استحق عبد الإله الصالحي، الشاعر المغربي المقيم في فرنسا، جائزة الديوان الأول لبيت الشعر في المغرب، في دورتها الأخيرة، عن باكورته الشعرية "كلما لمست شيئاً كسرته" الصادرة عن دار توبقال للنشر. وكشف عبد الإله الصالحي، منذ التسعينات من القرن الفائت، عن روح شعرية متوثبة وصدامية، تبحث عن صيغ أكثر"رعونة"لرج المشهد الشعري، وضخ دماء"فاسدة"في شرايينه، من خلال انضمامه الى حركة"الشعراء التعامديين"في فرنسا، ومساهمته، مع الشاعر جلال الحكماوي، في مجلة "اسراف2000" التي عبرت، على رغم عمرها القصير، عن جماليات توتر ومعارضة، هي جزء من جماليات جيل من الشعراء"الملاعين"في المغرب. في ديوانه"كلما لمست شيئاً كسرته"يقطع عبد الإله الصالحي الشوط الأول من تجربة شعرية تنظر الى العالم بغضب واشمئزاز، فيما هي تستثمر تراث القلق الحديث بدءاً من السريالية والانتفاضة الطالبية للعام 1986، وصولاً إلى حركات الاحتجاج الأخرى، لتضيف إليها شيئاً من حدة النظرة الشخصية التي تصطدم بالواقع، فتحول صدامها إلى قصائد عارية شديدة اليأس والانتهاك. قصائد تتقدم، في حقل الشعر، بلا خلفية ميتافيزيقية، وتنحصر"انطلوجيتها"في الالتصاق بجلد الواقع، استنفاذه، والسخرية منه، دونما رغبة في تغييره أو الإيمان بواقع أسمى منه. قصائد عبد الإله الصالحي بلا أفق، والباب الوحيد الذي تخرج منه إلى الحياة هو ذاته باب العودة إلى الذات، حيث الهزائم أو الانتصارات اليومية، ليست، في النهاية، إلا إخفاقات وجودية يتغذى منها يأس القصيدة، وتبني به جملها القصيرة الحادة، أو الطويلة الملتوية، الناسجة لمتخيل الحياة في فضاء المدينة، حيث الذات على موعد دائم مع الصراع والتوتر والحرمان أو اللذة المهربة، وحيث الشبع ذاته ليس إلا جوعاً لشيء ما يقبع للقصيدة في طريق العودة. وقصيدة"جيل القمامة"، بعنوانها الصادم، هي واحدة من القصائد الإحدى والثلاثين التي تعبر عن روح المجموعة، فترفع الغضب إلى مستوى تجربة جيل بكامله:"في الدار البيضاء، في باريس/ في الرسائل، في الصور التذكارية/ في القصائد أو عبر الهاتف/ سيشجعون الزجاج على التطاير/ بهدوء/ ومرارة" ص60. إنها وضعية عصيان تجد فيه الذات الشاعرة تغذية لنزعة فوضوية متأصلة تتقاسمها مع شباب"جيل القمامة"، الموزع بين المدن والعواصم حيث:"الزحام وضع مثالي/ لخنق الأمل" ص60، وحيث الذين"قامروا بالشهادات/ تخلوا باكراً عن واو الجمع/ استبدلوا العيون والأسنان/ وأدمنوا أفواههم في مص/ نخاع عظام كبيرة"ص 61 و62. تستلهم قصائد الصالحي فضاءات الهجرة وأجواءها من دون أن تجعل من"الإلهام"منفذاً لانبثاق القول الشعري. لذلك فهي لا تتكئ إلا على جراحها في مطاردة جولات الذات وتسكعها الذي لا تجني منه إلا الخيبة. غير أن هذه الخيبة، في حالة الشاعر عبد الإله الصالحي، تصبح هي الزاد اليومي الذي تتغذى منه الشاعرية لتصنع مقاومتها الخاصة في الشعر كما في الحياة. وبذالك يصبح الصنيع الشعري بعيداً كل البعد من الرومانسية وموصولاً جوهرياً بتجربة القلق الآن وهنا، التي تجعل الذات تتساءل في"دروس باريسية"التي تفتتح الديوان:"ماذا لو كنا في الواقع مجرد شخصيات ثانوية/ لا تتحمل أدنى حبكة؟"