"يحتمل ان أكون وصلت في وقت مبكر جداً لمنصب رئيس الوزراء. اخطأت غير قليل. وانعدام تجربتي كان في مصلحتي. وأعرف اليوم ان لا توجد طرق مختصرة في الحياة السياسية العامة، أما القيادة فهي تكليف مشترك وليست مهمة فرد واحد، إذ لا يكفي المرء ان ينجح وحده. وعلى أي حال فإن العقل السليم والإرادة والكفاءة وحدها لا تكفي لقيادة دولة". رسالة الغفران هذه وردت في إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود باراك عن عودته رسمياً الى الحياة السياسية وعن تنافسه على زعامة حزب العمل وقيادته في الانتخابات التي ستجرى أواخر أيار مايو المقبل والتي تعتبر كذلك منافسة وصراعاً على منصب وزير الدفاع الذي يتولاه الآن زعيم الحزب عمير بيريتس. لماذا قرر باراك العودة الآن الى الساحة السياسية والحزبية؟ ولماذا استقبل بترحاب هذه المرة، عكس المرة السابقة أي منذ عامين تقريباً عندما استعملت مصطلحات مثل"خطوة متعجرفة ووقحة وغير أخلاقية"رداً على رغبته في العودة عن اعتزاله العمل السياسي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2004. قبل الإجابة لا بد من إلقاء نظرة موجزة على سيرة"نابوليون الإسرائيلي"كما كان يوصف في جيش الاحتلال الذي خدم فيه باراك قرابة ثلاثين عاماً وحاز على عدد من الأوسمة والنياشين لم يسبق ان حصل عليه أي من القادة او الضباط الإسرائيليين. ايهود باراك، او ايهود الأول كما سماه أحد المعلقين الإسرائيليين، قضى معظم خدمته العسكرية في دورية رئاسة الأركان"سيرت متكال"التي تعتبر وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي، وهو أشرف على عملية فردان الشهيرة والتي قام شخصياً فيها بتصفية ثلاثة من قادة الثورة الفلسطينية، العملية التي طالما تباهى بها"نابوليون الإسرائيلي"لدرجة انه قال بالحرف الواحد اثناء الحملة الانتخابية لمنصب رئاسة الوزراء عام 1999 : "رأيت بياض عيونهم يتطاير على قبعتي". وترقى باراك سريعاً في جيش الاحتلال عبر تسلمه حزمة من المناصب الرفيعة بدأت برئاسة قسم التخطيط في عام 1981 ثم وحدة الاستخبارات فقيادة المنطقة الوسطى فمنصب نائب رئيس الأركان ورئيس وحدة العمليات، الى ان عيّن رئيساً للأركان عام 1999 ليكون رئيس الأركان الرابع عشر في تاريخ جيش الاحتلال الإسرائيلي. عام 1995 ترك الجيش ليدخل المعترك السياسي مباشرة حيث تولى منصب وزير الداخلية في حكومة اسحق رابين الذي تعاطى مع ايهود باراك كخليفته ووريثه السياسي سواء في حزب العمل أو رئاسة الحكومة. بعد ذلك تدرّج باراك سريعاً في المناصب السياسية فتولى وزارة الخارجية في تشرين الثاني 1995 بعد قتل اسحق رابين، وفي 1997 وصل الى قيادة الحزب بعد اكتساحه معظم قادة الحزب آنذاك من أمثال يوسي بيلين وشلوموين عامي وأفرايم سنيه حيث حاز اكثر من نصف الأصوات. ووصل الى منصب رئاسة الوزراء بعد فوزه الساحق على خصمه بنيامين نتانياهو الى ان فقد السلطة والمنصب في آذار مارس 2001 امام الجنرال العجوز آرييل شارون. سياسياً صنّف باراك دائماً ضمن الصقور، وهو تبنى مواقف يمينية طوال مسيرته السياسية