ماذا يتوقع العالم من كيان عنصري قام على الباطل وسلب حقوق الناس؟ كيان زرع نفسه في أرض غير أرضه بالفتك والقمع والبطش، وحتى بعد ان قام وأصبح دولة رغم انف العدالة والمشروعية الدولية والقانون الدولي والقانون الإنساني، استمر يستعمل القوة من دون رادع أمام أعين المجتمع الدولي، هذا لأن العنصرية هي سداة النظام الإسرائيلي ولحمته. وهذه العنصرية"البشعة"مستمدة من تعاليم التلمود ثم تلتها في المرتبة مبادئ الحركة الصهيونية، كما قننها هيرتزل وجابوتنسكي ولانداد، وطبقها حاييم وايزمان وبن غوريون ومناحيم بيغن وشارون وبيريز وأولمرت وباراك وكل القتلة الآخرين، وستبقى هذه العقيدة"البغيضة"ملتصقة بهذه السياسة العنصرية، التي هي عنوان محبذ للصهيونية العالمية! الشواهد تقول ان العالم أخذ يدير ظهره للعنصرية، فلم تعد نظاماً يناسب عصر العولمة والانفتاح، وخير مثال على ذلك جنوب أفريقيا التي تمكنت من الانعتاق من العنصرية، وشاهد العالم نيلسون مانديلا زعيم التحرر من العنصرية، عندما غادر السجن في أوائل التسعينات من القرن الماضي، ليسجل تاريخه الشخصي القضاء على العنصرية في ذلك البلد ودفنها الى الأبد، ولكن إسرائيل تصر على ان تبقى الوحيدة التي تسبح في مستنقع العنصرية النتن. لم يكتفِ أولمرت الحاقد بقتل الرجال والنساء والأطفال وهدم المباني على رؤوسهم، لأن ذلك كله لم يحنِ رأس الشعب الفلسطيني ويكسر شوكته، فقطع الكهرباء عن غزة الباسلة الصامدة أمام أعين الأممالمتحدة ومجلس أمنها واللجنة الدولية لحقوق الإنسان وجامعتنا العربية، فأغرقها في ظلام دامس، ليعتمد الناس في الإضاءة على الحطب والشموع والفوانيس. ان غزة موعودة بأيام صعبة وبمخاطر بيئية وصحية في منتهى الخطورة نتيجة قطع الكهرباء، فقد قُطعت الكهرباء عن المستشفيات وتوقفت أجهزة الإنقاذ، كما توقف إجراء الجراحات للمرضى، وقد شاهد الناس على التلفزيون ذلك الطفل الفلسطيني، الذي يعيش على جهاز تنفس اصطناعي وهو يصارع الموت بسبب قطع الكهرباء عن جهاز التنفس الأوتوماتيكي الذي يعمل بالكهرباء، ورأى العالم كيف يتناوب أفراد أسرته على ضخ الأوكسيجين في جسمه بجهاز يدوي بدائي ليبقى على قيد الحياة! كان الطفل وهو مثل لمئات الأطفال والمرضى غيره يحاول ان يبعث بكلمات متقطعة لعلها تصل إلى هذا العالم الأصم ... كلمات تبرز المعاناة اليائسة، وتؤكد الحالة الكئيبة التي عاشها ويعيشها أطفال ونساء وشيوخ فلسطين، لتجعل ما حدث ويحدث في غزة عقاباً جماعياً، عقاب لأن القتل لم يكسر كرامتهم ولأن الهدم لم يمرغ أنوفهم في التراب، عقاب لأنهم لم يخافوا آلة إسرائيل الحربية الفتاكة! ان أهل غزة وقد تقطعت بهم السبل أصبحوا أمام حصار غير مسبوق... حصار أشبه ما يكون بحرب إبادة جماعية متعمدة لشعب يعيش على تراب أرضه تسيل دماؤه بأيدي الغزاة، الذين تقاطروا على أرضه من كل حدب وصوب منذ وعد بلفور اللعين عام 1917 وما زالوا يتقاطرون حتى اليوم! لقد