يستحيل أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي - مون، جاهلاً لأثر وعواقب تقويضه للقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن، حتى وإن كان في ذهنه التهدئة والترضية لمنع تفاقم الأوضاع. فالمنصب الذي يحتله الآن ليس منصب وزير خارجية كوريا الجنوبية وانما هو منصب يفرض عليه ألا يُدخِل قرارات مجلس الأمن في تصور خاص به كي يتجلى هو في المنطقة الرمادية. تلك المنطقة، إذا اختارها لنفسه فهذا شأنه. أما القرارات التي يصدرها مجلس الأمن، فهي خارج صلاحياته وليست من شأنه سوى عندما تودع لديه اجراءات التنفيذ وتوكّل الأمانة العامة بها. من حق بان كي - مون بل من واجباته، أن يضغط ويطالب ويستخدم مساعيه الحميدة ويطلق البيانات لدفع الدول والأطراف المعنية نحو تنفيذ القرارات. ليس من حقه تغييب القرارات أو القفز عليها. لا هو ولا غيره من الموظفين في المنظمات الدولية. له كل الحق ان يحوّل انعقاد الجمعية العامة الاسبوع المقبل مناسبة إعلامية له وهو يصافح القادة ويبتسم لعدسات التلفزيون. انما من حق العالم أن يتوقع منه أكثر من المجاملات واللقاءات التجميلية وأن يسائله عندما يتخذ مواقف مدهشة على نسق تعاطيه مع القرار 1559 الذي شكّل منعطفاً أساسياً في الحياة السياسية للبنان ولمنطقة الشرق الأوسط. فما على بان كي - مون أن يتقبله يشمل عدم الانحناء أمامه طأطأة للرؤوس لمجرد أنه في هذا المنصب الرفيع. عليه أن يتقبل مساءلته لماذا يصر على استبعاد ذوي الخبرة في ملفات مثل ملفات الشرق الأوسط عن حلقة كبار مستشاريه معتبراً نفسه المخوّل الوحيد لإدارة هذه الملفات، ولا يحق لأحد غيره"مزاحمته"عليها. عملية السلام للشرق الأوسط ليست في عهدته، لكنه قادر أن يساهم فيها، إذا تحلى بالجرأة. لبنان بات مشروعاً دولياً بحكم القرارات التي أصدرها مجلس الأمن التي بدأت بالقرار 1559، انما في استطاعة بان كي - مون أن يجعل من اصراره على تنفيذ هذه القرارات خريطة الطريق الى قصة نجاح للأمم المتحدة. عدا ذلك ليس سوى مساهمة غير مقصودة في سلسلة الاغتيالات لأعضاء مجلس النواب الرامية الى إطاحة الأكثرية البرلمانية اللبنانية. تلك الأكثرية ذاتها التي تتمسك بقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية وترفعها شعاراً لها. تلك الأكثرية التي بدا أن كي - مون خذلها بتقويضه، سهواً أو عمداً، قرارات مجلس الأمن التي تعمل المعارضة اللبنانية وحليفتها سورية عل انتهاكها وتغييبها وإلغائها بالاغتيالات السياسية الإرهابية. وعليه تفسير مواقفه تلك. بان كي - مون وصف جريمة اغتيال النائب انطوان غانم يوم الاربعاء بأنها"إرهابية"وقال عبر الناطقة باسمه ان"مثل هذه الأعمال الإرهابية تهدف الى ضرب استقرار لبنان، وهي غير مقبولة". هذا البيان الذي صدر بعد مضي 7 ساعات على الجريمة التي أودت أيضاً بحياة 8 مدنيين لم يشر أبداً الى ضرورة تنفيذ قرارات مجلس الأمن. وعدم ذكر القرارات جاء نتيجة قرار مدروس لبان كي - مون ومساعديه على رغم ادراكهم جميعاً أن اغتيال غانم جزء من عملية اغتيال القرارات الدولية وعلى