إذ امتنع عن التصويت عام 1995 على اتفاق أوسلو"ب"واصفاً الاتفاق بقطعة الجبنة السويسرية الكثيرة الثقوب. وعندما تولى رئاسة الوزراء أزاح المسار الفلسطيني عن جدول الأعمال معطياً الأولوية للمسار السوري - اللبناني، ليس بحثاً عن السلام، ولكن باعتبار ان التسوية في هذا المسار لا تستلزم دفع أثمان باهظة وقد تسمح بتجميد المسار الفلسطيني الى اجل غير مسمى. وبعد فشل المحادثات مع سورية التي أشرف عليها وقادها باراك شخصياً وقام بتوريط الإدارة الأميركية في محاولته الحثيثة لإجبار سورية على التخلي عن بعض الأراضي في هضبة الجولان وإلا تتحمل مسؤولية فشل أو تعثر المفاوضات. ورفع الجنرال الاسرائيلي مفهوم فك الارتباط بالانسحاب الأحادي من لبنان ليس من أجل السلام والرغبة في التهدئة إنما لعزل سورية وحصارها عبر نزع الورقة اللبنانية منها بحسب التعبير الاسرائيلي الدارج، ومن ثم تقمص دور رجل السلام والتسويات والتنازلات والتوجه للمسار الفلسطيني المنتظر بأرجحية أخلاقية ومعنوية وبتجربة تبين قدرته على تحمل الصعاب، وإجبار الجيش الاسرائيلي والساحة السياسية عموماً على تقبل الانسحاب من أراض عربية محتلة، وهذا ما تم بالفعل بعد فشل المسار السوري. في أوائل العام 2000 أجبر باراك الرئيس الأميركي على عقد قمة كامب ديفيد في صيف ذلك العام بحجة انه سيطرح على الفلسطينيين صفقة لا يمكنهم رفضها وأن الرئيس بيل كلينتون سيدخل التاريخ من الباب العريض بوصفه الرجل الذي أخرج الحل النهائي للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الى حيز الوجود. وللأمانة فإن الرئيس الشهيد ياسر عرفات كان متيقظاً ومتحسباً لهذه النقطة، وهو حاول إقناع بيل كلينتون بأن الحل النهائي يحتاج الى مزيد من الوقت والجهد والحوار والمفاوضات، وعندما أصر هذا الأخير على عقد القمة انتزع منه الرئيس عرفات وعداً - لم ينفذ في ما بعد - بعدم تحميل الجانب الفلسطيني المسؤولية والتبعات في حال فشل المفاوضات، وهو الأمر الذي حدث، إذ رفض باراك طوال أسبوعين تقريباً الجلوس والتفاوض مباشرة مع الرئيس عرفات والوفد الفلسطيني، وقدم كل الاقتراحات من طريق الوفد الأميركي، وحتى هذه كانت مجتزأة وناقصة ولم تكن مرفقة بخرائط وتصورات واضحة، وتضمنت دولة فلسطينية مجزأة غير متواصلة على أكثر بقليل من نصف الضفة الغربية وسيطرة شكلية على الحرم القدسي الشريف، مقابل التنازل عن حق العودة والتوقيع على صك الحل النهائي للصراع. الرئيس عرفات رفض الصفقة الملغومة، واستثمر باراك هذا الأمر في حملة إعلامية غير مسبوقة من الأكاذيب والتشهير بحق عرفات والفلسطينيين بشكل عام، وحين تحدث عن عدم وجود شريك تفاوضي فلسطيني وعن رفعه القناع عن وجه عرفات وفضح مواقفه الحقيقية التي لا تقبل بالحل الوسط وتصر على التدمير الكامل لدولة إسرائيل. تمخضت الحملة الإعلامية عن مواقف او مفاهيم سياسية مستجدة ابتدعها باراك، وتمثلت بضرورة فك الارتباط النهائي عن الفلسطينيين وفق مقولة"هم هناك ونحن هنا"عبر بناء جدار فاصل في الضفة الغربية وتجميع 80 الى 85 في المئة من المستوطنين