لم ينتظر الإسرائيليون مرور مئة يوم، "فترة السماح" الممنوحة لأي سياسي يتولى منصباً جديداً، كما لوزير الدفاع الجديد - القديم ايهود باراك، ليمنحوه علامة تقدير عالية، لتكريسه جل وقته لإعادة تأهيل الجيش بعد"صدمة الفشل"في لبنان، ثم التبجح ب"الغارة الغامضة"على سورية والقناعة بأن باراك أشرف عليها شخصياً، فالتسريبات عن رفضه تقديم"تنازلات"الى الفلسطينيين، كلها مجتمعة رفعت أسهمه لدى الرأي العام وأعادت للإسرائيليين الشعور بأن"جنرالاً متعقلاً ورصيناً وبارد الأعصاب"يقبض على مفتاح أمنهم وأمن دولتهم. سقوط خيار الوزير المدني ولا شك أن الفشل في لبنان سرّع في عودة باراك إلى الحلبة السياسية، التي هجرها لستة أعوام، بعدما شطب نهائياً خيار"وزير دفاع مدني"الذي تمثل في وزير الدفاع السابق، المخلوع عمير بيرتس. ونجح باراك، في فترة قياسية، في استعادة شعبيته في أوساط حزب"العمل"وبالتالي العودة إلى كرسي زعامته ليتقلد من جديد منصب وزير الدفاع الذي شغله حين ترأس الحكومة الإسرائيلية 1999 - 2001. وعلى رغم أن حزبه، الذي يمثل يسار الوسط، فقدَ منذ زمن شعبيته لدى الإسرائيليين الجانحين باستمرار الى اليمين وبات مجرد تابع ل"ليكود"ثم"كديما"، إلا ان الترحيب بعودة باراك إلى وزارة الدفاع تخطى الخلافات الحزبية باعتباره ألمع شخصية عسكرية في الوقت الراهن، وهو الجندي الذي حاز على أكبر عدد من الأوسمة العسكرية في تاريخ الجيش الإسرائيلي ما يؤهله للقب المحبذ لدى الإسرائيليين"سيد الأمن". لغة الليكود ويلاحظ المراقبون ان باراك"الجديد"خلع جلده السياسي السابق يسار الوسط واختار يمين الوسط لإدراكه انه التيار المركزي في إسرائيل لا التيار الذي يمثله حزبه، وليقينه ان الوصول من جديد إلى كرسي رئاسة الحكومة، وهو الغرض الأساس من عودته إلى الحياة السياسية، لا يمكن أن يتم من دون مجاراة المرشح الأقوى لهذا المنصب زعيم"ليكود"بنيامين نتانياهو باللغة ذاتها التي يعتمدها في مخاطبته الإسرائيليين، لغة التشدد مع الفلسطينيين والعرب عموماً والقبول بشروط السلام الإسرائيلية. ويأخذ باراك في استراتيجيته بالانعطاف الى اليمين حقيقة ان الإسرائيليين عاقبوه في انتخابات العام 2001 أمام أرييل شارون على تقديمه"تنازلات كبيرة"للفلسطينيين في المفاوضات مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد. ومن هنا رفضه اليوم الانسحاب من مدن الضفة الغربية أو حتى إزالة بعض الحواجز العسكرية معتبراً العملية السياسية التي يحاول رئيس الحكومة ايهود اولمرت تحريكها مع الفلسطينيين"مجرد هواء وأجواء"أو"فانتازيا"مكرراً اللازمة التي أوجدها بنفسه عام 2000 بأن لا شريك فلسطينياً لإسرائيل. "الصقر الجارح" أمنياً، لم يتبدل باراك"الصقر الجارح"، الذي انضم إلى حزب"العمل"، ليس إعجاباً ببرنامجه السياسي إنما استجابة لرغبة زعيم الحزب رئيس الحكومة السابق و"معلمه"اسحق رابين الذي أراده خلفاً له. وبحسب أوساط باراك فإنه لم يثق ذات يوم بالعرب ونظر إليهم دائماً عبر"فوهة البندقية"، فاغتال عدداً كبيراً من القادة الفلسطينيين في عمليات ما زالت إسرائيل تتكتم عنها. وينطلق باراك في برنامج عمله من المعادلة القائلة ب"المسؤولية الأمنية أولاً ثم الأفق السياسي". والمسؤولية الأمنية تعني في نظره أن تعود المنطقة لتدرك أن لإسرائيل ذراعاً طويلة لن تتردد في استخدامها و"أن يدفع من يتحرش بنا ثمناً باهظاً على أي خطأ يرتكبه"، أي أن يشعر"المتحرش"بذراع الجيش الإسرائيلي قبل التوجه إليه باقتراحات سياسية، ما يفسر رفضه أي عملية تفاوض في هذه المرحلة،"وفي غياب قيادة فلسطينية قادرة على توفير البضاعة"التي تريدها إسرائيل. محاولة تقويض حكم"حماس" ويرى باراك أن البديل لعملية سياسية مع الفلسطينيين في الوقت الراهن هو شن عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة تحت غطاء وقف القصف الصاروخي بينما المهمة الأساس محاولة تقويض حكم حركة"حماس"في القطاع. وبينما تسود الإسرائيليين قناعة بأن الحرب على غزة حتمية يبقى السؤال عن توقيتها، وما إذا كان باراك سينجح في إقناع اولمرت بعدم ربط القرار بشن الحرب باللقاء الدولي المزمع عقده في واشنطن بعد شهرين وإن كانت إسرائيل لا تعوّل كثيراً على نتائجه، لكنها تأخذ في حساباتها دائماً عدم إغاظة الحليفة الكبرى الولاياتالمتحدة التي ينبغي أن تعطي الضوء الأخضر لعدوان إسرائيلي كبير الحجم.