لو قيض للإنسان العربي أن يتاح له أن يعبر عن رأيه بصراحة لشق صراخه عنان السماء من المحيط الى الخليج ثم على امتداد الكرة الأرضية: صراخ الألم والشكوى والعذاب والرفض لكل ما يتعرض له وما تعرض له منذ قرن من الزمن. ولو سُمح للشعوب العربية بأن ترفع صوتها عالياً لاختصرت معاناتها المتواصلة بطلب واحد موحد وهو: كفى: كفى حروباً وأزمات وخلافات ودماء ودماراً وهدماً. وكفى فساداً وهدراً وتهاوناً واهمالاً للحدود الدنيا من مطالب وحاجات الإنسان الأساسية. وكفى اضطهاداً وانتهاكاً لحقوقه واستخفافاً بنا وبقدرتنا وعقولنا. وكفى ارهاباً وعنفاً وصراعات ومزايدات، وكفى اتهامات ودعوات تكفير وتخوين اكتوت بنارها الأجيال... جيلاً بعد جيل. ولو كان لدى ما يسمى ب"المجتمع الدولي"، الذي نتغنى بقراراته وشرعيته صبح مساء، الحد الأدنى من المصداقية والموضوعية والعدالة، لتوقف عن سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين وعمل على إحقاق الحق ووقف مع العرب في وجه الصلف الصهيوني وأوقف إسرائيل عند حدها وعاقبها على انتهاكاتها لحقوق الإنسان ومخالفاتها للشرعية الدولية وجرائهما الوحشية في فلسطينولبنان. ولو كان لدى الولاياتالمتحدة الجرأة على الجهر بالحقيقة لتخلت عن انحيازها لإسرائيل وعملت على دعم الحقوق المشروعة وأسهمت في تعزيز الديموقراطية الحقيقية، لا تلك المزيفة التي تنادي بها هذه الأيام لهدف ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. ولو كان لدى إسرائيل ذرة من الضمير والشرف لتراجعت عن غيها واستجابت لليد العربية الممدودة لتحقيق السلام العادل والشامل واستغلت هذه الفرصة التي لن تتكرر لتحل محلها جولات جديدة من العنف لن تنجو منها مهما طال الزمن. كفى: ترددها أجيال بكاملها مثقلة بالهموم، مثخنة بالجراح عاشت أيام العز وشهدت ايام وليالي الذل والهوان، واحتفلت بالاستقلال ومقارعة الاستعمار بشتى اشكاله وأنواعه، ثم صدمت برؤيته من نوافذ الوطن العربي المشرعة بعد سنوات قليلة من خروجه من أبوابه. أجيال شاهدة على عصر عجيب غريب مليء بالتناقضات والمفاجآت والهزائم والانتصارات المجهضة، بعضها من صنع العرب أنفسهم وبعضها الآخر من صنع الأعداء: حروب مع إسرائيل ونكبات في 1948 و1956 و1967 وانتصار مبتور في 1973 واجتياح إسرائيلي للبنان عام 1982 وعمل فدائي ثم مقاومة واندحار إسرائيل عام 2000 واتفاقات سلام منفصلة وجزئية ومنفردة أضرت بالعرب وبدت نتائجها جلية واضحة على حال الأمة هذه الأيام وحال لبنان المنكوب وحال فلسطين والشعب الفلسطيني اليوم من تداعيات أوسلو وممارسات العهر الصهيوني وعلى الهامش حروب عربية - عربية وعربية وإسلامية وانقلابات وثورات مزعومة وعنف وقتل واجرام وإرهاب وأخطاء وخطايا، من بينها على سبيل المثال لا الحصر الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما نجم عنه من تداعيات وخسائر وأثمان باهظة، ليس بهدر مئات البلايين من اموال عرق الشعوب وثروات الأجيال فحسب، بل في عودة القوات الأجنبية وزرع القواعد العسكرية الأميركية في قلب العرب وفي العراق الجريح الذي استبيح دم شعبه ومعه أرضه وعرضه وثرواته بعد المرور على"غزوات"القاعدة العشوائية وبينها غزوة بن لادن الشهيرة عام 2001 في نيويورك وواشنطن والتي تحولت الى زلزال هز كيان الأمة وعرّض العرب والمسلمين للملاحقة والحصار داخل أوطانهم وفي ديار المهجر والشتات. أجيال بكاملها نكبت بهذا الواقع الأليم فصار كل واحد منه يندب حظه في كل مناسبة وينعى حاله وحال الأمة ولسان حاله يقول: أنا ابن جيل فرح وحزن، ضحك وبكى أو بالأحرى لم يكد يفرح حتى داهمته غصة الحزن