مع أن ألبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة ذات الغالبية المسلمة، إلا أنها في الوقت نفسه الوحيدة في البلقان التي لم تبرز فيها دراسات أكاديمية في مجال الاستشراق ولم تؤسس فيها أقسام للدراسات العربية والإسلامية والاستشراق في شكل عام. لدينا في النصف الأول للقرن العشرين رواد اهتموا بالدراسات والترجمات عن اللغات الشرقية طاهر دزداري إلخ، إلا أن وصول الحزب الشيوعي الى السلطة عام 1945 لم يشجع كما في يوغسلافيا المجاورة على مأسسة الاهتمام بالشرق والدراسات الشرقية. وهكذا كان من المفارقات أن تسبق كوسوفو ألبانيا في تأسيس قسم للاستشراق في جامعة بريشتينا في 1973، وهو القسم الذي أرسى الأساس للاستشراق الألباني الذي أصبحت له خصوصيته. فالاستشراق الألباني، كما هو الأمر مع الاستشراق البوسنوي، أصبح يعتبر نفسه علماً مساعداً في دراسة التاريخ المحلي والتراث الألباني على اعتبار أن استمرار الحكم العثماني حوالى 500 سنة في المنطقة وانتشار الإسلام واسهام الألبان في الكتابة باللغات الشرقية جعلت دراسة هذه الجوانب جزءاً من دراسة الذات وليس الآخر المختلف. ومن هنا كان لافتاً أن يصدر أخيراً في تيرانا التي لا يوجد فيها بعد قسم أكاديمي للاستشراق كتاب عن الاستشراق في البانيا للباحث أنس سول ستاروفا بعنوان"الهروب من الشرق: الاستشراق الألباني من نعيم الى كاداريه". ويلاحظ هنا أن الكتاب الجديد يعيد تعريف الاستشراق الألباني على نحو جديد بالاستناد الى"الاستشراق"الذي شرحه ادوار سعيد وليس بالاستناد الى الاستشراق الأكاديمي الموجود في المحيط الألباني ذاته. ومن الواضح أن المؤلف الذي درس العلوم السياسية خارج ألبانيا جامعة الشرق الأوسط في أنقرة تعرف على"الاستشراق"لإدوار سعيد وأعاد انتاج"الاستشراق الالباني"كما بدا له في حالة ألبانيا. ولذلك يمكن القول ان هذا الكتاب هو عمل تطبيقي للاستشراق بالمفهوم السعيدي على الواقع الألباني. ولذلك يعتبر الكتاب مفيداً للألبان الذين لم يقرأوا بعد كتاب"الاستشراق"لإدوار سعيد الذي يعرف به سول ستاروفا في شكل جيد هنا الذي ينتظر أن يصدر في 2008 بترجمة الزميل جواد لوشي، نظراً لأنه يجعلهم يتعرفون على الاستشراق الآخر خارج الأكاديميا. ويلاحظ في الغلاف المعبر لوحة تعبر عن الصراع بين الشرق والغرب في المجال الألباني، كما أن العنوان الرئيس"الهروب من الشرق"يعبر عن جوهر الاستشراق الألباني الذي يقصده المؤلف، بينما يعبر العنوان الفرعي"من نعيم الى كاداريه"عن الإطار الزمني الذي يستغرقه هذا الاستشراق من الشاعر نعيم فراشري 1850-1900 الى الكاتب المعاصر اسماعيل كاداريه 1936، وفي الواقع أن كاداريه لا يذكر فقط في العنوان بل انه يحتل أحد أهم وأطول الفصول في الكتاب. وقبل الحديث عن مكانة كاداريه في الاستشراق الألباني، لا بد من التوضيح أن المؤلف يعرف الاستشراق هنا باعتباره"الفكر الذي يقوم على التمييز بين الشرق والغرب". وهذا الفكر أو التفكير الاستشراقي، بحسب المؤلف، انما هو نتاج المرحلة الكولونيالية للغرب المندفع للسيطرة على العالم. وفي هذا الاطار أصبح الغرب يسوق، كما يقول المؤلف، باعتباره المثل الأعلى للفضائل في كل مجال السياسة والاقتصاد والمجتمع، بينما يمثل الشرق نقيضه في كل مجال: التخلف والبؤس والضعف والتعصب الخ. وبهذا المعنى يرى المؤلف أن الايديولوجية القومية الجديدة في البلقان كانت بروح"استشراقية"في هذا السياق، أي ان"الآخر"المقابل لها يجب أن يكون من الشرق أو أقرب الى الشرق. وهكذا تصبح كرواتيا وصربيا والبوسنة هي الشرق بالنسبة الى سلوفينيا، وتصبح البوسنة وألبانيا هي الشرق بالنسبة الى صربيا، وتصبح صربيا هي الشرق بالنسبة الى اليونان، وتصبح تركيا هي الشرق لكل القوميات البلقانية، بينما تصبح سورية وايران هي الشرق بالنسبة الى تركيا. وبالاستناد الى هذا التنظير ل"الاستشراق"يقوم المؤلف بتحليل النتاج الفكري والأدبي للنخبة الألبانية منذ النهضة القومية الألبانية 1839-1912 ومروراً بمرحلة الاستقلال منذ 1912 التي عرفت فيها ألبانيا التحول من الحكم الديموقراطي غير المستقر 1920-1939 الى الحكم الشيوعي 1945-1990 وحتى الوقت الراهن. وعلى رغم هذه التغيرات الكبرى من الحكم العثماني الى الحكم الديموقراطي الحالي، فإن المشترك في"الاستشراق"الألباني ل ايزال كما هو: الهروب من الشرق باعتباره مصدراً للتخلف والتعصب، واللجوء الى الغرب باعتباره الملاذ الطبيعي للألبان. في هذا الاطار يخصّص المؤلف نحو سبعين صفحة من الكتاب لتحليل أهم أعمال كاداريه سواء خلال الحكم الشيوعي أو بعده ليتوقف عند العناصر الاستشراقية لديه. ويلاحظ هنا أن هذا الفصل عن كاداريه يحمل عنوان"الاستشراق في الواقعية الاشتراكية: حالة كاداريه"، أي أنه يكاد يقتصر على أعمال كاداريه حتى 1990، لأن تحليل أعماله الجديدة بعد 1990 يحتاج كما يقول المؤلف الى مجال أوسع بكثير. وحتى في هذا المجال، كما يلاحظ المؤلف، فإن تقلبات النظام الحاكم في ألبانيا التحالف مع الاتحاد السوفياتي ثم الانقلاب على ذلك للتحالف مع الصين المادية ثم الانفراد بالكفاح ضد الامبريالية الاشتراكية والامبريالية الرأسمالية انعكست على أعمال كاداريه الذي كان يبرّر تقلبات النظام، ولكنها لم تؤثر في المشترك فيها: الموقف المعادي من الشرق. وهكذا يصبح الشرق هو الخطر الكبير الذي يهدد ألبانيا وهوية الألبان طوال قرون، ويصبح"صمود"الألبان في وجه المؤثرات الشرقية على رغم أن غالبيتهم الساحقة اعتنقت الإسلام هو المثل الاعلى في النتاج الاستشراقي لدى كاداريه. وبالاستناد الى ذلك يحلل المؤلف كتاب كاداريه"السيرة الذاتية لشعب في شعره"الذي يتناول فيه الشعر الشعبي الألباني ويتوقف بالذات عند الدافع لتأليف هذا الكتاب كما عبر عنه كاداريه نفسه، الذي استلهمه كما قال حين كان فوق صحراء العرب في طريقه من الصين الى ألبانيا. وهذه الملاحظة مهمة لأن كاداريه يعتبر أن ما يميز الشعر الشعبي الألباني هو"صموده في وجه الثقافة الشرقية التي تنبع بالتحديد من صحراء