ينطلق مهند مبيضين، في كتابه "الفكر السياسي الإسلامي والإصلاح" الدار العربية للعام، بيروت، 2008، من فرضية تفيد أن العرب لم يأنسوا الطاعة طيلة العصر العثماني، فحاولوا الحدّ من الاستبداد ومقاومته منذ بدايته، واستمروا في ذلك طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر مع تنامي الوعي بالهوية العربية، وبالتالي فإن انفتاح العرب على الغرب بعد حملة نابليون لم يكن بداية الإفاقة أو ما عُرف ب"اليقظة العربية"، كما تذهب بعض الدراسات، بل مثّل استجابة لتحدي المواجهة. وفي الفترة نفسها التي عاشها العرب في ظل الاستبداد إبان العشرية الأخيرة من العهد العثماني كان في إيران رفض للاستبداد القاجاري، لذلك فإن البحث يدور حول التجربتين: العربية في ظل الحكم العثماني والإيرانية في العهد القاجاري. ويتجه المؤلف إلى السؤال عن الكيفية التي جرى وفقها التفكير في تقييد الاستبداد، والانفراد في الحكم، وعن المآل الذي آلت إليه أحوال العرب، إذ باتوا اليوم مجرد كتلة هامدة خارجة عن التاريخ. فيما يجري البحث عن لحظات مفارقة، جسّدها لامعون في معركة مغالبة الاستبداد وتصحيح النظر عند السلطة من أجل رؤية عادلة لمصائر الشعوب، وهؤلاء اللامعون لم يفقدهم المجال الفكري والسياسي، العربي والإسلامي، بل ظلوا يمثلون حلقات مستمرة من عصر إلى عصر، ولكن المؤلف يشكو من غيبتهم عن دارسي عصر النهضة في حقبة رمادية امتدت من العام 1516 وحتى وصول الغازي الفرنسي نابليون بونابرت إلى مصر مبشراً بالحرية ومجالس الحكم عام 1798. ويبدأ المؤلف من لحظة تعود إلى القرن السادس عشر، هي اللحظة التي وجه فيها ابن علوان نصيحة مكتوبة إلى السلطان سليم الأول، دعاه فيها إلى رفع الظلم، ومذكراً إياه بمسؤوليته تجاه رعيته. ويرى أن النقد الذي وجهه ابن علوان لأحوال عصره لم يكن مستتراً وبعيداً عن مرأى السلطة العثمانية، بل استمر في العديد من المؤلفات التي تحوي أشعاراً ناقدة للحياة. وبقي النقد لسياسات العثمانيين مستمراً في القرن السابع عشر الميلادي حتى في الأناضول والبلقان، متخذاً شكل النصح المماثل لنموذج ابن علوان الحموي، حيث تؤيد مصادر التراث العربي - الإسلامي أن دفع الظلم كان سؤالاً ماثلاً، وأن المعارضة والمقارعة وجدتا صياغاتهما في مواقف مختلفة، ويؤكد ذلك رفض علماء دمشق البقاء على الحياد عندما كثرت الشكاوى ضد العسكر وتمردهم وبطشهم، فواجهوا الوالي العثماني أسعد باشا بالنقد الشديد، فما كان من الأخير سوى أن طلب منهم استلام إدارة المدينة، لكنهم عجزوا عن إدارة شؤون الحكم. وعليه يعتقد المؤلف أن أهم سبب لفشل أفكار الإصلاحيين العرب في القرن التاسع عشر أنهم لم يشاركوا في السلطة، واكتفوا بممارسة النقد والتنديد بالظلم، الأمر الذي يقود إلى النظر في علاقة السلطة الثقافية بالسلطة السياسية. ويأخذ المؤلف على معظم دارسي حركة النهضة والوعي العربي تمسكهم بمسلمة خاطئة، مفادها ان الشعور بالوعي القومي العربي ظهر في القرن التاسع عشر بفعل المؤثرات الغربية، ولا سيما الثورة الفرنسية، فوضعوا تأريخاً لهذا الوعي حين ربطوا بين فكرة الوحدة العربية والرابطة الدينية، وهي مسلمة لا تصمد أمام الفحص الدقيق للتراث العربي خلال الحقبة العثمانية، حيث ارتسمت ملامح الرفض والثورة على استبداد الدولة في إطار المدينة والحواضر الكبيرة، وامتدت إلى فلاحي بلاد الشام، حيث تحولوا إلى قطاع طرق على رجال الدولة وعسكرها، أو تركوا الأرض وهاجروا إلى المدينة، وأبقوا على جاهزية الرفض وتأييد أية محاولة للخروج عن الطاعة. وبعد تقديمه لنماذج في رفض الاستبداد والظلم سواء في القاهرة أم في دمشق، يؤكد المؤلف أن جهة العلماء وفرت ملاذاً للمجتمع العربي في العصور الحديثة في مواجهة الظلم والفساد، حيث