ولم يكد يضحك حتى غلبه البكاء. لم تكتمل فرحته يوماً بحدث أو بانجاز أو نصر. جيل هذا هو قدره وهذه هي حقيقة معاناته. ولأنني لا أحب البكاء على الأطلال لا بد أن اعترف بأنه على رغم كل ما مر علينا من مآس وحروب ودمار وفرقة وخلافات وتشرذم خلال أكثر من نصف قرن، فإننا شهدنا انجازات وايجابيات كثيرة، لكن المؤسف أن الهدم تغلب على البناء، والتطرف انتصر على الاعتدال والخطايا والأخطاء غطت على الانجازات، والسلبيات لم تترك للايجابيات مكاناً للظهور. ولا أدري ما إذا كانت حساسيتنا كأبناء مهنة البحث عن المتاعب قد زادت عن حدها لننظر الى الأمور بمثل هذا المنظار الأسود، خصوصاً أن ممارسة هذه المهنة المتعبة أصلاً في أي مكان من العالم في العالم العربي تعتبر ضرباً من الجنون وجنوحاً نحو الانتحار بعد الدخول في مرحلة الاكتئاب. ولكن متابعتنا للأحداث دفعتنا على الدوام الى دق نواقيس الخطر والتحذير من هذا الفلتان في الممارسة والتعاطي مع الأحداث، ونحن نعرف معنى الحكمة القائلة"رب كلمة تشعل فتنة وحروباً"، كما ندرك أن شرارة صغيرة قد تحرق بلداً وأن التعصب الديني والطائفي أو العرقي والسياسي ليس له سوى نهاية واحدة، وهي الخراب والدمار. فمعظم ما جرى في البلاد العربية بدأ بكلمة وانتهى بالدم، وتشبه الكثيروزن بالقط الذي يلحس المبرد، مما يدفعنا لإدراك أهمية الحوار والتفهم والتفاهم وتجنب العنف. فالخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، والهدم سهل والبناء صعب وهذا بعض الدروس التي تعلمتها وأتمنى ان يتعلمها كل إنسان عربي حتى لا ينجر وراء التحريض والفتن. ولهذا يجب أن نطلق الصرخة عالية للتحذير من الأوضاع الراهنة داخل أوطاننا وعلى صعيد الوطن الكبير، فقد تعودنا منذ عقود طويلة على التشبه بالنعامة واتباع سياسة التهرب من المواجهة والهروب من ساحة المعارك بشتى أنواعها حتى بتنا نعيش في كل يوم أزمة. في كل خطوة إلى الأمام خطوات الى الوراء، وفي كل أمل عربي تراجع، وفي كل حدث ضياع وتنازلات وتبريرها ما أنزل الله بها من سلطان، وبدلاً من المسارعة الى اتخاذ قرارات حازمة وجريئة وحاسمة يتم اللجوء الى التسويف والبيانات الانشائية والتلهي بالتفاصيل الصغيرة التي تسكنها الشياطين وتقود الى دوامة لا نهاية لها ولا قرار. فالمشهد العربي اليوم محزن ومؤسف وخطير ومتفجر في آن. فعلى الصعيد الداخلي تراجع وجمود وفساد وغليان وتباطؤ أو تهرب من تنفيذ خطوات الاصلاح المطلوب لمعالجة القضايا الحياتية والأزمات الاجتماعية والإنسانية من بطالة وفقر ونقص أو انعدام الخدمات الأساسية الملحة واستمرار لجرائم انتهاك حقوق الإنسان مقابل شباب ضائع بين الانحراف والتطرف من دون ايجاد طريق ثالث، أو منفذ يلجأون اليه لمواجهة مطالب الحياة ورسم طريق مستقبلهم. وعلى الصعيد العربي أزمات وحروب ومشاريع فتن وصواعق تفجير جاهزة وأزمات ومخاوف وقلق يتحول تدريجاً الى حال رعب دائم: من العراق الى فلسطين ومن لبنان وسورية الى السودان الى المغرب والجزائر. والمؤسف أن الكل يدرك ويعرف ويجاهر بأن الخطر كبير وبأن الآتي أعظم، ولكن"أطياف"الأمة وأمراء الحروب يتبارون في اذكاء نار الفتن وصب الزيت على النار! وها هو لبنان يدخل مجدداً أتون الحرب بعد فلسطينوالعراق حيث يستمر النزيف ويشتد الصراع بين أبناء الوطن الواحد وتتضح معالم مؤامرة التقسيم والتفتيت التي يعمل عليها مختلف الأطراف سراً وعلانية، فيما المحتل الأجنبي يكرس مقومات وجوده. ومهما قيل عن انعكاسات مقتل"ابو مصعب الزرقاوي"وآثاره على الوضع، فإن العنف سيستمر وإن اتخذ أشكالاً أخرى في المراحل المقبلة طالما أن هناك أطرافاً