مع اشتداد «ازمة التكليف والتأليف» في لبنان والتأخر في قيام حكومة جديدة، يربط البعض بين هذه الأوضاع المتدهورة، من جهة، وبين التلكؤ في تنفيذ ميثاق الطائف والالتزام بالتعديلات التي ادخلت على الدستور اللبناني بموجبه، من جهة اخرى. فالانطباع السائد هو ان المؤتمر البرلماني اللبناني في الطائف عالج جذور هذه الأزمات الذي يلخص عادة بالطائفية، وقدم مقترحات سديدة للتخلص منها. بالمقابل فإن التخلف عن تنفيذ ما جاء في اتفاق الطائف والدستور المنبثق عنه، يبقي لبنان في اسر العصبيات الطائفية والأزمة المتفاقمة. ولكن هل تشكل توصيات وقرارات المؤتمر البرلماني في الطائف التي تحولت الى تعديلات على الدستور مشروعاً واضح المعالم لمعالجة المسألة الطائفية وللخلاص من الطائفية السياسية؟ هل تشكل خريطة طريق للوصول الى هذه الاهداف؟ لا ريب ان التخلص من التعصب الطائفي سوف يضع لبنان على طريق النهضة وعلى طريق توطيد نظامه الديموقراطي ومقومات العدالة فيه. ولا ريب ان التعديلات التي ادخلت على الدستور اللبناني تعبر عن رغبة لبنانية في التخلص من الطائفية. ولكن اذا راجعنا هذه التعديلات لوجدنا انها انطوت على اشكاليات تحد من امكانية تفعليها منها ما يأتي: 1- ان الدستور يعتبر الغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً، كما هو الامر في المقدمة، ولكن معنى هذا الهدف الوطني يتأرجح في بعض المواد بين الغاء الطائفية عموماً والغاء الطائفية السياسية تحديداً. بين الاثنين فرق كبير فإلغاء الطائفية يرمي الى توفير ظروف يضع فيها المواطن ولاءه للدولة وللوطن قبل الولاء للطائفة، ويلزم الدولة بالتعامل مع المواطنين كأفراد وليس كمجموعات دينية وطائفية. بالمقارنة فإن الغاء الطائفية السياسية يخرج الطائفية من الباب السياسي ولكنه يسمح لها ان تعود - كما نتبين في المادتين 9 و19 من الدستور اللبناني - الى الحقل العام والى احتلال عقول وقلوب المواطنين عبر بوابات الاحوال الشخصية. 2- يستحدث الدستور في المادة 22 «مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي» ومن بعده «مجلساً للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية اللبنانية». يثبت الدستور هذه التغييرات وكأنها من الامور العادية التي تحل علينا بالبسيط من الجهد والعادي من التدبير. ولكن من يستحدث هذين المجلسين؟ وكيف يتم هذا التحول الذي ينقل المجلس النيابي اللبناني من هيئة ملقحة بالروح الطائفية الى هيئة وطنية الاساس والبنيان؟ ومن الذي يضمن ألا تتحكم الاعتبارات الطائفية البحتة بالانتخابات التي تجرى لاختيار مجلس نواب على اساس وطني؟ بتعبير آخر كيف لنا ان نتأكد هنا ان الناخب لن ينتخب الا المرشحين من ابناء طائفته بحيث ينتفي الاساس الوطني لعملية الانتخاب، فتسبتد الطائفية بالمجلس «الوطني» على نحو ادهى وامر مما هو الامر في مجالسنا الراهنة؟ فضلاً عن هذا وذاك، ما معنى حصر صلاحية مجلس الشيوخ - الذي يجرى اختياره على اساس طائفي - ب «القضايا المصيرية»؟ اذا كان المقصود بذلك ان «العائلات الروحية» الممثلة في المجلس لن تختلف على «القضايا المصيرية»، وان استبعاد امكانية الخلاف حول هذه القضايا سوف يحصر صلاحيات المجلس الطائفي في اضيق نطاق ممكن، فإن الدستور ينطلق هنا من فرضية مستحيلة. ذلك ان هذه القضايا هي بالذات التي تقسم اللبنانيين وتثير الانقسام الطائفي بينهم وتدفعهم الى الاحتراب والاقتتال. تعبيراً عن هذه الحقيقة المرة كان كمال جنبلاط يردد خلال السبعينات: «اننا لا نتقاتل من اجل الايجارات او الاجور بل كرمال القضية الفلسطينية». اذا صح هذا التقييم لعوامل الصراع داخل البيت اللبناني، فمن يضمن الا يتحول مجلس الشيوخ، مرة اخرى، الى جبهة صراع مفتوح بين الطوائف طالما ان الخلاف بينها هو حول القضايا المصيرية وليس حول القضايا الثانوية؟ 