نقلت وسائل الإعلام صوراً تدمي القلوب وتبكي العيون، شعب يعيش في ظلام دامس، وعلى رغم ذلك تحصد الطائرات والصواريخ والدبابات أرواح أبنائه وتسيل دماؤهم انهاراً، ولكن العالم صامت إزاء ذلك صمت القبور، لا يحرك ساكناً لا يتدخل ولا يشجب ولا حتى يذرف دمعة، هذا الوضع المأسوي لم يحرك الضمائر ولم يشفع لأهل فلسطين بالنصرة! أين أميركا التي تدخلت في العراق واحتلته لإنقاذ أهله بزعمها؟ وأين أوروبا التي قاطعت زمبابوي، لأن رئيسها أعاد الأراضي الزراعية إلى المواطنين من غاصبيها؟ انه عالم ظالم جاحد لا يعرف الا المنفعة الضيقة ولا تحركه الا المصالح؟ ولأن مصلحته مع اسرائيل، فلسان حاله يقول:"لا أسمع لا أرى لا أتكلم"، انه وضع كئيب ومشين يصعب على الوصف... تقصر عنه الكلمات... فها هو الشعب صاحب الأرض يُضطهد ويُقتل من قبل المحتل العنصري! ويبرز الحصار في مشهده الكئيب ومنظره البشع والمعابر قد أغلقت كلها والطرق قد سدت، ليسجل التاريخ نكبة إنسانية لشعب أراد حياة كريمة على أرضه، فحوّل المغتصب حياته الى جحيم. يحدث هذا امام العالم الذي يرفع شعار الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، و"ام الديموقراطيات"بلاد"العم سام"تدعم إسرائيل بالمال وبكل أسلحة الدمار يقتل بها شعب فلسطين البريء المظلوم! ان إغلاق المعابر حوّل غزة الى سجن من دون ثقوب للتهوية، سجن أغلقته الأيادي الصهيونية الملطخة بالدماء ب"الضبة والمفتاح"، لا دخول للقمة عيش او دواء او وقود، وصراخ الأطفال يعلو، والنساء والشيوخ والمعوقون ينادون ولا مجيب، وكأن العالم من أقصاه الى أقصاه قد وضع في إحدى أذنيه طيناً وفي الأخرى عجيناً. هذا السجن الكبير احكمه مجرم الحرب باراك، بقطع اتصالاته مع الخارج، الذي أمر جيشه الإرهابي بمنع إدخال أية أجهزة الكترونية الى غزة مثل الأجهزة النقالة وغيرها، بل ان رئيس عصبة الإجرام أولمرت قال مستهزئاً بعد قطع إمداد الوقود عن غزة: انه"ما زال بإمكان السكان أن يمشوا على أقدامهم"! وليكتمل الحصار فقد شيد الكيان العنصري جداراً عنصرياً على الأراضي الفلسطينية طوله 730 كيلومتراً قطّع أوصال الأراضي الفلسطينية الى كانتونات، ولم تعبأ إسرائيل بحكم محكمة لاهاي الذي اعتبره جداراً غير مشروع، وها هي كعادتها لم تكتف بعدم الانصياع لذلك الحكم بل سخرت منه! ان إغلاق المعابر وقطع تيار الكهرباء وقطع امدادت الوقود، إنما هو امتداد لأفعال دولة العنصرية والإرهاب، فهذا ديدنها منذ ان قامت، القتل والفتك، فقد شنت أول حروبها على العرب في عام تأسيسها، عندما أعلنت الحرب على الجيوش العربية المفككة في تلك الحقبة من التاريخ، بقوات صهيونية منظمة بلغ عددها نحو 90 ألفاً من مجمل المهاجرين اليهود آنذاك البالغ نحو 700 ألف مستوطن واجهوا نحو 20 ألف جندي عربي، توزعوا بين سبعة جيوش عربية ينقصها التنظيم والتنسيق والتدريب، فتلقت تلك الجيوش العربية أول هزيمة وما زالت إسرائيل تفتخر