رأسها، في هذا المنعطف، القرار 1559 الذي طالب بإجراء انتخابات رئاسية حرة طبقاً للدستور اللبناني من دون تدخل من الخارج. ذلك القرار ذاته الذي أجبر سورية على سحب قواتها من لبنان وأرغمها على فك قبضتها العسكرية عنه. ذلك القرار نفسه الذي يطالب بتفكيك ونزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية بما في ذلك"حزب الله"الذي جعل من الاطاحة بالقرار 1559 شرطاً أساسياً للتوافق على رئيس جديد يحل مكان اميل لحود، الرئيس اللبناني الموالي لسورية والذي كانت إعادة انتخابه بعد تعديل الدستور بقرار سوري بداية انزلاق النظام في دمشق. تغييب القرار 1559 في هذا المنعطف في بيانات، وعلى لسان بان كي - مون، يعني عملياً مؤازرة"حزب الله"وحلفائه في جهودهم المصرة على إجهاض القرار 1559. بكلام آخر، لقد دخل بان كي - مون طرفاً في النزاع اللبناني - اللبناني واصطف مع الفريق الذي يشترط إسقاط القرارات الدولية. فلقد فشل هذا الفريق بتحقيق هدفه الأكبر أي منع إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في العمل الإرهابي الذي أودى بحياة رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه وفي الاغتيالات السياسية الأخرى التي يثبت التحقيق الدولي ارتباطها باغتيال الحريري. فشل هذا الفريق على يد مجلس الأمن عندما تبنى قرار إنشاء المحكمة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وللعدل، ان إنشاء هذه المحكمة يسير بخطوات ثابتة وبمهنية تميّز الفريق القانوني الذي يقوده وكيل الأمين العام للشؤون القانونية، نيكولا ميشال، ويلقى دعم الأمين العام. ولربما كانت عملية إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان هي النجاح الأهم لبان كي - مون منذ أن تولى منصبه في بداية هذه السنة. فلقد سبق له أن اتخذ قرار استخدام نفوذه أو مساعيه الحميدة لإقناع سورية بتنفيذ قرارات أخرى لمجلس الأمن، وفشل. فشل في اقناعها بالقرار الداعي الى ترسيم الحدود وإقامة العلاقات الديبلوماسية مع لبنان اعترافاً بسيادته واستقلاله ومن أجل حسم هوية وملكية مزارع شبعا التي تريدها دمشق أن تبقى مسألة معلقة تبرر"المقاومة"اللبنانية لضمان احتفاظ"حزب الله"بسلاحه في مقابل سلاح الدولة اللبنانية. فشل في الحصول على أكثر من مجرد وعود من الرئيس السوري بشار الأسد في شأن وسائل وقف تهريب السلاح عبر الحدود السورية الى الأراضي اللبنانية. فشل في التعبير عن امتعاضه، أو احتجاجه، أو غضبه، أو اصراره على ألا يكون أداة تستخدمها دمشق أو غيرها لشراء الوقت وتسخيره في وعود غير صادقة. وما فعله بان كي - مون يوم الثلثاء الماضي كان عبارة عن هدية مميزة وثمينة قدمها الى كل من سورية وحلفائها في لبنان وبينهم رئيس البرلمان نبيه بري، الذي يصنف نفسه جزءاً من المعارضة. بري اتصل بالأمين العام ليحتج على تصريحات لمبعوث الأمين العام الخاص المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559، تيري رود لارسن، قال فيها ان المادة 49 من الدستور اللبناني تنص على نصاب الثلثين في أول جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية وعلى نصاب الأكثرية البسيطة، النصف زائداً واحداً، في الجلسات التي تلي جلسة عدم اكتمال النصاب إذا لم يكتمل. كلامه كان مجرد اقتباس عن الدستور اللبناني. سبب احتجاج بري واضح وهو أنه في جميع طروحاته يحاول استبعاد القرار 1559 بحجة أنه قرار مثير للجدل والخلافات اللبنانية. بالطبع انه مثير للجدل وللخلافات. فالذين مع القرار يريدون انتخابات طبقاً للدستور اللبناني ويريدون تجريد الميليشيات من السلاح لتكون في لبنان دولة واحدة تبسط نفوذها في جميع ارجائه. والذين ضد القرار يريدون احتفاظ"حزب الله"بالسلاح ويسعون وراء رئيس جديد ببرنامج يلتزم قتل القرار 1559 وغيره من القرارات التي أصدرها مجلس الأمن. اذن، من البديهي القول إن هناك خلافاً وإن القرار 1559 مثير للجدل. كذلك من الطبيعي لنبيه بري أن يبذل كل ما في وسعه لكسب متعاطفين مع مواقفه. انما من المدهش حقاً ان يوافق الأمين العام للأمم المتحدة وأن يدعم استراتيجية الفريق الذي يصطف مع الميليشيات ضد الدولة والذي يعلن، ولا يخفي أبداً، مواقفه الرافضة للقرار 1559. "مدهش"قد لا يكون تعبيراً كافياً إذ أن مواقف بان كي - مون خطيرة على لبنان نفسه وعلى القرارات الدولية، وعلى الأممالمتحدة، وعلى المبعوث الخاص الذي أصدر بان كي - مون عملياً قرار طرده أثناء مؤتمر صحافي رافضاً أن يمر ذكر القرار 1559 على شفتيه وكأنه مرض معد. ما حدث هو أن بان كي - مون سُئل عن تصريحات تيري رود لارسن فكان رده"تلقيت تعابير قلق من قيادات لبنانية حول تصريحاته. أنا لم اجتمع معه بعد للاطلاع على ما قاله تماماً. انما يجب عدم النظر الى ما يمكن أن يكون قد قاله بصفته الرأي الرسمي للأمم المتحدة. فقد يكون قد عبر عن آرائه الشخصية على رغم أنه مبعوث خاص لي". أولاً، ان واجب أي أمين عام للأمم المتحدة ان يقف مع، ويدافع عن، مواقف مبعوثه الخاص في المحافل العلنية حتى إذا ارتكب المبعوث خطأ. فإذا كان بان كي - مون مستاء من تيري رود لارسن، كان عليه أن يحسم الخلاف وراء الكواليس إما بإقالته أو بالطلب منه أن يستقيل. فلا يجوز التصرف بهذه الطريقة لأن فيها إهانة للمبعوث الخاص كما فيها تقويض للمهمات المكلف بها. ثم ان بان كي - مون نفسه يبدو صبيانياً بمثل هذه التصرفات إذ كان يجب عليه أن يتصرف بمستوى المنصب وأن يأخذ خلافاته - إذا كانت هناك خلافات - مع مبعوثه الى الطابق الثامن والثلاثين من مبنى الأممالمتحدة لمعالجتها، وليس في مؤتمر صحافي. اضافة الى ذلك، إذا كان الأمين العام قد سقط في حلقة الخلاف والتنافس الدائر بين شخصيات الموظفين عنده، فيجدر به أن يقرر من منهم يفهم بالأمور المكلف بها وأن يساند من هو أفضل من يخدمه بمعلومات وبتحليل وباتصالات تلبي الهدف النهائي، وهو خدمة الأممالمتحدة وتنفيذ قراراتها. ممثله في بيروت، غيير بيدرسون موظف، ومبعوثه الشخصي لمراقبة تنفيذ القرار 1559 شخصية. بان كي - مون أثبت أنه خائف من أن تطغى شخصية ممثل له عليه، فتصرف بما كشف ناحية مخيفة في شخصيته. كشف أنه يخاف ويفضل الموظف الذي يطأطئ الرأس ويعطيه نصيحة