة اندريه بريتون في التداعي الحرّ، أو طريقة رامبو في تشويش الحواسّ، أو تقنية إليوت في خلخلة الحساسية الرومانسية، يلتقط أدونيس في قصيدته "تقويمٌ للفلك 2001" لحظةَ غسقٍ ناتئة، تصعّدُ القلقَ الوجودي للرائي المعاصر إلى ذروته، وتعلنه لا منتمياً، منبوذاً، يدعو خلخلة الهارموني المزيفة، و"يقولُ لحواسّه:/ أخطئي/ إن شئتِ أن تصيبي" ص68 ، وهو أيضاً الشاعرُ الوحيد، المنفي، الهاذي، الملهَم، الملهِم، الضائع، المنبوذ، حيث لا أرض له ولا سماء: "في الهواء، في لا مكان/ عمّرَ الشاعرُ بيتَه/ واتّخذَ من الهجسِ والأرقِ والصمتِ/ أصدقاءَ له" ص 74. هذا القلق الوجودي يرافق أدونيس في رحلته مع دانتي، عندما يزور كنيسة القديسة مارغريتا، والتي سميت باسم دانتي، ويستحضر مخلوقات هذا الأخير المصلوبة بين المطهر والجنة والجحيم، في قصيدة "كونشيرتو الطريق إلى كنيسة دانتي"، حيث يعلن أدونيس أنّ دانتي ليس سوى ضريح متداعٍ، فالنحت يتداعى، والأشياء تتداعى، والأفق يتداعى، فهذا ليس زمن دانتي، أو زمن الإشراقات، أو زمن معراج الروح إلى خالقها. دانتي وحبيبته بياتريس، ليسا سوى كائنين مصلوبين، يضيئهما قمرٌ مقيّدٌ بالسلاسل: "أوه، دانتي! هذه الليلة رأيتُ قمرَ فلورنسا. لم يعد يمدّ ذراعيه كما كان يفعل في سريرِ أيامكَ. لم تعد ترنّ في قدميه، في طريقه إلى أحبابِه، غيرُ السّلاسل" ص 106. وللدلالة على هذا القحط الكوني، يدين أدونيس الحضارة، التي حوّلت معمارَ الشّاعر الإيطالي إلى طلل تصفر فيه الريح، مؤكداً أن لغمها قابلٌ للانفجار في أية لحظة: "خُيلَ إلي أنني سمعتُ الفضاءَ يقهقهُ ساخراً من حكمِ الإعدامِ الذي أصدرتُه على دانتي مدينُته الأمّ" ص 105. وفي قصيدة أخرى يخاطب فيها صديقه جاك بيرك بعنوان "أتخيّل شاعراً" يؤكّد أدونيس ضرورة انبعاث دانتي من رماده، واغتسال الأرض من أدرانها، وخروج أبجدية جديدة من رميم الأبجدية القديمة: "ما أحوجَ هذا البحرَ المتوسطَ/ إلى أن يجيء ثانيةً من طفولة الأبجدية" ص 166، وذلك في رؤية تضادّية لمشهد البحر الميت، بأسماكه المتحجّرة، ونباتاته القاحلة، وبشره الجوف. كل حالاتِ هذا الأعمى/ الرائي، التي يصفها أدونيس في القصائد السابقة، تأتي كتمهيدٍ لآخر قصيدة في الديوان التي تحمل عنوانه "تنبّأ أيها الأعمى"، وما يتبعها من مزق شعرية أوردها الشاعر كحواشٍ لاحقة. أدونيس يختتمُ نشيد الأعمى بالتشديد على أنّه النمط الذي يتوالد منه الشاعرُ والمتمردُ والمتهمُ والبريءُ والمفكرُ والصعلوكُ والكاتبُ والسائلُ والخلاّقُ والمنفيُ والضالُ والفيلسوفُ، وكل هذه الصفات جاءت على شكل نصوص أو شذرات سمّاها أدونيس "صوراً وصفية لحالات أملتها نبوءاتُ العمى"، حيث تستوقفنا، بشكل خاص، قصيدة "حالة المنفّي" التي تؤكّد السبي والنفي، والقلق واللاتجّذر، وتلخّص سيرة الشاعر أدونيس نفسه، لابساً قناع تيريزياس، المقيم - المهاجر، أدونيس الذي "فرّ من قومه،/ عندما قالت الظلماتُ: أنا أرضُه وأنا سرّها. كيف، ماذا يسمّي بلاداً/ لم تعد تنتمي إليه، وليس له غيرها؟" ص 207. أدونيس، هذا الحائر الكبير، المجدّدُ والمتجدّد، يلتقطُ إيقاعات الرائي وحالاته الكثيرة، يقلبها بين كفّيه كصانعٍ ماهر، ثمّ يزجّ بها في أتون السيمفونية الشعرية التي حلم بها يوماً الشاعرُ الإنكليزي شللي، مضيفاً وتراً جديداً الى قيثارة أورفيوس السّاحرة.