"احزر ما هو البلد الذي يتذمر أهله من تردي وضعه الاقتصادي والأمني والسياسي، وتكتظ مطاعمه وأسواقه بهم، بمناسبة أو من دونها؟ ملاحظة: يشبّهون أنفسهم بطيور الفينيق التي تنبعث من الرماد. الجواب: لبنان". هذه فزّورة متداولة، خصوصاً عبر الإنترنت، وتُعتبر سخيفة لأن جوابها بديهي. وفي جزئها الأول، ربما لا يُعرف من هو الشعب المقصود، لأن الأحوال رديئة في كل مكان، ويصاحبها التذمّر أيضاً. وما إن يصل السامع إلى الجزء الثاني، ترتسم ابتسامة عفوية على شفتيه. فإذا كان السامع لبنانياً، يعي فوراً أنه هو المقصود أو شعبه. وإذا لم يكن لبنانياً، فلا بد له أن يكون سمع ب"ميزة"اللبناني. واللبنانيون في هذه المرحلة أمامهم ثلاثة أمور، وهي على سلّم الأولويات: الاستحقاق الرئاسي والأوضاع المتّصلة به، التي"تعدهم"بحالة مديدة من اللااستقرار. والأمر الثاني، بداية العام الدراسي الجديد. ومع أنه يريح"الكبار"من جلبة"الصغار"وطلباتهم المتواصلة أي تذمّرهم، فهو يعني بالمقابل صرف الأموال ودفع الأقساط، ما يلقي على كاهل اللبنانيين أعباء اقتصادية، تفوق قدراتهم المتضائلة بسبب"المطبات السياسية والأمنية التي يفاجئنا بها البلد"، كما يقول أحد المواطنين. والأمر الثالث هو شهر رمضان، ويرافقه غلاء في السلع، وقلق عام، يشدّ الأعصاب ويشغل البال، في حين يُفترض أن يكون الشهر الفضيل شهر هدوء وسكينة،"لا توفّرهما كل المطبات التي تصادفنا في لبنان"، يحلل المواطن ذاته. والذي يعترض على رأي ذلك المواطن، أو على الأقل، لا يجاريه، يكون من القادرين على مواجهة"المطبّات"السياسية والاقتصادية والاجتماعية بإيجابية، باعتباره اعتادها. وقد لا يزعزع طمأنينته، وعزمه على المضي قدماً، حتى حادثة، مثل اغتيال النائب أنطوان غانم بانفجار أودى بحياة مدنيين قبل أيام. وهذا بصرف النظر عمّا إذا كان المواطن"المتعوّد"على تقلّبات أزمات البلد والأزمات النفسية، أي"المتمْسَح"، بحسب تعبير أهل البلد، قد تأثّر بالحادثة إياها. ولعل الدليل على تعامل اللبنانيين"الإيجابي"والأمر نسبي مع"المطبات"، والناتج من تعوّدهم عليها، هو مطاعم بيروت والمصايف التي اكتظت بالمصطافين، خلال أشهر العطلة الصيفية، وحالياً في أوقات الافطار، إضافة الى ازدحام شوارع بيروت، مار الياس والحمرا والزلقا وفرن الشبّاك، ومحلات الأغذية، بالمتسوقين. في أحد مقاهي الحمرا، جلس جاد وحسام 26 سنة، يتسامران، ولم تبدُ عليهما علامات المبالاة بأي من الأمور الثلاثة، التي تواجه مواطنيهم. وهما يمارسان هواياتهما المعتادة. يرتادان أماكنهما المعهودة، مع فارق بسيط هو انهما، يوم العطل، لا يخرجان خلال النهار،"إلاّ عند الضرورة، لأننا نكون متعبين وصائمين، فنؤجّل الخروج إلى ما بعد الافطار"، يشرح جاد. ويقاطع حسام:"... وانتخابات الرئاسة لا تعنينا، فنحن لا ننتخب". ويبتسم جاد متهكماً:"وكأنها تعني سائر المواطنين!". ويضحك الاثنان بمرارة الذي لا حول له ولا رأي في أي شيء. ثم يعود حسام ويشدد:"لم يتبدل في حياتنا أي شيء في هذه الفترة". حالة نورا 22 سنة وصديقتها ندى 23، لا تختلف عن حالة الشابين، فعلى رغم أنه موسم انطلاق العام الجامعي الجديد، لم تبدل الصبيتان في مسار حياتهما:"نحن أصلاً لا نخرج كثيراً في النهار، إلاّ إلى البحر صيفاً. والآن، بدأت الجامعة، ولكننا ما زلنا نسهر ونمضي اوقاتنا في المقاهي"، تؤكد نورا. أمل 36 سنة وزوجها جميل 40 لم تؤثّر