رحل الرفيق والصديق العزيز الدكتور جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، صديق العمر والنضال على امتداد عشرات السنين. رحلتنا معاً بدأت عندما كان طبيباً عاملاً في عمان في منطقة شعبية، وكنت طالباً في السنة الأولى في الجامعة، ومنذ ذلك الزمن وحتى هذا الزمن، تواصلت رحلة النضال الثوري النبيل في ما بيننا، نضال على دروب الحرية والديموقراطية والاستقلال والعدالة الاجتماعية لشعبنا الفلسطيني ولكل شعوب الأمة العربية. رحل والرحيل حزين. وجع على وجع الشعب والوطن. رحل ولم تكتحل عيناه برؤية الآمال الكبيرة التي ناضل من أجلها... برؤية فلسطين حرة وطنية ديموقراطية مستقلة، حرة لشعب من الأحرار. وعليه فالنضال يتواصل إلى أن ننجز لشعب فلسطين وللأمة العربية حقهما بعودة فلسطين إلى شعبها، وعودة شعبها إليها، نحو فلسطين حرة ديموقراطية مستقلة لشعبٍ من الأحرار. على مسار هذا النضال الطويل تجاور وتداخل الوطني والقومي والأممي، فالشعوب هي الأساس وليست الحجارة على هذه الأرض، لأن الأوطان هي ببشرها وناسها وشعوبها. النضال الذي أخذ مجراه من أجل الخلاص من الاستعمار، والمعاهدات الاستعمارية والقواعد العسكرية الاستعمارية القديمة والجديدة، والهيمنة الإمبريالية، من أجل أن نبني لشعوبنا العربية عالماً جديداً يقوم على الحداثة والعصرنة والدمقرطة والدسترة بقوانين كل بلد من البلاد، بما يخدم مصالح الأكثرية الساحقة من الشعب، في كل بلد من هذه البلدان العربية، مصالحه في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، جامعين بين الحداثة والتقدم إلى الأمام، تكنولوجياً واقتصادياً، والعدالة الاجتماعية للطبقات الشعبية التي ناضلت وتناضل من أجل الحرية والاستقلال. على هذا الدرب كان نضالنا القومي المشترك والموحد في سبيل حقوق شعوبنا، وفي المقدمة شعب فلسطين، بعد نكبتنا الكبرى عام 1948 التي عليها ترتب تشتت الشعب الفلسطيني في أكثر من خمسين بلداً، وضياع فلسطين. ولذا منذ عام 1948 وحتى العام 1967 كان العنوان لا وجود للشعب الفلسطيني على الخريطة العربية وإنما وجود لاجئين، ومنذ عام 1948 وحتى عام 1967 كان عدونا الصهيوني يردد:"فلسطين كانت في الماضي أما الآن فهي"إسرائيل"والدول العربية الأخرى. وكذلك الشعب الفلسطيني كان في الماضي، أما الآن فيوجد فقط اللاجئون، لذلك نهضنا معاً في هذا الدرب تحت عنوان ضرورة العودة إلى البلاد. ومن هنا تجاورنا في الصراع ضد كل محاولات التطبيع والصلح مع دولة"إسرائيل"الصهيونية التوسعية، وضد كل محاولات التوطين في البلاد العربية والمهاجر الأجنبية، وحملنا راية التحرر الوطني من أجل العودة إلى الديار، وأن فلسطين عربية ويجب أن تبقى عربية، إلى أن بدأت المحاولات لبناء كيانية فلسطينية تناضل وتأخذ القضية الفلسطينية بيدها، لأن الذي نشأ بعد عام 1948 هو طمس الكيانية الوطنية الفلسطينية في شكل كامل، وضياعها ليس فقط على أيدي دولة الاحتلال الإسرائيلي، بل أيضاً على يد بعض الدول العربية، فبدأت التململات من أجل تشكيل حركات وطنية فلسطينية، في قطاع غزة أولاً، خصوصاً بعد عام 1954 عندما تشكلت الكتائب الفدائية الفلسطينية تحت الإدارة المصرية، وبدأت عملياتها ضد دولة الاحتلال الصهيوني التوسعية. وفي عام 1956 احتل الإسرائيليون قطاع غزة بالكامل، إضافة إلى سيناء في العدوان الثلاثي على مصر، فتشكلت الجبهة الوطنية المتحدة في غزة، وقاومت بالسلاح والسياسة والعمل الجماهيري العدوان، ثم تنامت هذه العملية، ما أدى إلى تطوير عملنا القومي الموحد والمشترك إلى عمل يجمع بين الوطني والقومي، بين الحركة القومية والحركة الوطنية الفلسطينية، وجاء عدوان عام 1967 وانهيار الجبهات العربية المجاورة الأردن، سورية، مصر ما دفع بنا نحو بناء وحدة فلسطينية تأتلف في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. ومن هنا نستطيع أن نقول بكل دقة ووضوح أن بناة ومؤسسي منظمة التحرير الائتلافية هم الثلاثي: ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة، وتأكد في ذات الوقت أننا في منظمة التحرير نهضنا نيابة عن كل الجيوش العربية بخطوط الدفاع الأمامية ضد الاحتلال الإسرائيلي الموسع، الذي شمل كل ما تبقى من الأرض الفلسطينية عام 1948، أي القدس والضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وشمل أجزاء من الأراضي الأردنية خصوصاً وادي عربة ومثلث أم قيس شمالاً ووادي عربة جنوباً، وشمل الجولان