بين أول كتاب نثر صدر للشاعر اللبناني جوزف صايغ عام 1959 بعنوان: "سعيد عقل وأشياء الجمال" وكتابيه :"مجرّة الحروف"و"معيار وجنون"اللذين صدرا حديثاً عن"التعاونية اللبنانية"للتأليف والنشر"،"مسافة زمنية"عمرها ست وأربعون سنة غنية بمخزون من الجماليات المعتقة في صناديق الرواد من أمثاله الذين جابوا بحار الحضارات ومحيطاتها وسبحوا في فضاءات المجرات وسدمها. وبين أول ديوان شعر صدر لجوزف صايغ الشاعر عام 1962 بعنوان:"قصور في الطفولة"، ومجموعة مؤلفاته الشعرية التي صدرت عن"دار النهار"عام 2004 وحملت في مطاويها وثناياها خمسة عشر ديواناً بينها ديوانان من الانشاد الشعري، سكن جوزف صايغ في منازل سعيد عقل وما برحها ولسان حاله يستطيب ترداد قول ابي الطيب المتنبي:"لك يا منازل في القلوب منازل"، لا بل التف بعباءة سعيد وكسوته العربية وغرق في بحره الى حد الاختناق، كما يتجنى عليه الكثيرون في معرض التصنيف! جوزف صايغ الذي يتمتع بموهبتين: النثر والشعر، وربما فاقت جماليات نثره، جماليات شعره لا انفصام في شخصيته الجامعة، وهي شخصية الكائن الشفاف العابد المتعبد للجمال بعد الله، والمفكر المثقف المثقل بالنضج والخبرة، ولكنه يعاني ويتألم من وجع عَصِيٍّ وآلام مبرحة في المخيلة العربية المستكينة لقدرها، تضنيه وتقوده تحت تأثير المعاناة، أحياناً كثيرة، باتت دائمة الى الشك بقدرة العربي على تجاوز محنته كلما اشتدت عليه ظروف المواجهة التي يفرضها التطور، والتحلل من أثقال التخلف. يرقى"معيار وجنون"من حيث تأليفه الى العام 1956 فهو من أعمال الشباب وأوائل ما كتب جوزف صايغ في النثر. وقد ولد هذا الكتاب أوراقاً متناثرة، كان يقرأها من"اذاعة باريس"العربية بين 1955 و1956 وتدور على أجواء باريس الأدبية والفنية. وهي تحديداً ليست سياحة أدبية في أجواء عاصمة من أجمل عواصم الدنيا ان لم تكن أجملها. انها انطباعات جمالية تولدت في عاصمة"كنزت أوروبا ثقافة"، تفاعلت في نفس فتى يغادر للمرة الأولى مدينته الجبلية الصغيرة زحلة الى مساحة عالمية هي خلاصة تاريخ عريق وعاصمة اثيلة من عواصم الآداب والفنون. وأهمية هذه النصوص، تكمن في انها تواجه القارئ بحلتها القديمة، وقدم مشاعرها الوافدة من منتصف القرن الماضي الى اوائل هذا القرن الحادي والعشرين وتوضح الأثر التأسيسي الذي كان لباريس في سيرته الفكرية وفي مؤلفاته. فباريس لا تشيخ، على حد قوله، وهي تعطي المرء بمقدار استعداده ثقافياً وحضارياً للأخذ منها، وهذا لم يغب عن جوزف الذي حمل معه الى منفاه"ان ما من مكان يتيح لي استنشاق الروح مثل باريس، وانها مناخي المؤاتي جمالياً وحضارياً". من"اللقاء الأول"وهو أول ورقة من مصنفات الكتاب حتى"بربرية التقدم"وهي آخر الورقات، خمسة وسبعون نصاً يسوح جوزف صايغ عبرها ومن خلالها في باريس، ينبش"المدنية الجديدة"ولا تفوته"المدنية المرأة"ويرنو الى السماء من"ساحة مونمارتر"ويتدرج بنهم الى أشكال"الكتب المترصفة"ويقف مشدوهاً ومأخوذاً بروعة"الكاتدرائية المسحورة"و"حدائق فرساي"ويقيم سعيداً"في مناخات فاغنر"ويعيش"الهنيهة السكرى"من"فاليري"الى"كوكتو"و"ملارميه"و"كلوديل"و"كافكا"و"فوست"وينتهي على"رسل الخاطر"الى"جمالية اغريقية"متخطياً"دون جوان"حتى"أجمل النساء". هذه العناوين اقتطفتها من"معيار وجنون"لأتنقل مع جوزف