في كتل استيطانية كبيرة خلف الجدار الفاصل والانسحاب من بقية الضفة الغربية "يديعوت أحرونوت"11/12/2004، بحجة ان الظروف غير مهيأة وان ليس من قيادة فلسطينية قادرة على التوصل الى اتفاق للصراع مع الفلسطينيين، وإن وجدت هذه القيادة فإن الشعب الفلسطيني غير مهيأ معنوياً ونفسياً لتقبل فكرة الحل النهائي للصراع والقبول بإسرائيل دولة طبيعية في المنطقة. بعد فشل مفاوضات كامب دايفيد، وبعد حملة الأكاذيب الاسرائيلية وزيارة زعيم المعارضة أرييل شارون الى المسجد الأقصى اندلعت انتفاضة الأقصى التي أعلنت رسمياً عن وفاة عملية التسوية بعدما كانت ماتت سريرياً في كامب دايفيد، باراك رد بقسوة على الانتفاضة وأطق يد جيش الاحتلال في مواجهتها بحيث استخدم هذا الجيش مليون رصاصة في الأسابيع الثلاثة الأولى من عمر الانتفاضة، وحدثت سلسلة من التطورات السياسية في إسرائيل بدأت بانهيار الائتلاف الحاكم بزعامة باراك وانتهت بهزيمته الساحقة أمام الجنرال أرييل شارون بعد عجزه عن تحقيق أي من أهدافه وشعاراته المعلنة بالسلام مع السوريين والفلسطينيين خلال خمسة عشر شهراً، بل إن وسائل الإعلام تحدثت عن تمهيد باراك الأرض أمام فوز اليمين عبر تبنيه الحجة اليمينية الأساسية بعدم استعداد الفلسطينيين للسلام والتسوية وسعيهم الدؤوب الى تدمير دولة إسرائيل. ومع تقبل باراك مزاعم اليمين اختار الجمهور الاسرائيلي شارون زعيماً وقائداً لتنفيذ سياسة اليمين التي أقر باراك بصوابيتها محطماً ما يوصف بمعسكر السلام او التسوية، الى درجة ان أرييل شارون غالباً ما يقوم بإطراء باراك والثناء عليه مستخدماً عبارة"إنه رجل عظيم، ما أروع الأشياء التي قام بها لقد استلقى على الجدار من أجلنا". بعد هزيمته قرر باراك اعتزال الحياة السياسية والتفرغ الى حياته العملية والخاصة وإلقاء المحاضرات المربحة جداً في الولاياتالمتحدة وأوروبا عن تجربته العسكرية والسياسية. وعندما فكر في العودة الى العمل السياسي والحزبي قبل سنتين تقريباً فتحت عليه جبهة النار من كل الاتجاهات ما اضطره سريعاً الى الانسحاب والانزواء، غير أن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة إذ تنهال عليه عبارات الترحيب سواء من داخل حزب العمل أو من الساحات الحزبية والإعلامية واعتباره بمثابة المنقذ أو على الأقل أحد المنقذين لإسرائيل من الواقع المزري الذي تتخبط فيه على مستويات عدة. وأسباب الترحيب بعودة باراك يمكن إيجازها على النحو التالي: - أولاً: الفراغ القيادي الذي تعاني منه إسرائيل بعد غياب أرييل شارون القسري عن سدة الحكم بحيث أن الجلطة لم تصب شارون وإنما أصابت دولة اسرائيل ككل على حد قول أحد المعلقين، وبعد فشل ايهود اولمرت الذريع خلال السنة الماضية الى حد أن تضطر إسرائيل الى استجداء الأمل والمساعدة من أبرز قائدين وزعيمين من الجيلين الثاني والثالث هما بنيامين نتنياهو وأيهود باراك. والشعب الاسرائيلي مستعد في ظل الضائقة التي يعانيها لإعطاء الفرصة مرة أخرى للزعيمين اللذين لم يعودا شابين ويفترض أن يكونا قد تعلما من أخطائهما وعثراتهما، الأمر