عدة مغبونة ومحبطة ومجردة من حقوقها. فالمقاومة السنّية مختلفة عن عمليات"القاعدة"وأسلوب الزرقاوي، لأن أهدافها شريفة ومشروعة. أما في فلسطين فالقلب ينزف دماً والعقل لا يصدق ما يراه من قصور وغباء وتعنت وجنون: العدو ينفذ مخططاته التوسعية ويمضي في تهويد القدس والتمهيد لهدم المسجد الأقصى المبارك، ويستعد لإعلان حدود من طرف واحد بعد إكمال جدار العار، ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية بعد تمزيقها وتحويلها الى أشلاء متناثرة، وأبناء القضية الواحدة يختلفون ويتصارعون على منصب ووزارة وحكم وهمي وسلطة خيالية. ومهما قيل عن احتواء الأزمة، فإن كل الدلائل تشير الى مسار خطير ومؤسف يؤدي الى اشعال نار الفتنة والتمهيد لنشوب حرب اهلية تبدأ بين حركتي"حماس"و"فتح"، وتنتشر على امتداد الوجود الفلسطيني لتحرق الجميع وتدمر الأخضر واليابس، أو ما تبقى منهما، ومعهما الحلم الكبير باستعادة الحقوق السليبة وتحرير الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وملف السودان وحروبه يحتاج الى مقال آخر ومعه ملف الحروب العبثية الاجرامية في الصومال والصراع المفروض في الصحراء لإرباك المغرب ومنعه من استعادة جزء من ترابه الوطني. أما ملف الوضع في لبنان فهو مأسوي وقد يبقى مشتعلاً حتى اشعار آخر في حال لم يتم وضع حد نهائي وحاسم لمنع تكرار ما جرى وتحصين البلاد من آفة تكرار الحروب والنكبات والالتفات للبناء وإعادة إعمار ما هدمه العدوان الغاشم خلال هذه الحرب الهمجية العبثية. وبين هذا الملف وذاك، يبقى الملف النووي الإيراني أهم صاعق تفجير في المنطقة يلفها من أعناقها ولا سيما في الخليج، ويهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور في حال عدم التوصل الى اتفاق نهائي وحاسم لنزع صواعق تفجيره. والمؤسف أن كل هذه الملفات توحي من خلال التحركات الدولية أن قرار المنطقة لم يعد يملك مفاتيحه العرب، بل استولت عليه في ليالي العرب الظلماء قوى اقليمية هي تركيا وإيران وإسرائيل، فيما حصلت الولاياتالمتحدة على أكبر عدد من هذه المفاتيح. كل هذه المعطيات تدعونا لتكرار الدعوة الى تحكيم العقل والتنبه للمخاطر والمسارعة لانقاذ ما يمكن انقاذه من أجل رأب الصدع ولمّ الشمل وتوحيد المواقف، قبل أن يفوت الأوان وتصل الحرائق الى مخادعنا! ولا حل أمامنا سوى الحوار البنّاء والصادق من أجل ازالة أسباب الفتن وتحقيق المصالح العربية الكبرى واحباط خطط ومؤامرات الهيمنة والتفتيت وسرقة القرار العربي من العرب. نعم لا بديل عن الحوار وهو ليس مجرد شعار، بل هو اسلوب حضارة وثقافة وأدب ولغة. وحسناً فعل مؤتمر الحوار اللبناني بإقرار ميثاق شرف للمرحلة المقبلة كخطوة لتنفيس الاحتقان واطفاء نيران الفتن الطائفية والمذهبية، والتي يمكن أن تطل برأسها من جديد بعد كل ما جرى نتيجة لتجاوز سلطة الدولة وإمساكها بقرار الحرب والسلم. ولا بد من الحوار ولو أدى إلى البدء من جديد... من نقطة الصفر، فالحرائق الكبرى ناجمة عن مستصغر الشرر، وتصفية النفوس تبدأ بكلمة طيبة اعتبرها سيد الخلق صدقة. لا شعارات كبيرة ولا آمال جساماً... بل مجرد دعوة... صرخة من قلب ينزف دماً ودمعاً وحسرة وحرقة يتمنى كل عربي أن يطلقها اليوم: كفى كفى... كفى... نريد حلاً وأمناً واستقراراً و... نريد الأمن لحماية أهلنا والعمل لنطعم أطفالنا والأمل لمستقبل أجيالنا... والسلام الحقيقي العادل والشامل... لا نطلب الكثير... فهذا من أبسط حقوقنا المشروعة، ومطالبنا بتطبيق قرارات الشرعية الدولية على الجميع. ولتكن البداية على الأقل هدنة أولية تعطي الشعوب فرصة للتنفس. * كاتب وصحافي عربي.