في الوقت الذي تتعزز فيه الخطوات في العديد من دول العالم، خصوصاً في دول الاتحاد الأوروبي لجهة بناء مجتمع الحريات والمؤسسات والمنظمات الأهلية، يلحظ المتابع السياسي لشؤون المنطقة العربية انتشار مفهوم الحزب القائد والقائد الخالد في غالبية الدول العربية، هذا فضلاً عن فرض مصطلحات تخدم المفهوم المذكور. وعلى الرغم من المتغيرات الدولية التي عصفت بجدار برلين والاتحاد السوفياتي السابق في بداية التسعينات من القرن العشرين، اشتدت وطأة القبضة الفولاذية للأحزاب العربية المتربعة على كرسي الحكم في غالبية الدول العربية منذ خمسة عقود خلت، وبات المواطن العربي أسير لمصطلحات عديدة فرضها النظام السياسي العربي بل النظم السياسية التي تراوحت حدودها بين نظام عشائري، وآخر طائفي وصولاً الى نظام الحزب الواحد وقائده الخالد، وباتت تلك النظم السياسية هي الناظم الوحيد لحركة المجتمعات العربية ونشاطاتها المختلفة، في الوقت التي تتطلع فيه تلك المجتمعات الى بناء المؤسسات التي تعبّر عن ديناميكية المجتمع وقدراته وقواه الحقيقية وكفاءاته المتشعبة. ونقصد هنا هيئات المجتمع المدني بمعناه الحقيقي . صحيح أن ثمة نقابات ومنظمات مجتمع مدني برزت في الآونة الأخيرة في العديد من الدول العربية، إلا أنها بقيت محكومة بقوانين لا تتعدى الحزبالواحد وقائده اامفدى ومن خلفه النظام الشمولي وأنظمة الطوارئ، التي تمنع ظهور قيادات ورموز وطنية لها امتدادها الجماهيري الذي تعبّر عنه، فالحزب الواحد والقائد الخالد هو الذي يجب أن يسود في خطاب تلك النقابات والمنظمات وأدبياتها، وفي الوقت نفسه وفي ظل غياب الديموقراطيات في غالبية الدول العربية، تتوسع ظاهرة القطط السمان التي تمجد بالحزب القائد ، ويتم تبني ونشر مصطلحاته المختلفة، وقد أدى ذلك الى توسع وانتشار ظاهرة الفساد والإفساد لتصل الى أهم سلطة في الدولة، ألا وهي سلطة القضاء، ولتصبح الرشوة سيدة الموقف والموقف الفصل، وليصبح الحق باطلاً والباطل حق في غالب الأحيان، لكن الحكم والجلاد يبقى في نهاية المطاف سلطة العسكر، العسكر وحدهم، ولتنتشر بعد ذلك ظاهرة الفساد والإفساد والتسلّط في كافة مناحي الحياة في غالبية الدول العربية مع استمرار تبوأ تلك النظم ريادة الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية . لقد انعكس مفهوم الحزب القائد والقائد الخالد على الحياة الاقتصادية، وتم التعبير عنه من خلال سوء توزيع الدخل المحلي في الاطار الجغرافي لكل دولة عربية، حيث تتحكم أقلية من السكان التي تعيش على فتات النظام السياسي القائم بالقسم الأكبر من الدخل القومي لهذه الدولة أو تلك ، في حين بقيت أكثرية المجتمعات العربية عرضة لتفاقم ظاهرة الفقر والبطالة، في مقابل ذلك يتوزع الدخل المحلي بشكل أكثر عدالة نسبياً في الدول المتطورة، وبالأرقام ثمة عشرون في المئة من سكان الوطن العربي يستحوذون على تسعين في المئة من الدخل المحلي، الأمر الذي يجعل ثمانين في المئة من السكان عرضة للفقر والفقر المدقع. وتبعاً للهوة الكبيرة في الاستحواذ على الثروة في الدول العربية، تضعف الخيارات عند غالبية الشرائح الاجتماعية من صحة وتعليم ورفاه اجتماعي. إذاً المسؤول عن تدني مؤشرات التنمية البشرية في غالبية الدول العربية هو النظام السياسي القائم وسياساته الاقتصادية والاجتماعية ومالها من انعكاسات خطيرة ومتشعبة على المجتمع بشكل عام، وتزداد المؤشرات سوءاً عند الإشارة الى ضعف المشاركة الشعبية في كافة مناحي الحياة في غالبية الدول العربية، حيث يصاغ القرار بعيداً عن المصلحة العامة في غالب الاحيان، ويزداد الوضع سوءاً في الدول العربية عند الاشارة الى ضعف مشاركة المرأة العربية في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، هذا في وقت أصبحت فيه مشاركة المرأة من المعايير الرئيسية لمستوى التطوّر والتنمية في دول العالم. وفي هذا السياق تشير تقارير برنامج الاممالمتحدة الانمائي الى ان الدول العربية تعتبر من أقل الدول في العالم من حيث عدد النساء ونسبتهن الى مجموع اعضاء مجالس النواب او مجالس الشعوب. وتبقى الإشارة الى أن الاستمرار في حالة النظم السياسية العربية الراهنة سيؤدي الى تراجع في المؤشرات كافة الدالة على تطوّر المجتمعات العربية، ويمنع العرب من اللحاق في ركب الحضارة والمساهمة في بنائها. ومن هنا فإن الضرورة تحتّم المطالبة في بناء مؤسسات ومنظمات اجتماعية حقيقية تتجاوز عقدة النظام السياسي القائم، وتؤسس في الوقت نفسه لعودة رأس المال المالي العربي المهاجر من جهة وكذلك عودة الأدمغة العربية المهاجرة، حيث تشير التقارير الاقتصادية العربية الى نحو 850 مليار دولار هي رؤوس اموال عربية مهاجرة الى اسواق الولاياتالمتحدة واوروبا، ناهيك عن هجرة ملايين من الادمغة العربية، عدد كبير منهم حصل على جوائز معروفة مثل جائزة نوبل للكيمياء وغيرها، عندئذ يمكن القول أن ثمة قدرات وطنية حقيقية كامنة ستدفع باتجاه تعزيز وتنمية قدرات الوطن والمواطن العربي، وتجعل من الوطن العربي رقماً ليس هامشياً في إطار العلاقات الدولية. * كاتب فلسطيني مقيم بدمشق.