الذي انتبه اليه باراك كما يتضح من رسالة الغفران التي وجهها لأعضاء حزب العمل ضمن خطاب ترشحه للانتخابات المقبلة على زعامة الحزب. - ثانياً: انهيار مفهوم فك الارتباط أو الخطوات الأحادية بعد تجربتي غزةولبنان. هذا المفهوم الذي كان باراك أحد مخترعيه ومبتدعيه يحتاج الى تحديث وإعادة انتاج أو ابتداع مفاهيم وبدائل جديدة للمأزق الاسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يبدو ايهود الثاني أو ايهود أولمرت أعجز عن القيام به. - ثالثاً: حرب لبنان التي كشفت ضعف إسرائيل كدولة وكيان وضعف جيش الاحتلال ومكامن الخلل البنوية الهائلة فيه، بحيث عجز عن تحقيق الانتصار على تنظيم صغير لا يقارن عدة وعتاداً بالجيش الاسرائيلي. وجدول الأعمال الاسرائيلي تتصدره مهمة إعادة بناء الجيش وفق أسس مهنية وتنظيمية سليمة، المهمة التي يرى أعضاء حزب العمل كما عموم الإسرائيليين أن باراك هو الجدير بالقيام بها سواء كرئيس وزراء أو حتى كوزير دفاع. وفي الاستطلاع الأخير الذي أجرته"يديعوت احرونوت"في صفوف أعضاء حزب العمل ونشرته بتاريخ 6/1/2007 فإن 66 في المئة أيدوا تنحي عمير بيريتس عن وزارة الدفاع، ورأت غالبية واضحة بلغت 45 في المئة ان باراك هو المرشح الأنسب لهذا المنصب، مقابل نسبة اعتقدت ان بيريتس هو الشخص الملائم. - رابعاً: عجز حزب العمل عن العودة الى السلطة منذ هزيمة باراك امام شارون في العام 2001. وبعد غياب شارون عن المسرح السياسي وسوء أداء أولمرت فإن العديد من أعضاء الحزب كما الإسرائيليين يرون ان الانتخابات المقبلة ستشهد تنافساً حاداً بين الخصمين اللدودين بنيامين نتانياهو كزعيم لليكود وايهود باراك كزعيم للعمل، وان الإسرائيليين سينحازون بحسب غريزتهم الطبيعية والدموية نحو الجنرال الذي خدم في وحدات النخبة في الجيش وتقلد معظم المناصب الرفيعة وقتل العديد من العرب الاعداء حتى انه"رأى بياض عيونهم يتطاير على قبعته العسكرية". - خامساً: يتحدثون في إسرائيل عن الخطر النووي الإيراني كتهديد وجودي لدولة إسرائيل، وعلى رغم انشغال الفلسطينيين بنزاعاتهم وتراجع احتمالات السلام معهم والعرب فإن احتمال الحرب يظل هو المهيمن وربما في احتمالات المواجهة العسكرية مع ايران لإجبارها على وقف برنامجها النووي بالقوة المسلحة. والإسرائيليون لا يرون في ائتلاف اولمرت - ايهود أولمرت وعمير بيريتس ودان حالوتس - الثلاثي القيادي المناسب لقيادة إسرائيل في مواجهة هذا التهديد الوجودي، وهم يميلون الى البحث عن اعادة إنتاج ثلاثي جديد سيمثل باراك بالتأكيد أحد أضلاعه المهمة اما كرئيس وزراء او حتى كوزير دفاع، لذلك سنشهد في الفترة المقبلة مزيداً من استعراض القدرات من باراك ومزيداً من رسائل الغفران التي تتضمن كماً هائلاً من الاعتراف بالأخطاء والتجاوزات والتفرد غير الصائب بالقرارات والتوجهات، وهي الرسائل التي تناسب الحملات الانتخابية ولا تناسب مراحل او فترات القيادة والسلطة، كما أثبتت التجارب والسير التاريخية لزعماء وقادة إسرائيليين. * كاتب فلسطيني - مدير مكتب شرق المتوسط للصحافة والإعلام