ص9. إن الدفع بهذه"الشخصيات الثانوية"في قلب المشهد الباريسي هو، في الحقيقة، ما يولد المفارقة التي تعالجها الذات الشاعرة بطاقة الانتهاك، وبالقدرة على السخرية وإغراق المواقف التراجيدية في هالة من الكوميديا السوداء. ومن أوجه المفارقة، في الديوان، أن الذات تستعجل النهاية، أو هي على الأقل، تطل من أفقها على كل فعل تفتتحه أو تقبل عليه. فمساحة الفعل تبقى صغيرة وزمنه يبقى سريع الاستنفاذ. من هنا تنتهي القصيدة الأولى بهذه العبارة:"جئنا إليكم كي تتأكدوا أننا انتهينا/ قبل أن نبدأ" ص13. وسرعة الاستنفاذ هي المبدأ الذي يحكم علاقة الذات بفضاءات الهجرة، فباريس، المعشوقة التي يتنافس على حبها، بشراسة، آلاف العشاق، سرق الشاعر قلبها في"طرفة عين"، وربما استنفذه بالسرعة ذاتها وبسادية صريحة:"رميت عقلها في صندوق قمامة/ لحست ما تبقى من عطرها على كتفي/ انتهت قصتنا كما ابتدأت. تفصيل صغير في روايات الآخرين" ص56. هذه النهايات السريعة بقدر ما تكشف عن صلابة الواقع وهشاشة العلاقات تكشف عن مزاج شعري انفعالي سريع السأم. وهو ما تعيه الذات الشاعرة جيداً، عندما تصرح في قصيدة"أمنية":"أتمنى أن لا تشبهني قصائدي أبداً. فأنا رجل عصبي لا صبر له/ بطني متهدل/ وأسناني الأمامية شديدة الصفرة/ كما أنني نذل/ وتنقصني الكرامة" ص24. لم تعد باريس ذلك الفضاء المديني الذي يلهم بأضوائه وفتنته العابرة الشعراء، والشاعر لم يعد ذلك الجوال الليلي المأخوذ بأشكال الفتنة النائمة والذي يعمل على إيقاظها بحسه المرهف بحثاً عن تلك اللحظة الدقيقة من الفن التي يجتمع فيها العابر بالمطلق والتي سماها بودلير في"رسام الأزمنة الحديثة"بالحداثة. وعلى رغم تصريح عبد الإله الصالحي"شارل بودلير أقرب إلينا من أبي تمام"ص65، فان القرابة لا تتعدى تجربة التسكع إلى ما يكمن خلفها من نتائج على مستوى الفن. فسأم عبد الإله الصالحي ينتهي إلى فن عار والى لا يقين في الشعر، على رغم امتصاصه أصوات الاحتجاج ولهجه بالغثيان:"نتقيأ المستقبل كل صباح/. التقدم يحمل وزرنا بحروف بارزة. يخذلنا الكحول والشعر أكثر فأكثر"ص65. إن سأم عبد الإله الصالحي هو أقرب ما يكون إلى سأم السورياليين لولا هذه القصدية في الكتابة والوعي الذي يذهب إلى الفعل فيبني القصيدة ويتعهد طاقتها على التدمير التي تبقى طاقة مراقبة، بحيث لا يتفكك البناء ولا تنهار الجملة الشعرية، من دون أن ينال ذلك طبعاً من حدة القصيدة ووحشيتها