بعدما اعتمد اللبنانيون بدعم من الدول المعنية اتفاق الطائف لوقف آلة الحرب المدمرة، عادوا وجعلوا من هذا الاتفاق دستوراً للبلاد، وحاولوا على مدى ما يقارب العشرين سنة التكيف والتعاطي مع هذا الدستور واعطاءه الوقت الكافي لإنجاحه وتطبيقه، ولكن لسوء الحظ فإنهم فشلوا في تحقيق هذا الأمر والحال كما هي عليه. يقول أرسطو ان المفكرين في علم السياسة يجب ان يكونوا قادرين ومؤهلين ومستعدين للانكباب على فهم الدستور ودراسته مثلما هو قائم بنصوصه، مع الانتباه الكلي الى طبيعة نشأته وتكوينه، ليتسنى لهذا الدستور ان يعيش أطول مدة ممكنة من دون تعديل أو عقم في التفسير والاجتهاد. ومن طروحات أرسطو هذه اصبح اللبنانيون اليوم أصحاب اختصاص في علم التفسير والاجتهاد الدستوري يتبارون بالنقاش والجدال بحسب أهوائهم وميولهم. هل ينتخب الرئيس بالثلثين عند انعقاد الجلسة؟ او بالنصف زائد واحد؟ او ان مجلس الأمة لا يفتح أبوابه لأن رئيسه لا يشاء ذلك! او ان الحكومة لا تستقيل لأن رئيسها لم يقبل استقالة بعض وزرائه! هذا كله يعود الى نوعية السياسيين الذين نصَّبوا أنفسهم باسم الطائفية والمذهبية زعماء ميليشيات وأمراء حرب ومشايخ وجعلوا من دستور الطائف، خصوصاً المادة 95، مطية لهم في توزيع مراكز السلطة على بعضهم البعض وربط مصالح الناس بهم وليس بالدولة ومؤسساتها. ومن خلال هذا الوضع وهذا السلوك السياسي، تزعزعت مركزية القرار الوطني وأصبحت الدولة غير قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية والمهمة، وأصبح الوطن في حال من الانفصام السياسي والتفكك الاجتماعي والفوضى الداخلية. الدستور في جوهره يجب ان ينص على ان النظام السياسي للأمة هو الوعاء الأكبر الذي يحتضن الجميع بالتساوي، بحيث لا فضل للبناني على آخر الا يقدر ما يقدم ويتفانى في سبيل الوطن، وان يكون السلام الأهلي وقيامة الدولة في فكره وسلوكه وفعله ونصب عينيه وليس الفكر التخريبي. يقول البند الأول من دستور اليونيسكو العالمي"اذا كانت فكرة الحرب تدور في عقول الرجال ففي عقول الرجال يجب ان تبنى مداميك السلام...". في فكر أي رجال في لبنان؟ هل تكمن في فكر رؤساء الميليشيات الذين قاموا بتهديم بنيان الوطن ومؤسساته؟ هل يعقل ان يتطلع العاقل الى هؤلاء لبناء ما هدموا بأيديهم وأفكارهم؟ وأي مداميك سلام تبنى في عقولهم وهم أبناء المتاريس وغريزتهم تشدهم دائماً الى الشقاق، لأنهم بذلك يحافظون على أدوارهم ويزيدون أرصدتهم في البنوك واستثمارات وتوظيفات أبنائهم في الخارج. ومع كل اجتهادات الطائف وتفسيراته يبقى الأمل لدينا كبيراً لأن اللبناني اتعبته لغة الحرب والتهديد بها، وأصبح تواقاً الى الأمن والاستقرار والدفء الاجتماعي والى هيبة الدولة ورعايتها ومشتاقاً الى حقوقه بكل أشكالها حيث يصبح الجميع تحت حرمة القانون. وأصبح يشعر ان لا كرامة اكبر من كرامة الوطن، وان هذه الكرامة يحميها ويصونها الانتماء الى الوطن والذود عن حدوده في وجه كل من يريد به شراً، وفي وجه كل من يعمل على هدم المؤسسات العامة والخاصة التي دفع اللبنانيون حياتهم وأموالهم ثمناً لإنشائها وتطويرها لتعود على الجميع بالخير والمنفعة، وفي وجه كل من يستقوي بالخارج على ابناء وطنه. حتى يحقق اللبناني ما يروم يجب ان يعمل بتجرد وإخلاص وينتقل من الطوفان الى دستور يقر في صميمه: - ان لبنان وطن سيد حر مستقل لأبنائه بحدوده المعترف بها دولياً، يستمد دستوره من خبرة أبنائه المخلصين وأفكارهم المطعمة بأفكار التراث الإنساني العظيم المتراكم عبر الأجيال والعصور، ويؤمن بأن الديموقراطية هي القاعدة الأساس لنظامه السياسي، والتي من خلالها وبها يستمد حرية الحركة والفعل في تطوير نظامه السياسي نحو الأفضل، مع العمل الدؤوب على توسيع رقعة النخبة الفكرية والعلمية وإعطائها فضاء واسعاً من الحرية المسؤولة كي تقوم بدورها في بناء الهرم السياسي، من خلال طرح الثقافة السياسية الوطنية. وعلى هذه النخبة مع المخلصين من أبناء الوطن السير على خطى المجتمع المدني في بلدهم، حيث ان النقابات والجمعيات والهيئات غير الدينية والمذهبية والعنصرية، لا تقر في أنظمتها بنوداً تنص على الطائفية، ولا تميز بين لبناني وآخر عند انتخاب الرئيس والأعضاء وبقية المسؤولين، علماً منها بأن الضمير الانتخابي عند اللبناني جيد وغير طائفي، ولا ينتخب الا الشخص المناسب للمكان المناسب، مثالاً ما يحصل في انتخابات نقابة المحامين ونقابة الاطباء وجمعية حقوق الانسان وغرف الصناعة والتجارة ونقابات العمال وما شابه. - وكي يتحرر اللبناني كلياً من عبادة الطائفية والمذهبية يجب ان يحرر الدين من الدولة ويحرر الدولة من الدين، ولا يطلب من الدولة كما تلمح المادة التاسعة من الدستور ان تؤدي فروض الإجلال لله تعالى. والدولة المؤمنة ليس عليها ان تذهب لتؤدي فروض الإجلال في أماكن العبادة، ففي عام 1947 عندما انفصلت باكستان عن الهند وقف محمد علي جناح مخاطباً شعبه بقوله:"أنتم أحرار... أنتم أحرار في الذهاب الى معابدنا، أنتم أحرار في الذهاب الى مساجدكم او الى أي مكان للعبادة في باكستان، وتستطيعون الانتماء الى أي دين او معتقد ما لا شأن له بعمل الدولة". أما نحن في لبنان فإننا دولة مؤمنة بالله نحافظ على كل القيم الروحية لكل طائفة وبهذه القيم يرتفع الإنسان اللبناني الى التآخي والتضامن والألفة مع أخيه اللبناني، مع التأكيد على إعطاء الحق لكل طائفة، بممارسة الطقوس الدينية بالطريقة التي تشاء وبكل حرية وبحماية القانون، ويكون لها شأنها الروحي، وتترك للدولة الشؤون المناطة بها ولا تطلب منها تأدية الصلاة في أماكن العبادة، بل ان تصلي في محرابها الوطني. وكما هي الحال في الدساتير الناجحة علينا العمل على فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها البعض فصلاً قاطعاً ونافذاً، فكيف يصبح النائب وزيراً وموقعه الأصل مراقب ومحاسب للسلطة التنفيذية؟ وألا يكون القاضي خاضعاً للسلطة التنفيذية، هذا لتقوم كل سلطة بواجباتها المعطاة لها بالقانون كي ينعم الوطن بالديموقراطية الصحيحة كما في هيئات المجتمع المدني اللبناني. - اصبح اتباع صيغة النظام الرئاسي أمراً ملحاً كي يستطيع هذا الوطن أن يسير في ركب الدولة العصرية، وهذا يتطلب انتخاب الرئيس بالطرق الديموقراطية ومباشرة من الشعب ومن دون أن نعطي اجتهادات دستورية، ففي مقارنة الأنظمة الدستورية نجد أن الرئيس المنتخب من مجلس الأمة هو رئيس رمزي لا يتمتع بصلاحيات تنفيذية كما حصل ليس من زمن بعيد في تركيا وفي إسرائيل. وحتى لا يتمادى بالسلطات المناطة به، كما القول المأثور بأن القوة تفسد وكثيراً من القوة يفسد أكثر، لذلك وجدت السلطة التشريعية لتكون له بالمرصاد في حال مخالفته الدستور والقوانين، وهذه يجب أن تنبثق على أساس نظام انتخابي عادل ومعاصر مرتكز على أساس ناخب واحد لمرشح واحدONE MAN ONE VOTE. هذا الأمر يساعد على إنشاء أحزاب وطنية لا طائفية. مع الإدراك بأن الأحزاب وليدة النظام الديموقراطي، ودورها تصحيح وتصويب