صايغ، بواقعية الراوي ? العاشق لا الراوي ? الموظف الممكنن، في مدن نهرية مسحورة لا تدخل في صلب المتخيل، بقدر ما هي بلور شفيف لا تدركه العين الثاقبة الا باللمس والتذوق لكثرة ما رقّ وذوّب حلاوة. هذا الكنز خبأه جوزف صايغ نصف قرن ليصبح سراً من أسرار حياته التي أنكرها ثلاثاً قبل صياح الديك، ثم رفع عنها صك ملكيتها ليفاخر بها على انها مرآة شبابه يوم كان العمر تحدياً لا قافية ومنثور الكلام قدراً لا تسلطاً، ويوم تضاربته رياح الحيرة بين الوعد الموعود؟ والوعد الصادق؟ والوعد السراب؟ في نصوص هذا الكتاب عاش جوزف صايغ بين لوعتين: لوعة الحضارة ولوعة الجمال. فأي اللوعتين أفرحته فابتسم؟ وأي اللوعتين أبكته فعبس؟ لا أحد يستطيع مهما أوتي من سمو الادراك أن يعي نواحه وأهازيجه فهي خليط مشرب بعقلانية عاقل همه ان يثبت بما أوتي من قرائن وأدلة ان شكه ويقينه صنوان لا يفترقان الا بالحدس وان صوابه مثل خطأه لا يقاس الا بمعايير واحدة هي معايير الجنون؟ والمفتونون مثل جوزف صايغ لا يضيعون في حمى التنانير بقدر ما يذوبون في لهيب العشق بكل ما ملك من ألوهة بلغت أسمى ذرى الانتشاء الصوفي. اذا كان النثر هو الجامع بين"معيار وجنون"و"مجرة الحروف"الا ان هناك فارقاً واحداً، وهو ان لغة"مجرة الحروف"تسمو بجديتها الى سماوات التنزيل. هنا ينتصب المفكر في مواجهة السائح، ويأخذ الفكر صدارته في انحياز لا يقبل دحضاً ولا مساومة، العقل هو الديان الذي تنصت لمنطقه وأحكامه جميع الناس شاؤوا أم أبوا وهو العادل الذي لا يحابي، ويؤرق اختلال توازنه كل ما يصبو اليه جوزف صايغ ويتخذ منه مرتكزاً لشرح أبعاده الفكرية وتخيلاته وتصوراته ومشاعره بأمانة وأمان، وهو الاستاذ والمحاضر والجامعي الذي يطرح مقولاته وثمرة تجاربه واختباراته ونضجه من أجل كون أكثر شمولية وأعمق ايماناً وأكثر تحضراً وتقدماً وأكثر هناء ومسالمة باعتبار ان لا صراع بين الحضارات، وان الصراع الذي يتخوفون منه ويتحدثون عنه انما هو صراع كل حضارة بذاتها لا تريد التقدم وترفض التطور وتتمسك بموروثها الرث والبالي؟ من"المجرة الأبجدية الى المجرة الكوكبية"الى"هواجس ما ورائية"الى"قراءات شعرية في العناصر"الى"كتاب الحقيقة"يبرز جوزف صايغ الباحث عن الحقيقة منحازاً الى الشعر بامتياز أولاً"، والماورائيات في المرتبة الثانية. ولا عجب فالكون كله في نظر جوزف صايغ شعر منذ ان أوجز بكلمة"الكلمة"التي كانت. وبهذا"يحاكي الشعر الكيمياء في نظره"، على رغم فارق الغنى الذي يميز بين الابجديتين، اذ ان مئة وثلاثة عناصر تؤلف الأبجدية الكيماوية التي تتكون منها العناصر فتكون الكون بنجومه ومجراته وسدمه وفق ترتيب ماندلييف عام 1869، بينما الابجدية اللغوية تتألف من 26 حرفاً تكون اللغة بكتبها ومعاجمها ومجراتها الكلامية. واذا كان شعر فاليري يمثل متعة العقل وشعر بودلير يمثل نشوة الحواس، فشعر الأول"بلوري بل ماس نحيت"، وشعر الثاني"تشظّيات ينتظم هذيانها سلكٌ أوله في القلب وآخره في الجحيم". ويضيف جوزف صايغ ان شعر فاليري"ترف البال"وشعر بودلير"اكتواء الحشا"."فاليري صرامة في عقلنة الجمال. بودلير سم كوثري يتسرب الى الأحشاء"وينساق جوزف صايغ الى ان"الفلسفة أقرب الى الشعر من النثر وأقرب من الفلسفة علم الفلك"."