أحياناً:"بنزف المعدمين أزاحمكم/ بدمي الملوث/ وفهمي الضيق للأشياء"ص 29. كثيراً ما تهرب قصائد عبد الإله الصالحي من يأس الحياة إلى فضاء الحب. غير أن هذا الفضاء لا يخلو لديها كذلك من توتر هو عصب الكتابة في الديوان. ويبدو أن الذات تذهب إليه محملة بندوبها وجراحها ونزقها أيضاً. وهي في انشدادها إلى حسية غريزية لا تعثر في الحب على مطلق مخلص، بل تجد فيه ما يفتح مجالات أخرى للصراع اليومي الذي أصبح يقتحم كذلك منطقة الحميمي في الإنسان. لذلك يصرح الشاعر:"هزائم الحب فتكت بالكثير منا/ شردت الآلاف، وبسببها اختفى الكثيرون عن الأنظار". وعلى رغم ذلك، من حين لآخر يظهر محارب ما، شاب على الأرجح، ملوحاً براية رثة، هازئاً بجبروت الواقع وطاحونته الدموية. انه على يقين بأن لوعته أكثر قيمة من السيارات الفارهة التي تحاصر محبوبته الفقيرة وبأن صدق الإحساس سلاح مدمر يكفي إشهاره كي تحسم المعركة" ص17. والنبرة التبشيرية التي ينتهي بها هذا المقطع من قصيدة"جبهة الحب"سرعان ما تتلاشى، ليعود الحب إلى جبهة الصراع من جديد، باحثاً عن الارتواء، زاجاً بالذات في منطقة الحرقة والترنح:"مثيرة وشامخة./ من فمها تسيل وعود مبهمة./ هي ترشف وأنا أترنح"ص27. ويضيف:"غافلت صديقها وحدثتها طيلة السهرة/ عن حبي الكبير لبوكوفسكي وبروتيفان وكارفير/ أفهمتها بنظرة أنني جاهز للقتال من أجل لمسة عابرة" ص27. وهذه الحسية المشبوبة المتوترة هي ذاتها الكامنة خلف هذا المقطع"بدل أن أجهز عليك كذئب الغابة/ لحست يديك كالجرو/ طامعاً في الحب"ص36. وعلى رغم مسحة الحنان التي ترين على الذات أحياناً، فان الظفر بالحب يتحرر، في أحيان كثيرة، من كل أبعاده العاطفية الطهرانية:"اللحم بدل العاطفة/ راية القناعة/ جنس قاحل تضيئه تكنولوجيا متطورة"ص15. هكذا يصبح الجنس مرادفاً للحب، ويكون اللحم هو منطلق التجربة ومنتهاها، من دون أن يجعله ذلك بمعزل عن الهزء والسخرية:"لحمك مشوش/ انه كالماضي/ ينقصه الفهرس/ ولائحة مواضيع دقيقة" ص78. حتى عندما يأخذ اليأس بجماع القصيدة، فهي تحافظ على توازنها في البناء، وتبقى الذات متحكمة في عناصر اللعبة الشعرية، بحيث تقودها في أحلك اللحظات، إلى تلك المنطقة التي تختلط فيها الابتسامة بالألم، مفصحة بذلك عن قيمة السخرية كأداة مقاومة:"السم فكرة بليدة/ الشنق بالحبل لا بأس به/ الغرق قدر عادي"، ثم:"لا تنشغل بتنقيح قصائدك/ الحياة بعد الموت من اختصاصنا/ ولدينا ما يكفي من النقاد وحفاري القبور"ص55. بالفعل ذهبت جائزة بيت الشعر إلى من يستحقها، وبذلك يكون البيت كافأ من خلالها ذلك الشعر الفوضوي، الذي على رغم انحداره إلى المهاوي وانتمائه إلى حساسية شعراء"عواء"الأميركيين وانحيازه إلى الفج والشاذ فهو يكشف عن نبالة مبطنة تسعى، في شكل موارب، من أجل"تحلية"الحياة والتخفيف من عبئها.