لا يمكن مجلة عربية أخرى غير "العربي" أن تجمع هذا الحشد من الأدباء والكتّاب والفنانين العرب في مكان واحد كما حدث في احتفالية اليوبيل الذهبي للمجلة تحت عنوان"العربي ولغتها العربية: نصف قرن من المعرفة والاستنارة"التي اختتمت ندواتها أمس في الكويت. قبل أن تجمع"العربي"هذا الحشد الكبير من الأسماء اللامعة في الفكر والرواية والشعر والرسم والنقد وسواها من ميادين الإبداع للاحتفاء بها ومعها باليوبيل الذهبي، فإنها جمعتهم أولاً وعلى مدار خمسين عاماً من العطاء المعرفي الهادف والهادئ في آن. أقول الهادئ لأن ميزة"العربي"أنها خاضت معركة الاستنارة بلا صخب ولا ضجيج وبعيداً عن الشعارات الكبرى والطروحات الفضفاضة، واستطاعت على مدى نصف قرن أن تحافظ على قسط وافر من الموضوعية والحيادية ما جعلها وببساطة تصل الى كل بيت عربي والى كل قارئ عربي إذ يجد الجميع ضالته على صفحاتها. الباحث عن الأدب أو عن الاستكشاف والرحلات أو عن النقد والتحليل أو عن أي عنوان آخر حتى بدت أحياناً وكأنها"كشكول"فيه شيء من كل شيء. ويكاد يندر وجود بيت عربي لم تدخله مجلة"العربي"في شكل أو آخر. ولأن"العربي"دخلت بيوت العرب أجمعين لم أستغرب وأنا أحاور رئيس تحريرها الرابع بعد أحمد زكي وأحمد بهاء الدين ومحمد الرميحي الدكتور سليمان العسكري في برنامج"خليك بالبيت"، ان تنهال تحيات المشاهدين وأسئلتهم عبر"الانترنت"من معظم أرجاء الوطن العربي تماماً كما يحصل مع أي ضيف من المشاهير أو ممن يُصطلح على تسميتهم بالنجوم، ما يوضح بعضاً من جوانب العلاقة الحميمة التي تربط"العربي"بقرائها. مثال معبر على متانة الروابط بين"العربي"وقرائها هو الحاج الثمانيني أبو محمد ياسين من البقاع اللبناني الذي يقتني أعداد المجلة من الأول الذي صدر في عام 1958 الى الأخير الذي طلب الى الدكتور العسكري أن يوقعه له تماماً كما يفعل المعجبون الشباب مع"نجومهم". أما المثال الآخر فهو الفتى الأردني حسن النابلسي ابن الخمسة عشر عاماً الذي كتب انه يتابع"العربي"بشغف كبير تماماً كما يفعل القراء الناضجون مع مطبوعاتهم الأثيرة، ولعلها مفارقة ممتعة أن تجعل مجلة من قارئ ثمانيني يافعاً يطلب توقيعاً على أحد أعدادها، وفي الوقت ذاته تجعل من فتى يافع قارئاً ناضجاً شغوفاً بما تقدمه على صفحاتها. سألت الشاعرة الكويتية المتوهجة سعدية مفرح الدكتور سليمان العسكري: بماذا تحلم ل"العربي"وهي شابة في الخمسين؟ أجابها على صفحات مجلة"دبي الثقافية": الأحلام هذه الأيام تكاد تتحول الى كوابيس فأينما نظرت ترى انهياراً. الدماء أنهار والمدن تتآكل وتتصحر، والعرب يتراجعون الى مواقع التخلف، ومن بقي قابضاً على الجمر في يديه يبحث عن مهرب ربما يستطيع فيه أن يطفئ جمرته قبل أن تشوي ما بقي من لحمه، لكن يبقى أمل...". والأمل الذي يبقى، على رغم الصورة القاتمة التي يرسمها العسكري، هو أن يستلهم العرب شيئاً من تجربة"العربي"التي يمكن لها ألاّ تكون مجرد مجلة بل نموذجاً لمشاريع ما عربية جامعة في التنمية والمعرفة والحوار اذا كان الأمل مقطوعاً في السياسة أو منها. لا شك في أن التحديات التي تواجهها"العربي"بعد الخمسين كثيرة ومتشعبة، فعصر الصورة يفرض شروطه، ولا شك في أن المراجعة النقدية ضرورية جداً للارتقاء بالمجلة وتطويرها والحفاظ على تقدمها واستمراريتها، لكن وبلا شك تستحق الثناء وبالعربي الفصيح.