الديموقراطية وليس زعزعة الوطن وتهديمه وجعله دولة"مارقة". وتحافظ هذه الأحزاب بتعددها على الكيان وتنفتح وتتلاقى مع الأحزاب الأخرى في حوار عقائدي وجدال سياسي وإقناع فكري يثمر ويعطي نتائجه في صناديق الاقتراع وليس بحسب أهواء الخارج وإرادة رؤساء الميليشيات، في الوقت نفسه تتحدى وتنتصر بالممارسة الديموقراطية على المتاريس الميليشيوية والتصرفات العوجاء والخرقاء. يتوج ذلك كله بسلطة قضائية مستقلة استقلالاً مطلقاً يلجأ اليها الجميع وترعى حقوق الجميع بالقسطاس والعدل، إذ كلما بقيت السلطة القضائية بخير فالوطن وأهله بألف خير. في منتصف الستينات في جامعة جورج واشنطن كان هنري كيسينجر يحاضر عن الشرق الأوسط ولم نكن نعرف يومها أن الرجل يهودي، وكان يجلس في الصف الأمامي الدكتور فايز صايغ الذي يعرف الرجل، فسأله ليحرجه: في أي بلد تحب أن تعيش قاصداً بذلك الولاياتالمتحدة أم إسرائيل، فأجاب كيسينجر: أحب أن أعيش في أي بلد فيه قضاء عادل. فإذا سلم القضاء سلم البلد. السلطات الثلاث عليها أن تسهر على حفظ المقدرات الجاهزة للنظام وتعمل على تقويتها وتطويرها، بدءاً بالمؤسسات العامة في الدولة وصولاً الى الجيش وقوى الأمن الداخلي وبقية الأجهزة الأمنية وغيرها، لنتوصل جراء ذلك الى حماية الوطن من ثغرات داخلية واعتداءات خارجية، وبذلك نحصل على الاستقرار المرجو الذي يسمح للبناني أن يظهر إبداعه ويحقق طموحه في حدود الشرعية المعطاة له وليس في تفسير الدستور ولا في مؤسسات الميليشيات، وهكذا يلتقي مع أخيه المغترب الذي أثبت للعالم بأنه موضع فخر واعتزاز لأنه موجود في كل أقطار المعمورة وناجح في عمله حتى انه توصل الى تبوؤ مراكز حساسة بما فيها رئاسة الجمهورية، ولا عجب اذا قيل إن الشمس تشرق من قلب لبناني لتغيب في قلب لبناني آخر فهذه حقيقة. القضية ليست انتخاب رئيس واجتهاد دستوري انما هي قضية الكيان اللبناني برمته، فاذا اتفق أصحاب الشأن اليوم على انتخاب رئيس فلا يعني ذلك أن الكيان قد سلم وأمّن لأبنائه الاستمرار، لأن أفيون الطائفية يحمل في طياته بذور التفرقة والانفصام بين اللبنانيين، لذلك علينا أن نفكر بالأجيال القادمة وتطلعاتها، بحيث لا يبقى لبناني محروماً في وطنه ولا مغترباً لبنانياً محروماً من العودة الى وطنه لأنه يعاب علينا تبني دستور طائفي لا يساوي اللبناني بأخيه اللبناني. إن فوضى ما بعد دستور الطائف لم تضع حداً لنهم المحتكرين وشركائهم رؤساء الميليشيات، ولم تفرض الضرائب التصاعدية حتى يصار الى ترميم الفجوة الاقتصادية والمعيشية بين طبقات المجتمع، بما في ذلك إنعاش المناطق المتخلفة وامدادها بالمشاريع العامة، وتأمين فرص العمل لكل من يطلبه بحق لئلا يجد اللبناني في حياته فراغاً وجوعاً يمليان عليه نقمة على وطنه، وهو يصبح، مع كل ذلك، خبيراً في القضايا الدستورية وطريقة انتخاب الرئيس، لهذا السبب لم نجد مع أرسطو أن الطائف يحمل معه الاستمرارية والبقاء. وعلى ما سبق يجب بناء رؤيانا المستقبلية كمواطنين، بصدق واخلاص، على دستور جديد يساعدنا في إيجاد مختبر الانصهار ضمن البوتقة اللبنانية الواحدة، لننطلق ونتلاقى مع الاغتراب اللبناني على أسس تحمل في طياتها استمرارية التلاحم والوحدة. وبهذا فقط يستطيع المختبر اللبناني المرتكز على الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة أن يكون مهداً لحوار الحضارات وتلاقي الثقافات الإنسانية والأخلاقية الكبيرة في العالم الذي نعيش فيه مع الآخر. * أستاذ جامعي لبناني.