3- تسهيلاً لولادة مجلس النواب الوطني، ينيط الدستور بمجلس النواب مهمة «وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي»، ولكن هذا النص الدستوري مبني على فرضية ان النواب اللبنانيين المنتخبين على اساس قانون يقوم على اساس طائفي سوف يغيرون قناعاتهم ومواقفهم فينقلبون على القيد الذي جاؤوا بموجبه الى السلطة لكي يستبدلوه بالقانون الجديد المستمد من روح الوطنية وقبسها. فمن اين يأتي هذا الانقلاب العظيم في نفوس النواب؟ وكيف لنا ان نطئمن الى صواب هذه النبؤة التي تعدنا بهذا الانقلاب؟ 4- لعل الجواب في المادة 95 من الدستور التي تنص على وجود خطة مرحلية تُتخذ بموجبها اجراءات ملائمة لإلغاء الطائفية السياسية وعلى تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية. ولكن الدستور لا يشرح لنا من الذي يضع هذه «الخطة المرحلية»: هل يضعها المجلس النيابي نفسه؟ اذا كان الجواب بالإيجاب، نجد انفسنا مرة اخرى أمام السؤال المطروح اعلاه، اي لماذا يضع المجلس النيابي هذه الخطة ولماذا يشكل الهيئة الوطنية؟ ما هو الحافز الذي يدفع النواب الى تهديم المنصة التي اعتلوها حتى يصلوا الى قمة العمل السياسي في لبنان؟ اذا لم يضعها مجلس النواب، فمن يضعها إذن؟ 5- يحدد النصف الثاني من المادة الدستورية نفسها مهمة الهيئة الوطنية بأنها مجرد «دراسة و»اقتراح» الطرق التي تضمن الغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء مع «متابعة تنفيذ الخطة المرحلية». هذا يحول الهيئة الوطنية التي يأمل الكثيرون ان تكون اداة لإلغاء الطائفية الى هيئة استشارية لمجلسي النواب والوزراء. لا يبدل من ذلك اضافة «متابعة التنفيذ» الى الدراسة والاقتراح، ذلك ان متابعة التنفيذ لا تعني ان تمتلك الهيئة، بالضرورة، الصلاحيات لإلزام اية جهة بالأخذ بدراساتها واقتراحاتها. فضلاً عن ذلك فإنها سوف تتابع تنفيذ «خطة مرحلية» وضعتها جهة اخرى وقبل ان تولد الهيئة الوطنية. تعكس هذه الاشكاليات الضغوط الكثيرة التي كانت تواجه المؤتمر البرلماني اللبناني الذي انعقد في الطائف لكي يتفق على وثيقة الوفاق الوطني. فأعضاء المؤتمر لم يكونوا يعملون في اجواء هادئة تسمح لهم بالتدقيق في توصياتهم ومقرراتهم وفي النتائج التي تترتب عليها. كان مناخ الحرب في لبنان والحاجة الملحة الى انهاء الاقتتال يضغط عليهم للوصول بأي ثمن الى الحل المنشود. في مثل هذه الحالات كثيراً ما يلجأ المتفاوضون الى الغموض البناء، والى تأجيل البت في قضايا هامة ومصيرية الى المستقبل. بيد ان ذلك الغموض لا يوفر اساساً لخريطة طريق مناسبة لمعالجة مشكلة الطائفية المتفاقمة. فما هو الحل اذن؟ الحل لن يأتي من الذين دخلوا الحقل العام من الباب الطائفي، بل من المقتنعين اقتناًعا صميماً بمناهضة التعصب الديني والطائفي والمذهبي ومن الملتزمين فعلاً بالمبادئ الوطنية التي تساوي بين اللبنانيين وترعى حرياتهم وحقوقهم كأفراد وكجماعات ثقافية ايضاً. سوف يتحقق الحل عندما يعتبر هؤلاء انفسهم هم الجهة المعنية بالأهداف التي تضمنها الدستور بصدد الخروج من الطائفية والتعصب الديني، واذا ما بادروا الى استجماع قواهم وطاقاتهم لكي يؤسسوا هم «الهيئة الوطنية لإزالة الطائفية». اذا فعلوا فإن الخطوة الاولى التي ينبغي سلوكها على هذا الطريق هي الامتثال لما جاء في الدستور، اي الطلب الى رئيس الجمهورية ان يرعى اعمال الهيئة بما عرف عنه من الحرص على تعزيز الروح الوطنية. في نفس السياق تبدأ الهيئة اعمالها بإطلاق ورشة عمل لإعداد خطة لإلغاء الطائفية تبدأ بوضع مشروع قانون انتخاب «خارج القيد الطائفي»، ومشروع مجلس شيوخ يتم تحديد صلاحياته على نحو يعزز دوره كأداة تفاعل خلاق بين العائلات الروحية اللبنانية، وكحصن مؤسسي لحقوق الانسان وللقيم الديموقراطية، وليس كساحة صراع حول «القضايا المصيرية». مثل هذه الهيئة لن تكون شيئاً جديداً كلياً. لقد سبق ان شكلت هيئات كثيرة مماثلة. بعض هذه الهيئات حاول ان ينفذ ما جاء في الطائف، الا ان أثره كان محدوداً فضاع مع ضياع المبادرات الرامية الى تخليص لبنان من مرض التعصب الطائفي. هذه المبادرات جديرة بأن تدرس بجد، ولكن من دون ان يكون تعثرها سبباً للتشاؤم او للإحباط، فمن دون تجديد هذه المبادرات ومن دون انجاحها، سوف تبقى الطائفية سيدة الاحكام في لبنان. * كاتب لبناني