السوري وسيناء حتى قناة السويس، إلى أن تمكنت الجيوش العربية من إعادة بناء نفسها والمساهمة في النضال من أجل الخلاص من الاحتلال، وتصفية آثار عدوان عام 1967، وقد نهضنا"في إطار الائتلاف المشترك بيننا"، ما أدى إلى بناء كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين لأول مرة في تاريخ النضال الفلسطيني والعربي، وهو ائتلاف يجمع بين إيديولوجيا السلاح وسلاح الأيديولوجيا، بين الأيديولوجيا الوطنية والقومية الثورية التي تقوم على الرؤية العلمية والتحليل العلمي الاجتماعي للخريطة الشعبية الفلسطينية، وفي كل قطر من الأقطار العربية، وبين حمل السلاح برؤية إيديولوجية، وهذا لم يكن قد حدث في تاريخ المشرق العربي على امتداد الفترة منذ بداية القرن العشرين حتى عام 1967 - 1968. وناضلنا من أجل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الذي غاب عن الحياة العربية على امتداد 74 عاماً منذ مطلع العشرينات وحتى مطلع العام 1974، عندما انتزعنا قرارات الرباط العربية في حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، والعودة إلى دياره عملاً بالقرارات الأممية وفي المقدمة القرار 194، وحقنا ببناء دولة فلسطين الحرة المستقلة لشعب من الأحرار على جميع الأراضي الفلسطينية، وهذا ما عرف بالبرنامج المرحلي الذي قدمته الجبهة الديموقراطية، وكان لها شرف المبادرة بتقديمه فأُقر عام 1974 بإجماع المجلس الوطني لمنظمة التحرير وفي قمة الرباط العربية عام 1974، وعليه عبرنا الأطلسي الى الأممالمتحدة، ونلنا اعتراف الاتحاد السوفياتي والصين والهند، وغالبية دول العالم ممثلة بكل دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، فضلاً عن بدء التعاطي الأوروبي مع القضية الفلسطينية ببطء شديد، أما الإدارات الأميركية فبقيت معادية لأي حق من الحقوق الفلسطينية، أو الإشارة الى الشعب الفلسطيني وحقه في الوجود حتى عام 1993. في هذا النضال كله تجاورنا معاً الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وكل الفصائل المؤسسة للثورة الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية، فتح، الشعبية، الديموقراطية، وشركاؤنا جميعاً في الفصائل الأخرى القيادة العامة، الصاعقة، جبهة التحرير العربية، جبهة النضال... الخ. في هذا السياق التاريخي مع حبش والجبهة الشعبية كنا نسهر حتى الفجر دفاعاً عن الثورة، جمعتنا الرفقة وجمعتنا العلاقة الإنسانية بجانب العلاقة الوطنية والقومية الثورية والروح الإنسانية الشاملة، علاقة شخصية لم تفارقنا يوماً واحداً، جمعتنا معاً بمرّها وحلوها ومعضلاتها، بدمائها النازفة وبآمال شعبنا العالية. الآن نقول بلغة واضحة رحل المناضل الكبير وصديق العمر الطويل وتستظل سماء فلسطين بهذه النجمة الكبيرة الساطعة الخالدة إلى الأبد في ضمير الشعب والوطن، في ضمير كل حر في بلادنا العربية. وعلى هذا الطريق، نواصل دربنا من أجل إنجاز ما نناضل من أجله. ويحدوني الأمل الكلي أن تتكحل أعين الأجيال المناضلة في صفوف الثورة والانتفاضة والمقاومة الراهنة، بفجر الانتصار وبانتزاع الحرية والاستقلال، وبناء فلسطين الحرة لشعب من الأحرار، وعودة الشعب اللاجئ إلى دياره بعد عذابات ومرارات 60 سنة في الشتات. شعبنا كله من أقصى أغوار روحه حزيناً على رحيل الشهداء، معتزاً بنبلهم وعطائهم وفي المقدمة الشهيد الكبير رفيق النضال، الصديق جورج حبش، قدنا معاً مواكب ثورتنا، في مسيرة كفاح ممتد، فحملنا جلجلة الصلب على أكثر من صليب في رحلة الكفاح، وحملنا الإصرار وقسمات الحزن النبيل، ومعنا الشهداء والقادة الكبار أبطال صبر وصمود الثورة في صيرورتها نحو أهدافها، وعليه نرفع الأعلام السود، وتنكس الأعلام الفلسطينية حداداً ثلاثة أيام في صفوف كل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. لأسرة جورج حبش الكريمة الصبر والسلوان، وأبداً على هذا الطريق النصر الأكيد قادم، وكما نقول دائماً مهما طال الليل ففجر النصر آتٍ، فجرٌ يبدعه شعب الثورة وتعود به فلسطين إلى نبعها وأرضها وسمائها وإنسانها. رحل الشهداء، من أجل أن تمطر السماء، وكل سماء لا تمطر للناس جَحود، رحل الشهداء من أجل تحريك الراكد من الرتابة المغلقة، ورحيل الصديق جورج حبش ينثر سكون التأمل من أجل المستقبل، وتحية كل التحية لمن صرف عمره في خدمة وطنه وشعبه ومبادئه. * الأمين العام ل"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين"