فيروز آخر الحبات في العنقود الذي كنا نسميه وحدتنا الوطنية. بعد العَلَم الذي انقسم بين شارعين، والنشيد الذي تحوّل الى"مارشات"عسكرية للميليشيات، وبعد ان صار كل شيء مستباحاً في حفلة الجنون التي تتسع كل يوم، لم يبقَ لنا الا هذه السيدة الناصعة التي كانت دائماً الى جانب احلامنا ودموعنا، ورفيقة امسيات جبالنا وبدايات عشقنا. لذلك، لا تقحموها في صراعاتكم. فهي لا تستحق ذلك، وانتم لا تستحقونها. تذهب فيروز الى دمشق لتشارك في احتفالات"عاصمة الثقافة العربية"، لا لتزور نظاماً أو تنشد امام حزب. تحمل الى هناك رسالة"قرنفل"، تلك الفتاة البريئة الطيبة، التي تشفق على أهلها المتعبين من انتظار صحوة"الوالي"الغارق في نومه شهراً بعد شهر، غريباً عن هموم مواطنيه الموزعين بين الفقر والسجون. والخائفين من المستشار"زيدون"الذي يتآمر مع الوالي عليهم، ويشرف على"غرفة الاستماع"التي تحصي انفاسهم. تقوم"قرنفل"بسرقة خاتم الولاية لتختم به معاملات الناس وتلبي طلباتهم وحاجاتهم. وعندما يستفيق الوالي الى"جريمتها"ويحاول عقابها، يواجهه اجماع شعبه، فيضطر الى التراجع عن حكمه وعن ظلمه، ويعود الى النوم الطويل في قصره المسمى"قصر النوم"، تاركاً لهذه الفتاة، رمز خلاص اهلها من الظلم، أن تدير شؤون الولاية. هذه رسالة فيروز الى دمشق والى السوريين. وهي أبلغ من ألف مقال أو خطاب سياسي. وامام مثل هذه الرسالة يصعب فهم الحملة التي سبقت حفلاتها المنتظرة على مسرح دار الاوبرا في العاصمة السورية. فهذه الفنانة الانسانة، التي حملت جراح بلدها وآلامه وحنين بنيه حول العالم، والتي لم تكن اذاعات"ابطال"الحرب الاهلية في الوطن المبتلي بابنائه، تجمع على شيء الا على بث اغانيها، تجد نفسها الآن في الزاوية امام جدل لا يمكن أن تُشم منه الا رائحة السياسة، بمعناها الضيق، حول ما اذا كان"يصح"أن تزور عاصمة الامويين، وأن تشارك في احتفالات دمشق، أم الافضل ان تبقى منزوية في بيتها في الرابية، في منأى عن حملات السياسيين ورغباتهم؟! اذا كانت هناك رسالة سياسية خلف مشاركة فيروز في مهرجانات دمشق، فرسالتها هي رسالة "قرنفل"بكل بساطتها ووضوحها. وبصراحة، لم يكن ممكناً أن تختار فيروز من مكتبتها الغنية باستثناء"الشخص"ربما مسرحية غنائية اكثر تعبيراً ورمزية من"صح النوم". لذلك لست ادري اذا كان الذين يشنون الحملات على مشاركة فيروز في احتفالات دمشق قد شاهدوا هذه المسرحية أو سمعوا بها أو انهم فهموا الرسالة التي تقصدها، لأنهم لو فعلوا لوجدوا أن ما تعرضه فيروز في دمشق هو السياسة بعينها، نعم! لكنها السياسة التي تقف الى جانب الناس، لا الى جانب الحاكم. السياسة التي تحكي اللغة البسيطة وتعبر عن الوجدان الشعبي. وفيروز الذاهبة الى سورية في اصعب ظرف تمر به علاقات البلدين والشعبين كذلك، هي افضل رسول الآن الى السوريين بأن ما انقطع بفعل السياسة ومصالح الانظمة لا يجوز أن تكرسه حالة الانقطاع بين الناس على الضفتين. لسبب بسيط وبديهي: أن الذي يبقى بين الشعوب هو أطول عمراً من الانظمة واهواء السياسيين. فهذه السيدة الكبيرة التي امتنعت في أحلك السنوات السود أن تغني في منطقة لبنانية من دون اخرى، بل كانت تجمع اللبنانيين حولها، في الامكنة الوحيدة التي كانوا يجتمعون فيها، أي في المهاجر، تتعرض للحملات الآن نتيجة أشد انقسام عرفوه فيما بينهم، ليس فقط حول مصير بلدهم، بل أيضاً بسبب علاقته بجارته الكبرى. في واحدة من روائع سعيد عقل التي غنتها فيروز مرة في احد مهرجانات دمشق: شام أهلوك إذا هم على نُوب قلبي على نوب انا صوتي منك يا بردى مثلما نبعك من سُحُبي ثلج حرمون غذّانا معاً شمخاً كالعز في القبب هذه هي الصورة التي نحلم بها لعلاقات الجارين. صورة مزّقها الآن سوء استخدام الجيرة والتدخلات وضيق الأفق. لكنها الصورة الحقيقية التي يفترض أن تبقى وان تكون نموذجاً لما يجمع في المستقبل بعيداً عن خلافات الحاضر وتبعاتها.