أصدر الشاعر اللبناني جوزف صايغ أعماله الشعرية الكاملة في أربعة مجلدات عن دار النهار للنشر، في بيروت. والشاعر من مواليد العام 1930 هاجر لبنان الى باريس حيث ما زال يقيم، بعدما حصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع الأدبي بإشراف المستشرق جاك بيرك. وعمل في منظمة"اليونيسكو"وفي الصحافة اللبنانية والعربية ودرّس في جامعات عدة. هنا قراءة في تجربته الشعرية. في كتاب"آنْ - كولين"للشاعر اللبناني جوزف صايغ، سحر العاشق العشق، فسحر المغني غناؤه، فانفلت في إنشاد بركاني وحنون، جميل ومدمّر، طويل كأنه النيل أو الأمازون، جارف مُورق سرّي سحري يُغني وهو يكسّر الأغصان يحضن الصخور ولا يطحنها ويجمع تنهدات ألف عاشق معاً يتأوّهون، وانفلات جنون مجاذيب الحضرة، وأظن أنه لا يُعطى شاعر أو وليٌّ مثل هذه النعمة إلا بلفتة إلهية خاصة. والآن، دعك من كتاب"آن - كولين"الذي هو"الكتاب"في العشق، فلو أعطي الرجل هذه النعمة بدءاً، فلربما كان استغنى عما عداها... فهي على الأرجح، غمرته بعد أن تجاوز الأربعين بقليل. إنه يؤرخ لوضع الكتاب في لبنان بين أيار مايو 1971 وأيلول سبتمبر 1972، هو المولود في زحلة في العام 1930 قبل"آنْ - كولين"كتب الشاعر أربعة كتب هي على التوالي، ابتداء من العام 1964: قصور الطفولة، قيلولة الصل، الشاعر، ثلاثيات. وبعد"آن - كولين"كتب تسعة هي التالية، لغاية العام 2004، بعضها مكتوب وكتابته معادة أكثر من مرة: العاشق، القصيدة باريس، الديوان الغربي، المصابيح ذات مساء، الأرض الثانية، زحلة القصيدة، الرقم واللازورد، رصائع، أرز... فيكون مجموع ما صدر لهذا اللبناني، من قصائد مكتوبة بين زحلة وباريس، أربعة عشر ديواناً، حبّة العقد فيها، بل درّتها"آن - كولين". المؤلفات الشعرية، هذه، بكاملها، صدرت عن دار النهار للنشر، بعد أن كانت صدرت في سنوات سابقة، تفاريق... صدرت في أربع مجموعات، في نهاية العام 2004، وكان ل"آن - كولين"نصيب كتاب، على حدة. ويصعب أن يتم الجمع بين هذا الكتاب وسائر دواوين جوزف صايغ في دراسة واحدة، لسبب إبداعي يدعو للتساؤل عن أسبابه، وهو أن جوزف صايغ شاعراً في آن ? كولين هو غيره في سائر ما كتب... حتى لكأننا أمام اثنين. فكيف؟... فكتاب"آن - كولين"مرسل، إنشادي نثري بلا أوزان، غير بلاغي بالمعنى الكلاسيكي للبلاغة العربية، ويستفيد من نشيد الإنشاد، والرسولة، وهو ذو نَفَس طويل وتوليدي، وحرّ... وأهم ما فيه انه ينأى حتى المفارقة عن مؤسسي الترصيع الشعري اللبنانيين، ومعماريي"شَقْع الجمال"، من لدن أمين نخلة، لصلاح لبكي فسعيد عقل الصانع الأمهر في هذه اللعبة... في حين أنه، أي جوزف صايغ، في سائر أعماله، هو سليل من ذكرنا، إنما بمهارات أقل، وإن جاءت قصائده بتنويع أكثر، نظراً لكثرة ما كتب. وجوزف صايغ، بلا"آن - كولين"، هو موضوع هذه الدراسة المختصرة عن هويته الشعرية، من خلال نصوصه، وجوهر هذه الهوية، وآبائها، ومن أي نسل لغوي ومعماري جمالي انحدرت. وهل أضافت جديداً لهذا النسل تتفرد أو تنفرد فيه عنه، وما هو في حال وجوده...؟ رحلة جوزف صايغ طويلة في الكتابة الشعرية وغزيرة. ونسأل أنفسنا: كيف، هو المولود في ثلاثينات القرن الفائت، والبادئ بإصداراته الشعرية في خمسيناته وستيناته، والمتصل بباريس باكراً بين 1954 و1964/ لتحضير دكتوراه في علم الاجتماع الأدبي... كيف بقي بريئاً من التفاعل مع تيارات الحداثة الشعرية العربية وأسماء المؤسسين على تباين اتجاهاتهم، من شعراء مجلة شعر اللبنانية من أمثال يوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وبدر شاكر السياب، الى شعراء مجلة الآداب اللبنانية كخليل حاوي وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وكيف ظهر وكأنه، على رغم وجوده في باريس المختبر الإبداعي والثورات الفنية، مُحصَّنٌ ضد ما كانت تفور فيه تلك المدينة، من الانتهاك التعبيري الفذّ والمفارق للشعراء والرسامين السرياليين والمستقبليين، ناهيك بتريستان تزار وغرائبه الدادائية... فضلاً عن مختبرات الإبداع الحداثي الكاسح في المسرح والسينما... ألم ينتبه مثلاً لأنطونان آرتو؟... وبوهيمية السلوك واللغة، أين هو منهما في قصائده الكثيرة، تلك المكتوبة إما على ضفاف السين، أو في المقاهي... هناك، حيث العالم السفلي المثير الجميل والمحرّك... فكتب قصائد أقصى ما توصلت إليه من انموذج منعقد بين رمزية سعيد عقل وبرناسية بول فاليري؟ كتب جوزف صايغ كثيراً عن باريس وفي باريس. يسجّل يومياته فيها نظماً، يكتب في التفاصيل والعظمة... بالتسميات وبالكليات. يكتب ديوانين بكاملهما باريسيين: القصيدة باريس 1992 والديوان الغربي 1993، وهي تعود لفترات إقامته هناك، يقول في الديوان الغربي:"منذ طفولتي كانت باريس عندي حلماً من الأحلام"وقصائده الباريسية ما فتئ يكتبها ويعيد كتابتها من خمسينات القرن الفائت لتسعيناته. إنها سوناتات لباريس، يصفها بأنها الأرض السعيدة وعشقه ويكتب عن السماء الرمادية والرماد فوق السطوح، التسكّع، السَيَبان، الحانات الحرام، الحجارة المعمار، المصابيح، السين، نوتردام، مونمارتر الرسامين، ساحة سان جيرمان في المساء، الوُجوديين، النساء، عازفي القيثار، نافخي النار، المارة، الأفيونيين، الأوبرا، الحانات، مقهى الدوم، الضباب... الخ، إنما بصيغة عربية مشرقة، لم تلوّثها الحياة الباريسية لسوء الحظ بل ظهر جوزف صايغ من خلال مقطعاته عن باريس، وكأنه محصّن ضدها... إذ لا تسكّع في لغته بل تلك البلاغة المؤصّلة الضاربة بين الموشح الأندلسي وبين المقطعية الرمزية. أظن أن الشاعر في باريس عابر. فهي لم تصنع له، على طول المعاشرة، لغة جديدة ولا حالة أخرى. كأنه وصّاف بالعربية للمشاهد... ينحت ما يلي:"من عصفة بالفالس/ فوق رخام مَلْسْ"... ويكتب