فيهما الأمور الثلاثة التي تستغل حالياً الساحة اللبنانية. أو على الأقل، هذا ما تحب أمل أن توحي به للآخرين. ومع أن للزوجين ولدين في المدرسة، وكلاهما يعمل نهاراً، ويصوم، تصرّ أمل على الخروج للإفطار، ليلتين في الأسبوع مع الأولاد،"لكي تبقى نفسياتنا مرتاحة ونغير جوّ". يرمقها جميل بنظرة استياء، تتفاداها هي بتوجيه اهتمامها إلى الولدين، قبالتها أمام الطاولة في احد مطاعم شارع بلِس، في بيروت. ويحاول جميل، الزوج، تصحيح"خطأ"زوجته في كشفها خصوصية ما:"نحن نخرج مع الأولاد كي يودّعوا الصيف، فمدرستهم بعد أسبوع". والواضح من نبرة جميل ووجهه الشاحب إن نفسيته ليست مرتاحة تماماً، إذ يبرر:"كيف نرتاح مادياً ونفسياً، عندما يكون البلد مليئاً ب... مطبات، كما تقولين، سياسية وأمنية ومن كل الأنواع؟". يصمت قليلاً ثم يضيف بشيء من الحزن :"حتى الصيام صار ثقيلاً علينا. فلا البال مرتاح ولا الأعصاب قوية". لا شك في أن"المطبات"فشلت في منع الناس من الخروج ليلاً بعد الإفطار. فالحركة في شارع الحمرا، حول المقاهي وداخلها تبدو عادية، لا بل اكثر من عادية. والناس يشكلون طوابير انتظار للجلوس في مطعم أو مقهى، بسبب كثافة الروّاد. والأرصفة تكاد لا تتسع للمارة. في أحد مراكز التسوق في الدورة، امرأة في مستهل خمسيناتها، اسمها وداد، تتسوّق. وللسيدة وداد تحليلاتها الخاصة، في ما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي، الذي يتزامن مع عودة أولادها الأربعة إلى المدرسة:"في هذا البلد، الناس تُفلس مادياً، والزعماء يُفلسون سياسياً". وتضحك مستبقة رد فعل المارّين بجانبها. ومع ذلك، ترفض وداد الإذعان لهذا الإفلاس المزدوج:"أنا هنا وأولادي الأربعة، وكلهم يعودون إلى المدرسة، بعد أسبوعين، وأشتري لهم أحلى الأغراض وأغلاها"، تقولها بلهجة تحدٍّ... ثم تنفعل السيدة وتتوقّف عن الكلام، ثم تهدّئ نفسها وتستجمع قوتها لتعلّق:"مش فارقة معي. المهم أن يهنأ أولادي ويرتاحوا ولا يصيبهم أذى، ولو بدنا نفلّس حقيقة". وبعد جولة مع السيدة وداد أمام رفوف السوبر ماركت، تلاحظ انها تشتري كل أنواع السكاكر والحلويات للأولاد، حتى كادت نسبتها من المشتريات، تفوق نسبة المأكولات من خبز ولحوم وأجبان. لا يتعاطى طوني 54 سنة في مشتريات أولاده المدرسية بالحماسة التي تبديها السيدة وداد، لا بل يظهر بعض التردد وهو يتبضع مع ابنته لارا 7 سنوات الدفاتر والأقلام والحقيبة، من مجمع تجاري على طريق بكفيا، بعد يومين على الانفجار الذي أودى بحياة النائب غانم. تجذبه الطفلة من طرف قميصه لتدلّه على ما تريد شراءه، وينصاع لها"مرغماً"، وعلى وجهه علامات صراع داخلي خفي يعذّبه. ويقول:"المدارس ورئاسة الجمهورية والتفجيرات... كلو مع بعضو"، كلمات يختصر فيها طوني وضعه، قبل أن يضيف:"الوضع السياسي لا يسمح للوضع الاقتصادي أن يرتاح". ومع ذلك، يواجه الوالد الخمسيني صعوبات بالغة في رفض أي طلب لإبنته الوحيدة:"يصعب التفسير للأطفال أن وضع البلد ليس مرتاحاً، فهم لن يتفهّموا ذلك ولن يقبلوه"... ويعبّر أخيراً عن موضوع التفجيرات، مستدركاً:"وأما الانفجارات فلقد تعوّدنا على الموضوع. كل شيء مرتبط بالاستحقاق الرئاسي". يرسل نظرة حنان إلى ابنته المنشغلة بأغراضها الجديدة، وهي تنقل عينيها اللامعتين، بين والدها والأغراض التي تحملها، قبل أن يقول بحسرة:"لا يسعنا إلاّ الصلاة لئلاً يصيب الأولاد أي مكروه... وكل شي منيح".