شاع اطلاق لفظ الاصلاح في الفكر الاسلامي الحديث على اتجاهات وحركات اصلاحية واجتماعية ظهرت في العالم الاسلامي خلال القرن التاسع عشر فيما عدا الحركة الوهابية التي بدأت قبل هذا التاريخ. وامتدت هذه الاتجاهات حتى النصف الاول من القرن العشرين ولقد ختلفت هذه الدعوات باختلاف دوافعها وحجم التأثيرات التي احدثتها من ذلك الوقت غير ان سؤال الاصلاح والنهضة ظل ماثلاً حتى اليوم. وفي ظل الدعوات المعاصرة لمسألة الاصلاح يبدو انه من المفيد تحديد مضمون محدد لمعالم الاصلاح السياسي في الفكر الاسلامي الحديث اذ شكل السجال المعرفي في القرن التاسع عشر بداية واضحة لتحديد ذلك الاصلاح المنشود وظهر ان الدعوة له كانت جدية، وكان على المفكرين المسلمين ان يدخلوا في مواجهة مع السلطة القائمة آنذاك، وظهر ان الجدل حول الاصلاح كان سائداً في المشرق والمغرب الاسلاميين، وهنا نعرض لفكرة الاصلاح من خلال نموذجين هما المفكر الحلبي الاصل عبدالرحمن الكواكبي والمفكر التونسي ابن ابي الضياف، والسؤال المطروح ما مضمون الاصلاح السياسي عند ابن ابي الضياف والكواكبي؟! والى أي حد يمكن لنا القول ان الأول كان في مجال اتصال مع حركة المجتمع وتغيراته وفي الوقت نفسه هو على علاقة مباشرة بالسلطة القائمة في تونس، في حين كان الثاني بعيداً في طروحاته عن التطبيق؟! يرى المؤرخ التونسي احمد جدي ان شخصية ابن ابي الضياف جديرة بالفهم والتعمق، فهي متصلة بعمق في تكوين المجتمع التونسي قبيل الاستعمار، ويعتبر عمله وفكره أحد أهم الطرق التي يمكن من خلالها فهم الحركة العامة للفكر العربي الاسلامي الحديث والمعاصر. ويصف الروسي ز.ي. ليفيين، الكواكبي"بأنه مفكر سياسي مفعم بكراهية الاستبداد"، ولكن حجم ما تركه من اشكاليات ما زال واقعاً الى الآن الى حد كبير جداً، ليصل الامر الى ان هناك من يرى"ان ما تبقى لنا من الكواكبي لكي ندرسه شيء كبير، يساوي بقدره حجم الاشكالية المحورية التي تواجه حركة التحرر الوطني العربي". فالظروف التي عاشها ابن أبي الضياف، والكواكبي وكذلك التجربة التي مارسها كل منهما في مجال الادارة، جعلت منهما أداة نقد مبررة سواء كان ذلك بقبول السلطة القائمة أو رفضها أو ضيقها بهذا النقد. يقول أ.د. عبدالعزيز الدوري في كتابة التكوين التاريخي للأمة العربية ص161 وما بعدها: يذهب الكواكبي الى نقد الادارة العثمانية ويبين اسباب الخلل بغض النظر عن العاصمة، وجهل المسؤولين الاداريين بأحوالها. وتبرير الموضوع بسوء توحيد قوانين الادارة... ولهذا نراه يتجه بدعوته للنهضة الى الغرب ويحدد وجهة نظر غربية واضحة. في حين ان ابن أبي الضياف لم يكن يخفي رأيه في مسألة الاصلاح العثماني أو ما يسمى بالتنظيمات الخيرية التي وضعها السلطان عبدالحميد في السادس والعشرين من شعبان 1255ه، الثالث من نوفمبر سنة 1939م. اذ عبر عن عدم سلامة هذه القوانين، وامكانية اجرائها في بلاد العرب، وذلك في اجتماعه مع شيخ الاسلام احمد عارف خلال زيارته للاستانة سنة 1842م"فقلت له - والكلام لابن ابي الضياف - ان التنظيمات الخيرية يتعسر اجراؤها في بوادي المغرب"واذا قبل ابن ابي الضياف بهذه التنظيمات فانه اقرها بعد الحاح، وفي ذلك يقول:"ولقد ألح شيخ الاسلام باستانبول على وجوب تلك التنظيمات". والسؤال الآن: ما هو مضمون الاصلاح السياسي في فكرهما؟ وهل يمكن القول انهما تقدما الى الاصلاح على قاعدة ان التنظيمات هي اساس العمران القائم على العدل والشريعة الاسلامية؟!. أياً كانت المضامين والافكار، فإن محاكاة النموذج الاوروبي كانت ماثلة في طرحهما للاصلاح السياسي، لكن يبدو انه لم يكن هناك استيعاب لمسار التجربة الليبرالية في اطارها التاريخي، وانهم لم يفرقوا بين الجذور الثابتة والاصول المقررة، وبين الصورة الظرفية التي تلبست الفكر الاصلاحي العربي في القرن التاسع عشر. وهو ما يراه عبدالله العروي انظر: عبدالله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط4، 1988، ص. هذا الامر يكاد يكون اكثر وضوحاً عند ابن ابي الضياف، وخصوصاً في حديثه عن مسألة العمران، فرغم استلهامه للتجربة الخلدونية واستشهاده بها بقوله"الظلم مؤذن لخراب العمران". ومع تأكيده على ان تجربة التنظيمات العثمانية ناجحة في سياقها العمراني بقوله:"وهذه الاصول الجارية الآن في الدولة العثمانية بالتنظيمات أدت الى ازدهارها في العمران"، فإنه يحاكي النموذج الاوروبي عندما يصرح بذلك فيقول:"وانظر حال الافرنج الذين بلغ العمران في بلدانهم غاية يكاد السامع لا يصدق بها الا بعد المشاهدة". واذا كان العدل اساس العمران عنده، فإنه عند الكواكبي متمثل بالعلم"وترقي العلم والعمران هو من سنة الكون التي ارادها الله تعالى لهذه الارض، ومع ذلك فالعلم والاستبداد ضدان متغالبان فكل ارادة مستبدة تسعى جهدها في اطفاء نور العلم". ولما كان الكواكبي ناقداً للاستبداد بكل صوره، وانه لا يأتي الا بمزيد من الانحطاط والتردي"لأن ظهوره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء"فإنه يرى بالحكم التركي آنذاك حكماً استبدادياً، فعمل على تصوير أمم الغرب التي تعيش في ظل حكومات عادلة"فقد بلغت أعلى المراتب وان الامم التي أسعفها حظها لتبديد الاستبداد نالت من الشرف المعنوي ما لم يخطر على فكر". وأول ما يجني الناس من الاصلاح السياسي والتغير، عند صاحبي الاتحاف ? اتحاف أهل الزمان هو كتاب ابن ابي الضياف ? والطبائع ? اشارة الى كتاب الكواكبي طبائع الاستبداد ?"الأمن على النفس والمال والعرض وحتى لا تكون النفوس الانسانية والاجساد المكرمة فريسة". ويضيف ابن ابي الضياف:"واستتباب الامن وتوفيره ضروري للعيش والكماليات تولد حب الوطن". حاول ابن ابي الضياف بصورة تكاد تكون اكثر منها عند الكواكبي، وهي وضع مسألة الاصلاح السياسي في مضمونها العثماني الاسلامي ولهذا نجده حاول الكشف عن فلسفة الاسلام في شأن السياسة. في حين ان الكواكبي ركز على مصطلح السياسة الاستبدادية ويسعى كثيراً لتلخيص موقف الافراد من السلطة كما يجب أن يكون وشدد على ضرورة وجود ضمانات لحماية المجتمع من الحكم المستبد، وأكد على وجود"شروط للمراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها". أكد الكواكبي على ضرورة أن لا يشعر المستبد باستبداده، لأن عواقب ذلك تكون وخيمة، ولهذا طالب بأخذ الحيطة والحذر من ذلك"والحذر كل الحذر أن يشعر المستبد بالخطر فيأخذ بالحذر الشديد والتنكيل بالمجاهدين"، ولكن ما مدى مسؤولية الدين عن الاستبداد السياسي وهل يمكن تطويع الدين وتسويقه كأداة ضد الاستبداد؟ نقرأ عند الكواكبي"ان مصدر الاستبداد السياسي الاستبداد الديني"، ولهذا نجده يبين أحكام الدولة العادلة بغض النظر عن الدين. اما ابن ابي الضياف فينكر وجود الاستبداد ويرى ان الملك الجمهوري والمطلق لا يصلحان، ويضع حلاً لذلك، وهو الملك المقيد بقانون، ويهتم بالقوانين التي هي بتعبير العصر الدستور ذلك ان مثل هذه القوانين كشفت عن ضعف الدولة الاسلامية آنذاك وهذا راجع الى عدم الانقياد الى صور الشريعة. المضمون الاساسي الذي ركزا عليه: رفض الاستبداد بشتى أنواعه، والتأكيد على وجود القانون، أياً كانت صوره، سواء في صيغة دستور أو هيئة عليا تضم أعيان الأمة أو في شكل مجالس انتخابية، أو في صورة مؤسسات ديموقراطية بمختلف انواعها، وفي جميع الصور والمجالات هذه اذكاء لمعنى الشورى في الاسلام وتأكيد على سلامتها في توجيه الحكومات والقيادات. الا ان هذا لم يأتِ من خلال التجربة الاسلامية فحسب، فالمنظومة الفكرية عندهما متأثرة بشكل كبير بالمراحل الاخيرة التي بلغتها الدول الاوروبية، وخصوصاً فرنسا. وهو ما لم يستطع ابن ابي الضياف - الذي زار باريس ودخل مكتباتها واطلع عليها - اخفاءه. ولكن من المفيد ان نتذكر ان نتاج الثقافة الاوروبية في ذلك العصر كان نتيجة لمرحلة طويلة من التكوين والاكتمال والاستقلال وهو خلاف ما كان رجالات الاصلاح يعيشونه داخل نظامهم الثقافي العربي الاسلامي في تلك المرحلة. ومع ذلك، كما يرى فهمي جدعان فإنهم شاركوا الاوروبيين افكارهم واحكامهم بل انهم تجاوزا الامر عندما كانوا اكثر عنفاً في النقد والمطالبة بالاصلاح. فهل كان ابن ابي الضياف والكواكبي يحاكيان التقنيات الاوروبية عصرئذ، وبالتالي عدم احراز أي تقدم في أي مظهر من مظاهر الاصلاح؟ وهل استطاعا فهم الاصلاح بأبعاده العميقة في الحضارة العربية الاسلامية؟ يبدو ان هذين المستويين كانا متداخلين في تفكيرهما الذي جاء اتباعياً والحاقياً، اتباعياً بالنسبة للنموذج الاسلامي وإلحاقياً بالنسبة للنموذج الغربي، نقد ابن ابي الضياف السلطة الا انه قدم اصلاحاته في سياق الدور الذي مارسه من قبل ولزمن بعيد الماوردي في احكامه السلطانية، والغزالي، ابن طباطا في الفخري، والمراوي في آداب الإمارة، والطرطوشي، وغيرهم. في حين ان الكواكبي كان الاقرب الى صورة المثقف المنتفض الذي وجد نفسه في القرن التاسع عشر أمام مطالبات متعددة ومختلفة متعلقة بمسألة الهوية والوعي. في ظل هذا المشكل الاصلاحي هل من الممكن القول:"ان افكار ابن ابي الضياف الاصلاحية جاءت في سياق تفكير اصلاحي خاص في المغرب العربي، وهو الاصلاح الذي كان دائماً مرتبطاً بدولة المخزن ثم ما لبث ان اختلف الامر في العصر الاستعماري فاصبح في اطاره القطري الخاص بالدولة القائمة آنذاك؟ وهل ان ما قدمه من آراء وافكار هي استمرارية لتقليد اقره كتاب مرايا السلاطين والامراء في مجال تاريخانية العلاقة بين المثقف والسلطة؟ اخيراً لم يكن ما تم تناوله، الا محاولة لكشف مضمون التجربة الاصلاحية في نموذجين فكريين اسلاميين ضمن مجالها السياسي. ويبقى الكواكبي أحد أهم اعلام الفكر العقائدي والقومي والسياسي الدستوري في القرن التاسع عشر. ويظل ابن ابي الضياف في حيزه الاصلاحي العربي الاسلامي المستنير. وقد ساهم كل منهما في بلورة الافكار الاصلاحية التي ما زالت الى يومنا هذا تحتاج في اسئلتها الى البحث عن اجابات وتجديد للطاقات. * استاذ التاريخ والحضارة/ جامعة فيلادلفيا