بذلك النصر! لا يختلف اثنان على ان الصراع الفلسطيني - الفلسطيني جرح نازف في جسد الشعب الفلسطيني وقضيته سيحاسب التاريخ الفلسطيني قياداته عليه، وهو من الأسباب التي جعلت العدو ينقض على غزة في خضم هذا النزاع بين الأشقاء، فاستغل العدو الماكر الثقوب العديدة للأسف في الثوب الفلسطيني، فحلت المأساة التي يدفع ثمنها شعب فلسطين الصابر المحتسب جوعاً وموتاً ومرضاً وحصاراً جائراً! هذا الثوب الفلسطيني الذي تخللته الثقوب الكثيرة يحتاج الى يد ماهرة صابرة تعيد اصلاحه، هي يد الفلسطينيين بعد نزعها من الصراع على السلطة الموهومة أولاً، بدلاً من إلقاء القيادات الفلسطينية في رام اللهوغزة اللوم على بعضها البعض، وبدعم عربي جاد ليتم انتشال شعب فلسطين وأرضه من الكارثة! ان غزة تغرق في بحار من الظلام، أعادها الى العصور البدائية وادخلها في جحيم كارثة إنسانية، ويجب ان ندرك ان هذا الوضع المأساوي ليس ابن ساعته، إنما خططت له إسرائيل بدهاء منذ أشهر مضت وليس هذا خافياً على احد، وواجب العرب التحرك السريع وترك عبارات التنديد، فهي لا تجدي فتيلاً ولا توقد فتيلاً، فالأطفال المرضى والشيوخ والنساء والمعوقون لن تجديهم تلك التنديدات ولن تحميهم الكلمات. وإذا كان أهل غزة وهم يعيشون حصاراً خانقاً تنفسوا الصعداء عندما فتحت مصر معبر رفح للتزود بالمواد الغذائية والبترول، فقد قوبل هذا باستياء إسرائيلي عارم، وطالبت اسرائيل القاهرة بالالتزام بالاتفاقات الخاصة بالمسائل الحدودية، ودعمتها الإدارة الأميركية معلنة عدم ارتياحها لهذا الإجراء المصري. وعقدت الجامعة العربية اجتماعاً على مستوى المندوبين وطلبت عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن كما دعت كذلك منظمة المؤتمر الإسلامي مجلس الأمن لعقد جلسة لهذا الغرض، وكالعادة تعثرت محاولات صدور بيان لمجلس الأمن، لوقف هجمات اسرائيل على غزة وفتح المعابر، والحجة الصواريخ البدائية التي تطلق من غزة رداً على هجمات الطائرات والدبابات والصواريخ الإسرائيلية! المهم مع كل هذه التطورات ان حال غزة وأهلها والفلسطينيين عموماً تستحق دعم منطق الحوار بين الفصيلين المتصارعين"فتح"و"حماس"، للعودة الى اتفاق مكة الشهير، الذي خرجت من رحمه حكومة وحدة وطنية، بل ان عقد قمة عربية طارئة أصبح ضرورة لدعم الحوار والتصدي لهذه المحنة الإنسانية التي تهدد أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في ما يجري سوى أنهم فلسطينيون ينشدون العيش كبقية البشر على هذه الكرة الأرضية التي اختلط فيها الحق بالباطل بل طغى الباطل على الحق! وليعلم العرب - وأظنهم يعلمون - ان تكبر إسرائيل وتجبرها وعنادها واعتداءاتها سببها أنها تملك القوة، ولن يوقف اعتداءاتها وجبروتها إلا أن نملك القوة مثلها ونزيد، أما الكلمات النارية والتنديدات فإنها لا تقتل عصفوراً ولا تخيف حتى هرة! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية