عبر البحث عن المستحيل يمكن تحقيق الممكن... تلك هي مسارات رؤية باكونيين التي استحوذت على الكيان الإيراني والكوري، على ما بينهما من اختلافات جذرية في إطار الظلال التاريخية والأطياف الثقافية والوضع الجغرافي والمستوى الاقتصادي والتوجه العقائدي. فقد ظلت تجمعهما تلك الأحادية السياسية التي لا تقبل مطلقاً بالبديل الآخر لأنه يكون دائماً هو البديل الأدنى سياسياً. فإذا كانت الأحادية هي إحدى آفات الفكر وضلالاته لأنها تعتمد على الانغلاق والتمجيد الذاتي، فإنها سياسياً واستراتيجياً إنما يحكمها عمق المصالح وحيويتها وديناميكية العلاقات وانعكاساتها. وتمثلت ملامح هذه الأحادية الإيرانية في مدى تمسكها ومنذ سنوات بالحق النووي المدعوم بشتى القوى، بل إنها تجاوزت هذا الحق إلى حق آخر هو التنازع على المشاركة في قيادة العالم وإحلال مشروع السلام الدولي خلال نقاشات موضوعية يمكن على آثارها احتواء المشاكل الأمنية، وهكذا تجاوز ايران ورطتها مع العالم الغربي معلنة أنها ليست بصدد طرح قضية الملف النووي باعتبارها قضية محسومة لا تقبل المساومة أو التفريط، اذ أنها تتوثب الى ذلك الدور العالمي المنتظر في المشاركة والتوجيه والإسهام والاندماج في صناعة القرار السياسي الدولي وضمناً القرار السياسي الإقليمي. وبذلك تكون ايران قد بلغت منتهيات التحدي في محاولة للانفلات من صفوف الدول المقادة الى صفوف الدول المقودة الساعية لنقل المركزية الغربية بإعلان نهايتها والدخول تحت مظلة نظام عالمي آخر يكون لإيران فيه مساحة من الصدارة، لكن هل تعتبر فكرة نقل المركزية الغربية كافية دون قوامة للوضعية الحضارية؟!وهل يعتمد تحول المركزية الغربية على امتلاك السلاح النووي وحده؟ وهل بدأت ايران دورات المخاض الحضاري حتى تطمح في ايجاد مركزية أخرى؟ ان المقومات الحضارية التي صنعت تلك المركزية هي عديدة وكانت آخر ملامحها هي تلك الكونية المعرفية والمعلوماتية التي أبهرت الساحة الإنسانية لأنها تمثل منظومية العلم في ضروبه المختلفة وبلوغه أهدافاً فوق المتخيلة. وليست كوريا الشمالية ببعيدة من الوضع الإيراني فقد عانت الكثير من العقوبات والقيود والمحاذير الحائلة دون اكتمال المشروع النووي، وهي الآن تحصد ويلات الغضب الغربي اثر اطلاق صواريخها في تجربة نووية متفردة اذ بلغت قوة تفجيرها ما يعادل قوة القنبلة الملقاة على ناغازاكي وهيروشيما ابان الحرب العالمية الثانية، وقد انبرت واشنطن وغيرها من الدول منددين بذلك الخطر على شعوب شمال شرقي آسيا فضلاً عن أن هذه التجربة تمثل انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية بجانب المخالفة للتعهدات التي سبق أن قطعتها كوريا على نفسها اضافة لتعارضها مع قرارات مجلس الأمن، هذا بينما تتذرع كوريا بمبدأ حق الدفاع عن النفس وتأكيد السيادة وإقرار السلام والأمن في شبه الجزيرة الكورية والمنطقة بصفة عامة بجانب تلويحها بإعادة التجربة ذلك اذا استمرت الولاياتالمتحدة في اشاعة واستخدام لغة الترويع والترهيب والتعامل بمنطق علوي لا يستدعي في المقابل الا تطبيق لغة التجاهل والاستنكار والاستفزاز أيضاً. لكن التساؤل الحاسم هو كيف تولدت لدى الغرب قناعات تؤكد بأن كوريا ستقوم بتفكيك برنامجها النووي؟ وهل تكفي دراهم معدودة مقابل تبديد الحلم التاريخي؟ ولماذا أغفل الغرب معنى التمويه السياسي والمرواغة الاستراتيجية في قضية شائكة كهذه؟ وهل كان تسييد الثقة هو نوع من السذاجة الغربية؟ وما هو الفرق الهائل بين أن تمتلك دولة كباكستان قنبلة نووية وتحرم منها كل من ايران وكوريا؟ وما هي طبيعة الوزن النسبي لهذه الدول؟ انها حالة من التماثل بين الدولتين فرضتها التهديدات الغربية المتوالية والتي يستنكر أصحابها الآن حق امتلاك النووي حتى لو اعتمد على مبدأ الدفاع عن النفس أو التكافؤ العسكري في لحظات التواجه العاصف لأن المبدأ الغربي يعتمد الأنانية كقيمة عليا تمنح الذات ضرورة تحصيل الأشياء، كل الأشياء، وتنفي عن الآخر حتى ضرورة التفكير في ذلك. • كاتب مصري.