مبنية على مصالح شخصية وترقيات، بدلاً من مستشار يقدم له النصيحة التي تخدم القرارات الدولية لمجرد أنه صاحب شخصية كبيرة ومواقفه لا تلبي المنطقة الرمادية التي يريدها بان كي - مون لنفسه. اضافة الى ذلك، ان بان كي - مون قد عرّض حياة تيري رود لارسن للخطر وجعله عرضة للاغتيالات بتخليه عنه علناً، بتصريحات كانت عبارة عن طرد علني له، وبإهانة. وهذا تماماً ما يجب على الأمين العام للأمم المتحدة أن يعيه. فمثل هذا الاستغناء الاعتباطي هو عبارة عن سحب الحماية عن مبعوث خاص لتنفيذ قرار أدى حتى الآن الى اغتيال أكثر من 30 شخصاً بينهم رئيس وزراء وأربعة نواب وثلاثة صحافيين. وبالتالي، اما أن بان كي - مون لا يفهم معنى ما فعله أو أنه عنيد لدرجة العمى عن مثل هذه التصرفات. ثانياً، بغض النظر عما وراء التصرف الخطير لبان، فليس من حقه أن يتخذ مواقف تقوّض القرار 1559 من خلال مواقف تسحب الثقة عن المبعوث المكلف بمراقبة تنفيذ هذا القرار في فترة العد العكسي الى الانتخابات الرئاسية في لبنان. فإما أن بان كي - مون جاهل لمعنى ما قام به أو أنه يتخذ هذه المواقف تلبية لنصائح خطيرة من المحيطين به. فلقد أقحم نفسه طرفاً في الانتخابات الرئاسية من دون أن يدري ما فعله. وفي هذا الصدد، من المدهش أن الدائرة الضيقة المكونة من 8 أفراد يجتمعون به صباح كل يوم لبحث التطورات ووضع الاستراتيجيات دائرة تخلو كلياً وتماماً من أي عربي أو من أي خبير بشؤون الشرق الأوسط، من لبنان الى العراق الى فلسطين الى السودان. لا أحد من"الكبار"في دائرة بان كي - مون يتحدث اللغة العربية. لا أحد منهم يزعم أنه خبير بالشرق الأوسط، فما بالك بالخبرة بمكان معقد كلبنانوالعراقوفلسطين. حتى وكلاء الأمين العام في مختلف الدوائر لا يدّعون الخبرة أو التجربة أو المعرفة الضرورية لتناول قضايا شائكة ومعقدة، كلبنان. لو لم يكن مستقبل لبنان، وكذلك المنطقة العربية والشرق الأوسط، في منعطف خطير ومصيري، لما كانت مواقف بان كي - مون بتلك الأهمية الحاسمة. لذلك، على الأمين العام الجديد أن يستفيق الى خطورة مواقفه وأن يتوقف عن مد حبال الانقاذ من الضغوط الضرورية لجهات تتحايل على القرارات الدولية لتجنب تنفيذها. عليه أن يدرك أن مساعيه الحميدة تستخدم من أجل شراء الوقت لتحقيق أهداف تتناقض مباشرة مع مطالب القرارات الدولية. من واجبه الكف عن الاعتقاد بأن نفوذه الشخصي بديل من القرارات. فهو بذلك شريك الأمر الواقع في قتل بلد وفي اغتيالات سياسية أخرى آتية الى لبنان ضمن استراتيجية واضحة وبسيطة تنتقي اغتيال نواب لمناطق تشعر الأقلية بأنها قادرة فيها على إسقاط نائب من الأكثرية وانتخاب بديل عنه من صفوف الأقلية، وهكذا يتم ضرب عصفورين بحجر، أو بالأحرى باغتيال. فإذا لم يشرح أحد لبان كي - مون مثل هذه المعادلة البسيطة، عليه أن يتوقف عن التظاهر بأنه يتلقى النصيحة أو بأنه قادر على اتخاذ القرارات من دون نصيحة. فإذا رفض الإقرار وتصرف بالعناد المعروف عنه، فمن واجب الدول أن ترفع في وجهه البطاقة الحمراء لتقول له: كفى. ليس من حقك إجهاض القرارات الدولية.