شعرياً الفيزياء الكوكبية كما هي اليوم أشعر الشعراء"، فليسمع من له أذنان سامعتان ويصمت البكماء. ويشفع جوزف صايغ كلامه هذا بقوله: ان نيتشه الفيلسوف الالماني"لو عزف عن لهجته النبوية في زرادشت"لحاكى أروع السحبات الشعرية في"لير"و"هملت"وفي"عطيل". ويعرّف جوزف صايغ الشاعر الكبير بقوله: اذا كانت قراءته تحوّلنا مدمني شعر او شعراء أو تُيئسنا بأننا لسنا شعراء"، ويضيف:"الشاعر الكبير ما يتميز باثنتين: قدرة على جعل اللغة تهذي هذياناً يرضي العقل فيما هي تقوضه، وموسيقى تسكر"الحس فيما هي توقظه". الشاعر الكبير هو من نظم نفسه شعراً"، وهنا لا يحدد جوزف صيغة بعينها للنظم وان كان يرى"في البالرين من الشعرية ما في أنجح القصائد، كذلك في عارضة الأزياء"وتختلط الأشياء عند جوزف حين يقول: الواقع يولد وهماً، فالوهم يبتكر للواقع حقيقة"وفي النثر نرى بالعقل. في الشعر نرى في الخيال وهذا فارق حاسم". وهو إذ يؤكد"ان الوضوح الغامض يبقى هالة التعبير الشعري"يتناول الفن الروائي على انه"تعبير عن وقائع بواسطة البيان الجميل"وجمال هذا البيان يعود بالضبط، في رأيه، الى كونه صيغة لغوية تولد وهماً، سرداً لوقائع غير واقعية. هذا الأمر ليس صحيحاً كله، ويضيف: حتى في ان هذه الوقائع قد حصلت فعلاً فإنها"تبقى أكاذيب تشبه الحقائق شبهاً بيانياً". هذا الوصف فيه تجن على الملموس والمدرك والبينات والوقائع والعقل بالذات الذي يعتمده ويرى فيه ومن خلاله كاتب الرواية، وأشدد الرواية النثرية لا الرواية الشعرية. وإذ يرى جوزف صايغ ان"المتعة الأدبية"هي في"الأوهام الأكاذيب"وينفي عن القصة صفة"الحياة"إذ يقول:"القصة ليست الحياة إنها حلم بالحياة"،"حتى أشد القصص الواقعية"ويذكر"سلمبو"كشاهد، ولا يزيد، بينما هي لا تصلح لأن تكون مثلاً يمكن تعميمه، يثبت انه هنا لم يخرج عن كونه الشاعر المنحاز الى التجريد أينما كان وكيفما كان مع العلم ان التجريد غير ممكن في سياق العقل المادي. وليس صحيحاً ان أدبية النص الأدبي هي التي تقنع القارئ بأن الحلم الذي يقرأه هو حقيقة، متجاهلاً الفارق بين الحلم والحقيقة وان الفن الروائي هو"السراب البياني"او الأدبي."ابتكار وهم ما انطلاقاً"من الواقع. تصوير الوجه الآخر للحقيقة، هذا لا يلغي ذاك، فالواقع واقع والوهم وهم، وليس من الضروري والحتمي ان يكون الوهم هو الوجه الآخر للحقيقة. الوهم يوصل الى الوسوسة وربما الى الجنون، والحقيقة ترفع الظلم وتوصل الى العدالة والمعياران مختلفان اختلافاً بيناً؟ ويعود جوزف صايغ الى ذاته فيتساءل انطلاقاً من نظرته الخاصة:"هل الحياة غير واقع واهم؟ هل هي شيء آخر غير التصور الذي لدينا عن الحياة؟ الاشياء التي نراها، الاصوات التي نسمعها، المشاعر التي نحسها؟". فيسجل تضعضعه وكبوته بين الوهم والواقع اذ يعود الى الاحاسيس والمشاعر، الى المرئي والمسموع والمحسوس الى ما ليس تجريداً والى كل ما يصدم ويهز ويقلب الدنيا رأساً على عقب. وأنهي بالقول مع جوزف صايغ الشاعر المتدرج بأفكاره وتشظّياته كأنها قنابل عنقودية:"هل يمكن ان يكون العقد حراً حيث الكلمة غير حرة؟". وأجيب:"طبعاً لا! وألف لا!". "واذا كانت الكلمة غير حرة هل يستطيع الفعل ان يكون حراً"؟ وأجيب: طبعاً لا! وألف لا!". وعندما يصل الى التساؤل:"من يحرر الآخر: الكلمة ام العقل؟". أقع في الحيرة وألزم الصمت بعد ان بلغت من العمر عتياً!".