استثمر العلماء في شكل جيد قوتهم الفاعلة في أوساط العامة، ومنحهم ذلك قوة تفاوضية مع السلطة، الأمر الذي قادهم إلى تحقيق نجاح في الدفاع عن حقوق الناس وضبط حركة المجتمع. وفي عصر النهضة العربية والتجديد الإسلامي، حاول المفكرون معالجة مشكلة الاستبداد في الحكم، فجاءت معالجاتهم من بيئات ثقافية متنوعة، عربية وإسلامية، انعكست في تعدد الصيغ التي حاولت أن تقيد الاستبداد والانفراد بالسلطة، إذ تقدموا بالنقد السياسي للاستبداد وظلاله، وحاولوا كف يد المستبد عن الانفراد بمصائر العباد وفي الحكم، وإشادة مملكة العقل، وطالبوا بحلول مختلفة لأزمة الحكم في ضوء النظرية الإسلامية ومستجدات العصر. ويدور البحث في هذا المجال في أعمال وكتابات كل من عبدالرحمن الكواكبي في الشام، وابن أحمد بن أبي الضياف في تونس، ومحمد حسين التائيني في إيران، وولي الدين يكن في مصر، ومحمد بيرم التونسي في تونس. وينصب جهد المؤلف في البحث عن مصادر أفكارهم، والآليات التي اقترحوها للإصلاح السياسي، وعما إذا نجحوا في صياغة نظرية متكاملة للإصلاح، وما هي مواقفهم من السلطة الحاكمة، والكيفية التي انتهت إليها مصائر الإصلاح. ويخلص إلى القول بأن المضمون الأساسي الذي ركز عليه دعاة الإصلاح هو رفض الاستبداد بمختلف أشكاله، والتأكيد على وجود القانون، أياً كانت صوره، سواء بصيغة دستور أم هيئة عليا لأعيان الأمة، أم في شكل مجالس انتخابية أم مؤسسات ديموقراطية بمختلف أنواعها أم بتحقيق نموذج الدولة الإسلامية. وفي كل هذه الصور ثمة إذكاء لمعنى الشورى في الإسلام وتأكيد على سلامته في توجيه الحاكم. لكن هذا التمثل للإصلاح لم يأت من التجربة الإسلامية فقط، لأن المنظومة الفكرية عند دعاة الإصلاح كانت متأثرة في شكل كبير بالمراحل التي بلغتها الدول الأوروبية. ويعزو المؤلف عدم إحراز أي تقدم في أي مظهر من مظاهر الإصلاح إلى محاكاة التمدن الغربي عند أبي الضياف والكواكبي وسواهما، من منطلق أن المحاكاة التي كان يسعى إليها المفكرون العرب كان ينظر إليها بريبة وخوف يصل إلى حدّ الاتهام بالتخوين والعمالة للأجنبي. إضافة إلى أن القول بالتقدم على نمط النموذج الغربي والقول باستعادة النموذج الإسلامي الأول، كانا متداخلين في تفكير الكواكبي وابن الضياف، الأمر الذي جعل المضمون الإصلاحي، إتباعي للنموذج الإسلامي الذي ثبت عدم إمكانية استعادته، وإلحاقي لعلاقته وتصوره بإمكانية إحلال النموذج الغربي بدلاً من واقع التخلف. ويستند المؤلف إلى ما جاء في رحلة زين العابدين المراغي لإيران إبان الثورة الدستورية حيث قدم وصفاً للأوضاع السياسية والاجتماعية والفوارق بين فئات المجتمع وانتشار الظلم وتمادي النفوذ الأجنبي. يتضح منه أن إيران عاشت في الدولة الصفوية السلطانية القاجارية حالة مشابهة للحالة التي كانت سائدة في الدولة العثمانية، وأنها شهدت مطالبة مماثلة بالإصلاح وما رافقه من تدخل للقوى الأجنبية، مع إحكام الاستبداد عبر مركزية صارمة ميزت حكم الشاه ناصر الدين القاجاري ثم مظفر الدين شاه ومن بعدهما محمد علي شاه، والتي تحولت مع بداية القرن العشرين إلى مركزية عسكرية ذات طابع عنصري. وقد قاد هذا الوضع في إيران إلى"ثورة المشروطة"أو الدستور، وتزامن ذلك مع إعادة العمل بالدستور في الدولة العثمانية عام 1908، لكن خنقت التجربة الدستورية الإيرانية مع إسقاط ثورة مصدق، ثم مع انتهاء إيران إلى نظام شمولي في حين أن وضع العرب آل إلى مزيد من التدهور والانهيارات. يسجل للكتاب خوضه في مسلمات عدة ومحاولة تفنيدها، وتناوله لظاهرة الاستبداد الخطيرة والمقيمة في ربوع سلطاتنا السياسية العربية، لكن الكتاب اتسم بدراسته الموجزة، والتي كان من الممكن جعلها واسعة، بعيدة عن الاستعجال في القول والنظر.