العرب". ويلاحظ سول ستاروفا في تحليله لأعمال كاداريه أن الحامل أو الرمز لهذا الشرق يتمثل عادة في"آسيا"و"الاتراك"مما يجعل الآخر المرفوض ينسب دائماً إليهما:"ثقافة آسيوية"وپ"احتلال آسيوي"إلخ. ولكن المؤلف يأخذ على كاداريه أن الآخر المرفوض في الشعر الشعبي الألباني، وخصوصاً في شمال ألبانيا، ليس"التركي"ولا"الآسيوي"بل السلافي المجاور. الا ان كاداريه، كما يقول المؤلف، يتسامح هنا مع الآخر طالما انه أوروبي ولكنه يتحدث بخطاب"عرقي"racist عندما يتعلق بالآخر اذا كان من الشرق. وفي هذا الاطار يرسم كاداريه في أعماله صورة سلبية عن المؤثرات الشرقية التي دخلت الثقافة الألبانية، وبخاصة الشعر الشعبي والشعر الجديد شعر أصحاب الأبيات. فهو يعتبر ان هذا النوع من الشعر، الذي طالما امتدح لريادته في المجالات التي تناولها، انما يمثل"ثمرة الثقافة المنحطة لطبقة البكوات"التي كانت تواجه"الفن الشعري الشعبي العظيم". ويستغرب المؤلف هنا تقويم كاداريه لهذا النوع الجديد من الشعر باعتباره"ثمرة الحانات والمقاهي"في الوقت الذي يشيد فيه بلزاك بهذه على اعتبارها"برلمانات شعبية"، وكأن كاداريه يريد أن يسجل هذا الموقف انسجاماً مع الموقف الرسمي حول"صراع الطبقات"على اعتبار أن هذا الشعر يمثل"طبقة البكوات". ولكن تمثل الموقف الرسمي للنظام الشيوعي لا يقتصر فقط على تجيير"صراع الطبقات"لأجل رفض الآخر الشرق، بل ان تقلبات النظام الشيوعي داخل المعسكر الاشتراكي كانت تخدم ايضاً الموقف الاستشراقي لكاداريه كما يرى سول ستاروفا. وهكذا عندما كتب كاداريه رواية"الشتاء العظيم"عن الخلاف الألباني - السوفياتي في 1960، التي دافع فيها عن موقف انور خوجا، اعتبر موقف ألبانيا تحرراً من الاتحاد السوفياتي الموجود في آسيا. وقد تكرر الأمر ذاته في رواية"احتفال في نهاية الشتاء"التي تناول فيها الخلاف الألباني - الصيني، حيث يبدو أن تحرر ألبانيا من الصين انما كان تحرراً لألبانيا من آسيا أيضاً. وبعد لجوء كاداريه الى باريس عشية سقوط النظام الشيوعي في ألبانيا، كما يلاحظ سول ستاروفا، أصبح يركز في أعماله الجديدة على هاجس الغرب عند الألبان طوال تاريخهم الحديث. وهكذا اصبح كاداريه يعتبر أن الألبان فصلوا عن الغرب رغماً عنهم بسبب الدولة العثمانية وبسبب الدولة الشمولية ايضاً، حيث اصبح يعتبر ان البلشفية ايضاً هي من الشرق. وعلى كل حال لا يسع المرء إلا أن يقدر الجهد الكبير الذي قام به سول ستاروفا لرصد رؤية النخبة الألبانية وتحليلها للعلاقة بين الشرق والغرب خلال القرنين الآخيرين، وربما يؤخذ عليه انه قد اعتمد في تجميع"الاستشراق الألباني"على ما ورد لدى ادوار سعيد في"الاستشراق"وذلك على حساب الاستشراق الألباني الأكاديمي الذي لم يحظ بسطور من المؤلف على رغم الخبرة التي لديه. وبسبب هذه الرؤية الأحادية للاستشراق، لا يعد من المستغرب أن يخصّص لكاداريه اطول فصل في الكتاب 71 صفحه بينما لا يرد حتى ذكر حسن كلشي 1922-1976 رائد الاستشراق الألباني الأكاديمي.