بعض القرارات يشكل في حياة بعض المناطق منعطفاً تاريخياً لمستقبلها. هذا ما عاشته الريفييرا الفرنسية مع صدور قرار حكومة الجبهة الشعبية عام 1936 بتخصيص شهر إجازة لموظفي القطاع العام وعمال القطاع الخاص. هذا الأمر كان له الأثر المباشر في تحويل السياحة على الريفييرا الفرنسية من سياحة شتوية خاصة بالاغنياء الإنكليز والروس إلى سياحة صيفية بمتناول جميع الطبقات. وفي العام 1946، بدأ مطار نيس باستقبال الطائرات التجارية، فكان بمثابة باب دخول شرع المجيء إلى المنطقة. ثم في الثمانينات بدأت تظهر نتائج الاستراتيجيات السياحية، فكانت هناك حركة تجارية واسعة واضحة المعالم من حيث تنظيم المؤتمرات على مدار السنة، وبروز مدينة صوفيا أنتيبوليس كقطب تكنولوجي وعلمي وأوروبي بامتياز، يستقطب أبرز الشركات العالمية. يتحدث رئيس غرفة التجارة والصناعة في نيس، دومينيك استيف، الخبير في الشؤون الإدارية، عن العوامل التي تجعل من منطقة الكوت دازور وجهة للسياح والمستثمرين. ويميز ثلاثة عوامل رئيسية هي أولاً وجود المطار بالدرجة الأولى، فمطار نيس يشكل الباب الجوي ليس فقط لمدينة نيس وإنما لكامل مدن الريفييرا الفرنسية من موناكو حتى سان تروبيز، وصولاً الى منطقة الفار غرباً وجزء من الريفييرا الإيطالية شرقاً. العامل الثاني الذي يشجع على ارتياد المنطقة، هو نوعية الحياة الجيدة. يقول استيف ل"الحياة":"المعيشة في المنطقة غالية نسبياً، لذلك ينتظر الناس توافر خدمة نوعية. فإذا شعروا بأنهم يدفعون الكثير مقابل ما يحظون به، فإن انطباعهم عن المنطقة سيكون سيئاً. وإن كان من السهل خسارة زبون، فمن الصعب جداً إعادة اكتسابه". هذه المسألة على علاقة مباشرة مع عامل التنمية المستدامة، الأمر الذي يحظى باهتمام غرفة التجارة والصناعة التي تدير المرافق الرئيسية في المنطقة من مطارات ومرافئ. والتنمية المستدامة هي التي تؤهل المنطقة لأن تكون ذات جاذبية ولأن تحمل كل معطيات المنافسة. فغرفة تجارة وصناعة نيس تهتم بأن يكون المطار جميلا يوفر كل الخدمات اللازمة، وبأن تستوعب المرافئ كل اليخوت الزائرة، وأن توفر لها مكاناً للمبيت. أما العامل الثالث الذي يجعل من منطقة الكوت دازور مقصداً للمستثمرين، فهو توافر اليد العاملة المتخصصة والقادرة على تأمين أكبر قدر ممكن من الإنتاج، وإعداد وتأهيل مثل هذه اليد العاملة هو في صلب اهتمام غرفة التجارة والصناعة التي أسست بعض المعاهد ذات السمعة الرائدة عالمياً. وقد جاء ذلك نتيجة دراسة حاجة السوق المحلية إلى مختصين في عدد من المجالات لا سيما المجال الجوي ومجال السيارات. حاجة السوق تدرسها غرفة التجارة والصناعة بالتعاون مع اللجان أو النقابات المتخصصة بكل فرع من فروع العمل. فمثلا أطلقت الغرفة مشروع"القطب البحري". وكانت نتيجة الاجتماعات التي عقدت بالتعاون مع الجهات الإدارية المعنية، إيضاح بعض الملابسات القانونية، وإطلاق خدمة الحجوزات عبر الإنترنت لتأمين مبيت لليخوت والمراكب البحرية الزائرة، وتحديد نقاط الضعف، خصوصاً مع بروز مناطق أخرى منافسة في المتوسط، وتنظيم مساحات المرافئ بحيث تزداد قدرتها على استيعاب المراكب واليخوت والسفن، إذ لا جدوى من إنشاء مرافئ جديدة، خصوصاً عندما يوجد 30 مرفأ على امتداد 30 كلم من الشواطئ. يقول استيف:"إنه لمن المهم أن يكون محدثنا جمعية أو نقابة، لأنه سيقدم لنا صورة كاملة عن عوائق المهنة ومشاكلها، ورغبات الشركات التي تمارسها، ويقدم لنا تصور الجمعية عن مستقبل المهنة. فنحن ندرس ما الذي نستطيع أن نفعله عبر توافر المعلومات لدينا". اهتمام الغرفة بإعداد اليد العاملة يعود بالفائدة ليس فقط على الشركات التي تجد الكوادر اللازمة لتسيير أمورها، وإنما أيضاً على الشباب الذين تتوافر لهم فرص عمل عند نيلهم شهاداتهم. والأمر متعلق بشكل مباشر أو غير مباشر باستقطاب المستثمرين إلى المنطقة عبر توفير أرضية خصبة على الصعيدين البشري والمادي. فالتنمية المستدامة تؤمن مناخا يشجع على الاستثمار، ووجود اليد العاملة المتخصصة يزيد رغبة الشركات في المجيء للتمركز في هذه المنطقة. ولدى سؤالنا عما إذا كانت هناك منافسة بين مدن الريفييرا الفرنسية في ما يخص المرافئ، جاء جواب رئيس غرفة التجارة والصناعة في نيس نافياً ومفسراً:"أعتقد أن مرافئ منطقة الألب - ماريتيم، بالإضافة إلى مرفأ إمارة موناكو، متكاملة في ما بينها، غير متنافسة. فمرفأ الإمارة يستقبل المراكب الكبيرة التي يتعدى طولها الأربعين متراً. إذن في هذا المجال لا توجد منافسة. من المعروف أن زبائن الإمارة هي اليخوت الكبيرة ومراكب نقل السياح، ونظرا الى أن الطلب هو دائما أكبر من العرض، فلا توجد منافسة وإنما تعاون". والسياح الذين يحط بهم المركب السياحي في موناكو يأتون لزيارة نيس، والذين ينزلون في فيل فرانش يذهبون كذلك إلى موناكو. وعلى المستوى السياحي الدولي لا فرق بين موناكو ونيس وكان. عدد السياح الذين وصلوا إلى الكوت دازور عبر مرافئ نيس وفيل فرانش وكان بلغ 649000 سائح، 89 في المئة منهم أجانب. وعدد اليخوت التي طلبت المبيت في المرافئ التي تديرها غرفة التجارة والصناعة في نيس بلغ 414675. وحول أسباب غياب صناعة المراكب والسفن مع أن المنطقة بحرية بامتياز، يعيد استيف الأمر إلى غياب تقليد هذه الصناعة وعدم توافر المساحة اللازمة بسبب ارتفاع أسعار الاراضي في منطقة الكوت دازور وتفضيل البناء للسكن. ولكنه يتحدث عن وجود خبرة نوعية في صيانة المراكب على كامل مدن الريفييرا الفرنسية. ونعود بالحديث الى مرفأ نيس فيخبرنا استيف أنه خلال السبعينات بدأ المجلس المحلي للمنطقة تنفيذ مشروع بناء مرفأ تجاري عند الناحية الجنوبية للمطار. ولكن حدثت كارثة وتهدم الردم ومات بعض الأشخاص، ودفن معهم المشروع في المياه. أما حالياً"فإن المجلس المحلي للمنطقة أطلق دراسة جديدة لمشروع بناء مرفأ تجاري خارج مدينة نيس. الدراسة قيد التحقيق، فلا نستبق الأمور". وعن التعاون مع دول المتوسط يقول إن"الأمور تسير في هذا الاتجاه. على ما أعلم، إن عدداً من شركاتنا بدأ بالاستيطان في المغرب وتونس والجزائر، ومجالات التعاون متنوعة بين التعليم وإعداد الكوادر والتبادل الاقتصادي والاستثمارات، وهذا لا يقتصر فقط على غرفة التجارة والصناعة في نيس وإنما يتعداها ليشمل غرفتي تجارة وصناعة الفار ومرسيليا". ويركز استيف على أن اقتصاد المنطقة قائم على محورين أساسيين. الصناعة السياحية من جانب بكل فروعها سياحة الاستجمام، سياحة الأعمال، سياحة المؤتمرات، سياحة المناسبات، السياحة الشتوية. والتكنولوجيا والعلوم الحية من جانب آخر. وحسب إحصاءات الغرفة للعام 2005، فإن نسبة الدخل التي وفرتها السياحة للمنطقة قدرت ب5 بلايين يورو، ونسبة الدخل التي وفرها الإستثمار في مجال التكنولوجيا بلغ 4.1 بليون يورو. ونسبة الدخل التي وفرها الاستثمار في مجال العلوم الحية بلغ 2.1 بليون يورو. وتأتي هذه الأرقام لتعطي لمحة عن أداء قطاعات الخدمات والتجارة والصناعة ومساهمتها في إنعاش الحياة القتصادية لمنطقة الألب - ماريتيم.