تحيط بنتانياهو مجموعة من كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين السابقين، تنكب بدورها على كتابة نصوص لشرح احتياجات إسرائيل الأمنية في ظل السلام بمقتضى جعلها تتصدّر واجهة جدول الأعمال العام. وشارك بعض هؤلاء مطلع حزيران (يونيو) في مؤتمر سنوي نظمه مركز الأبحاث الإسرائيلي «المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة» الذي يترأسه دوري غولد ، وصدرت مداخلاته في كتاب باللغة الانكليزية تحت عنوان «احتياجات إسرائيل الأمنية الحاسمة لصنع سلام قابل للتطبيق». واستأثرت مسألة «الحدود التي يمكن الدفاع عنها» بحصة كبيرة من أعمال هذا المؤتمر. وبرز من بين أصحاب المداخلات موشيه يعلون، الذي شدّد على رفضه الرأي القائل إن السلام يستوجب انسحاباً إسرائيلياً إلى خطوط الهدنة «الخطرة» لعام 1949، وقال إن «تجريد الدولة اليهودية من العمق الإستراتيجي والحماية الطوبوغرافية في إطار هذه الحدود، يشكل دعوة مفتوحة للحرب ضد إسرائيل». واستطرد قائلاً: «عندما شرع رابين في عملية أوسلو، كان لديه تصور - بالنسبة الى مستقبل الضفة الغربية - شبيه ب «خطة ألون» التي صيغت بعد وقت قصير من انتهاء حرب 1967، ونصت على وجوب احتفاظ إسرائيل بالسيادة على بعض المناطق التي سيطرت عليها في «يهودا والسامرة» (الضفة الغربية)، ورسمت حدوداً أمنية تمتد من غور الأردن وصولاً إلى المنحدرات الشرقية لسلسلة جبال الضفة الغربية. كما شددت الخطة على الاحتفاظ بالسيادة الإسرائيلية على القدس كعاصمة موحدة لإسرائيل. وقد شكلت «خطة ألون» - بحسب يعلون - نقطة انطلاق أمنية بالنسبة الى حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ عام 1967 وحتى أواخر التسعينات من القرن الماضي، مشيراً إلى أن رابين تحدث صراحة عن ضرورة منح حكم ذاتي للفلسطينيين وفي الوقت ذاته عن ضرورة الاحتفاظ بحدود يمكن الدفاع منها عن إسرائيل، واستشهد في هذا السياق بالخطاب الذي ألقاه رابين أمام الكنيست في تشرين الأول (أكتوبر) 1995، قبل شهر من اغتياله. واعتبر يعلون أن نظرية «الحدود التي يمكن الدفاع عنها» بدأت تتآكل عام 2000، عندما توجه رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه إيهود باراك إلى قمة كامب ديفيد لإجراء مفاوضات مع الرئيس الفلسطيني (الراحل) ياسر عرفات، برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، حيث «قرر باراك، الذي شعر بأن الجمهور الإسرائيلي مستعد لتقديم تنازلات جوهرية في مقابل اتفاق سلام ينهي النزاع، اختبار النيات الحقيقية للفلسطينيين»، غير أن «عرض السلام غير المسبوق الذي قدمه باراك قوبل بالرفض من الجانب الفلسطيني». وعلى رأي يعلون، فقد دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً، في الماضي والحاضر، لهذه الإستراتيجيا التي اتبعها باراك، والتي أوجد في نطاقها «نموذجاً جديداً» يقوم على «مقايضة الأرض بالسلام» وهذا النموذج لم يكن منصوصاً عليه - وفق ما يدعيه - في قرار مجلس الأمن 242، مضيفاً أن هذا التوجه غذى منذ ذلك الوقت التوقعات والآمال (الفلسطينية والعربية) ب «اندحار إسرائيل إلى داخل الحدود الضيقة التي اقترحها باراك». وأضاف يعلون: «في ضوء الأحداث التي وقعت في الأعوام الأخيرة، بدءاً بالانتفاضة الثانية مروراً بانسحاب شارون من قطاع غزة وحرب لبنان الثانية وفشل محادثات أنابوليس، عادت حكومة نتانياهو مجدداً لتبني المقاربة القائلة إن «ضمان الاحتياجات الأمنية الحيوية لإسرائيل يشكل السبيل الوحيد لسلام مستقر ودائم مع الفلسطينيين»، وتتضمن هذه المقاربة ما يأتي: حدوداً يمكن الدفاع عنها؛ مجالاً جوياً موحداً؛ ضمان موجات بث إلكترومغناطيسية وضمانات أخرى. واعتبر يعلون أن عودة حكومة نتانياهو لتبني مقولة «الأمن أولاً» تعبر عن «إجماع إسرائيلي واسع»، مشيراً إلى أن هذا التوجه راسخ في التزام إسرائيل وإيمانها الدائم بمبدأ الدفاع عن نفسها من دون الاعتماد على قوى أجنبية. كذلك لا بُدّ من الإشارة إلى مداخلة الجنرال احتياط عوزي دايان، الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الذي شغل منصب نائب رئيس هيئة الأركان العامة، الذي اعتبر الاحتفاظ ب «حدود يمكن الدفاع عنها» بمثابة «حق أساسي» للدولة العبرية. وتابع أن «الكثيرين ما زالوا يتناسون مقدار الضعف الذي كانت إسرائيل تعاني منه في الماضي»، وهو وضع يمكن، في رأيه، أن يكرّر نفسه «إذا أجبرت إسرائيل على الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران 1967» وذلك في ضوء «حقيقة أن 70 في المئة من سكانها و80 في المئة من قدرتها الصناعية يتركزان في شريط ساحلي ضيق بين البحر المتوسط والضفة الغربية» تهيمن عليه من ناحية طوبوغرافية التلال القريبة للضفة الغربية، «ما يعطي أفضليات واضحة للمهاجم، من نواحي المراقبة والرصد وإطلاق النار والقدرة الدفاعية على مواجهة هجوم إسرائيلي مضاد». ويخلص الجنرال دايان من هذا كله إلى التحذير الآتي: «إذا قُدّر للضفة الغربية أن تقع في أيد معادية فسينتج من ذلك تهديد دائم للبنى التحتية الوطنية الإسرائيلية» المتركزة بكثافة في «السهل الساحلي الضيق»، ومنها مطار بن غوريون (اللد) الدولي وطريق «عابر إسرائيل» السريعة ومشروع المياه القطري وخطوط الضغط العالي لشبكة الكهرباء وغيرها من المنشآت والمراكز الحيوية في إسرائيل. ويؤكد دايان بذلك ما وصفه ب «الإجماع الواسع» الذي تبلور، نتيجة تلك الأسباب، في المؤسسة الأمنية «القومية» الإسرائيلية، منذ أيام يغئال ألون وموشيه دايان وإسحاق رابين، والذي «عارض بشدة عودة إسرائيل إلى خطوط 1967 الهشّة» وبحث عن حدود جديدة تحت مسمى «حدود يمكن الدفاع عنها» ودفع باتجاه تحقيقها في أي مفاوضات مستقبلية لتسوية النزاع. ولفت دايان في هذا السياق إلى رسالة الضمانات الأميركية التي وجهها الرئيس جورج بوش عام 2004 إلى رئيس الحكومة الأسبق شارون، والتي «تقر فيها الولاياتالمتحدة بحق إسرائيل في حدود يمكن الدفاع عنها». وكان دايان الأكثر وضوحاً في ما يتعلق ب «الجبهة الشرقية» عندما قال: «إن خطر قيام ائتلافات حربية عربية ضد إسرائيل تلاشى على المدى القريب منذ حرب الخليج (1991) وتوقيع معاهدة السلام مع الأردن (1994)، لكن لا يمكن ضمان الاتجاه الذي سيسير فيه العراق مستقبلاً. ولم يستبعد دايان في هذا السياق إمكان تحوّل العراق إلى «دولة معادية» تأتمر بأوامر إيران وتسعى إلى بسط النفوذ الإيراني في أرجاء العالم العربي، وقال إنه لا يجوز لإسرائيل تخطيط أمنها فقط على أساس صورة الوضع السياسي الراهنة، وإنه لا بد لها من أن تأخذ في الحسبان أيضا سيناريوات تهديد مختلفة، وأكد أن ضمان الأمن في حال وقوع هجوم تقليدي واسع ما زال يشكل الاختبار الحاسم بالنسبة الى إسرائيل، وخلص في هذه النقطة إلى القول: «طالما بقيت القوات البرية عنصراً حاسماً في نتائج الحروب فستبقى العوامل المؤثرة في الحرب البرية، مثل عمق المنطقة والطوبوغرافيا، وحجم القوات وطابعها، بمثابة مكونات حيوية في الأمن القومي الإسرائيلي». من ناحية أخرى، حذر دايان في هذا السياق من أن إمكان إعادة إحياء «الجبهة الشرقية» لم يتلاش نهائياً، وقال: «لا شكّ في أن الأردن أثبت نفسه كشريك مخلص وحيوي للسلام مع إسرائيل، غير أن تطورات مفاجئة للتصعيد العسكري في المنطقة أدت مرتين في التاريخ القريب إلى ممارسة ضغوط هائلة على الزعامة الأردنية لاتخاذ موقف عدائي أكثر تجاه إسرائيل... في المرة الأولى عام 1967 حيث كان العاهل الأردني (الراحل) الملك حسين آخر زعيم ينضم إلى التحالف العربي في الحرب ضد إسرائيل، وفي المرة الثانية تعرض الأردن لضغوط كبيرة للوقوف إلى جانب معسكر صدام حسين قبيل غزو العراق للكويت، وفي عام 1989 حصلت طائرات تجسس عراقية على إذن بالدخول إلى المجال الجوي الأردني من أجل تصوير أهداف محتملة في إسرائيل. وخلص إلى القول: «إن العبرة المطلوبة تتمثل في أنه لا يجوز التخلي عن غور الأردن انطلاقاً من فرضية مؤداها أن تعرض إسرائيل لهجمات من الشرق لم يعد احتمالاً ممكناً». في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن التلويح ب «فزاعة الجبهة الشرقية» يهدف إلى تمرير رسالة إلى الفلسطينيين والعرب فحواها أن خطوط عام 1967، وكذلك خط الجدار الفاصل، لا يمكن أن يشكلا خط حدود يمكن الدفاع عنه، ولذلك فإن السيطرة الإسرائيلية الكاملة على غور الأردن بأكمله، كمنطقة أمنية تستند إلى نهر الأردن كخط حدودي، هي الكفيلة فقط ب «ضمان الأمن لإسرائيل»، وهي بالتأكيد رسالة تفضح جوهر «السلام» الذي تتطلع إليه إسرائيل في ظل حكومة نتانياهو، بالتزامن مع تواتر الحديث عن احتمال استئناف المفاوضات المباشرة مع السلطة الفلسطينية في رام الله.