موشحات لباريس شبيهة بموشحات الطرطوشي الأندلسي:"على الجسورْ/ عبر مصابيح الدجى والضبابْ/ يسافر الطرفُ كما في كتابْ/ بلا سطور"، وهي على غرار الموشح المعروف:"هل تستعادْ/ أيامنا في الخليج/ وليالينا/ أو يُستفادْ/ من النسيم الأريج/ مِسْكُ دارينا". يكتب قصيدة بعنوان"نادلة":"شقراء يا حاني ويا محرّمي/عِمي طِلىً لماجنٍ أتى ظمي"زمان الكتابة 4/1957 و1980. يلاحظ بلاغة اللغة، وصفاء العربية وكلاسيكية النظم"عِمي طِلىً... أتى ظَمي... يا محرّمي"الخ. وذلك ما يثير العجب. جوزف صايغ ابتعد عن مذاهب السرياليين ومواقفهم. لم يؤثر فيه شطح السريالية وهذياناتها المحمومة ولا المخيلة المنفتحة على المغامرات الكبيرة. هو شاعر عربي كلاسيكي يمرّ في باريس. لكن، ربما عقد نَسباً مع أمثال لويس بروكييه، وجان تورتيل لجهة تقلّص العبارة ورينه فاليه وهنري توما وبيار امانويل وباتريس ده لاتور ? دوبان، والأكثر، بول فاليري... فاليري الذي عليه اتكأ سعيد عقل. لم يظهر لباريس من داخل احترارها العظيم أثر في شعر صايغ. والأرجح أن ذلك كان بسبب أبوّة ما بقيت رابضة عليه، ولا تزال حتى اليوم، هي أبوّة الشعراء اللبنانيين من أمين نخلة لصلاح لبكي فسعيد عقل... بما اشتهرت به من ترصيع لغوي وأناقة تعبيرية ومعمار هندسي، وريبة استعلائية على الحداثة بمفهومها الغربي، والعربي معاً. جوزف صايغ وليد زحلة. حسناً. ولكن الأخطر في معادلته الشعرية، انه وقع أسيراً لشبكة لغوية وتأليفية، تتناول في آن واحد، المفردات وأسلوب إدارتها في الجملة الشعرية، الجملة وموقعها في تركيب القصيدة، معمار القصيدة والحيل الابداعية لصنعها... وهي مدرسة ما قبل حداثية، أسست للحداثة الشعرية في لبنان، وبقيت واقفة دونها أو عزلت نفسها عنها باختيارها الجمالي. أعني أن جوزف صايغ، في جوهر شعره، بقي هنا وقليلاً ما خرج من هنا، أو خرج عليه. صانع ماهر هو كصاحبيه، لكن كل واحد منهما أمهر منه. إنها مشكلة. ولها جذور... فأول كتاب أصدره جوزف صايغ كان دراسة عن سعيد عقل، صدرت العام 1955 كان جوزف صايغ سنتذاك ابن 25/ شاباً بعنوان"سعيد عقل وأشياء الجمال"... ومُذ ذاك، وحتى تاريخه، أرجّح أن شاعراً دخل في حرم شاعر آخر، لأمد غير منظور. وأسأل: لماذا، من يكتب"آن ? كولين"لم يحرر روحه الشعرية القوية والخاصة، من مغناطيسية شعرية أخرى؟ إن الآباء حين يضغطون بقوة على الأبناء، تقتضي إزاحتهم. لا أقول قتلهم، بل إزاحتهم، الهروب منهم... ضراوة حب الأبناء للآباء مرعبة حين تلغي أزمنتهم الخاصة بهم. لماذا لا يكون جوزف صايغ، كما هو في"آن كولين"، حراً خاصاً حاراً طليقاً واسع الأنفاس وغير مقيد بمعمارية لغوية رمزية وفي أحسن أحوالها بارناسية؟ ففي اعتقادي الإقامة في بيت النموذج أو المثال خطير جداً حتى ولو كان المتنبي، أو آرتو... سعيد عقل أو أنسي الحاج أو الماغوط أو السيّاب. يقول في قصيدة بعنوان"سدى":"ألذّ من حبي حنيني الى الحب/ وعيشي دائماً في الحنين". ليس من الصعب الانتباه الى قصيدة سعيد عقل:" أجمل من عينيك/ حبي لعينيك/ فإن غنّيت غنّى الوجود". فأساس اللعبة المعمار اللغوي في ما هو جرس، جناس وطباق، موسيقى ما... ترجيعات... ليس الصورة ولا المعنى، ولا الانبثاق من دواخل اللاوعي. العمل الشعري هنا مضبوط، مدقق، ملعوب، محسوب، مهندس... إن الرائز اللغوي الجمالي ضعيف أحياناً لدى جوزف صايغ باستعماله كلمة"ضجاج"كصفة للجمال. في قصيدة"الى شاعرها""الجمال الضجاج"، وهو ضعيف جمالياً حين يستعمل صفة"الكميل"، للكل، في قوله من قصيدة"أنا الصحو":"أنا في المطلق كالمطلق إلا أنه الكل الكميلُ". كما أن الجناس بين"الشط"و"حطّ"جناس ثقيل. وأحياناً يطلق جملة على عواهنها، لاستكمال الوزن، كقوله"أبداً أبداً في ما لَسْتُهُ/ فكأن الهولَ من صلب النجاح". فصلب النجاح ليست موفقة أو ناجحة في العبارة... ومثلها"الهول"، فضلاً عن أن العبارة تتآكل المعنى إن لم نقل: تفتته. يغلب على شعره شكل الموشح، والقصيد المقطعي، وشعره موزون بأوزان بطيئة بمعظمها، وقصيرة، وربما هي الرجز أحياناً... وحين يسترسل يستعمل البسيط، وقليلاً ما يستعمل الطويل، فيباري فيه الغنائيين المعدودين الكبار. وهذا الانسياب الغنائي في المعنى المفارق، الذي أجاده بدوي الجبل، هو من أجمل ما كتب جوزف صايغ... بل لعل فيه ينفجر نبع عميق ومتدفق من بلاغة لا تشمّ إلا من قبل صحراء القصيدة العظيمة"تعاليت سَلْ زهر البنفسج ما يُعلي/ وسَلْ حجر الألماس عن رفعة الأصل". قصائد جوزف صايغ في الحب والشعر والحكمة... بعضها ينطوي على التأمل فيقترب فيها من التعبيرية، ويسمو بها عن الانطباعية. هو مشغول بالقصيدة، ومشغوف بها لدرجة الانقطاع والعبادة. مشغول هو بصناعة الجمال على طريقته. ليس في قصائده صراخ بل أنين ونبض. حقله أوسع من حقل سعيد عقل بكثير. لكن مقلعه اللغوي من هناك ومن فجر أمين نخلة. قصائده وأوزانه على العموم مختصرة، ولديه قدرة على اللعب بالصيغة... وتشقيق الكلمات والاشتقاق منها اشتقاقات جديدة. شعره لغوي جسدي نحتي... يكثر من الكتابة المقطعية والموشح، ما يستدرج قصائده للغناء لماذا لم يغنّ شعره؟... أجمل ما كتب كتاب"آن - كولين"وهو واقف، على رغم معايشته لأزمنة الحداثة وما بعدها، في باريس وفي لبنان، على حدودها... أحسب أنه آخر عصفور في دوحة المدرسة الرمزية اللبنانية، ذات اللغة المقصّبة من مقلع أمين نخلة، والنحت المعماري الجميل بالمقاييس الكلاسيكية، والاختزال اللغوي، واعتبار الجمال في القصيدة هندسة وعالماً خارجياً أكثر مما هي انبثاق وشطح واجتياح من الداخل، يبعثر العوالم والكائنات واللغة والأوزان في اجتياحه، ليصنع القصيدة من صفوة اللاوعي والهذيان... من لدن الجنون... أكثر مما يصنعها من لدن التفكّر والعقل، الهندسة والترتيب.