ماذا أقول عن العراق وأنا عائد منه اليوم؟ إنه عراق "ديمقراطي" - مزوّد بدستور أقرّ بموجب استفتاء وبالانتخاب العام المباشر - ولكنه في حرب مع نفسه. عراق تحرّر من دكتاتورية دموية - أهلكت مليونين إلى أربعة ملايين شخص - حيث لا يزال الدم يُسفك مع ذلك. عراق متناقض ومقطّع، على غرار العقول والقلوب: منطقة خضراء فائقة الحماية، في بغداد، ومنطقة كردية أكثر استقراراً وما تبقى من البلاد فريسة احتدام الحقد والعنف دفع بأربعة ملايين لاجئ ومهجّر على طريق المنفى ولا يزال يذهب ضحيته ألفا شخص كلّ شهر. لماذا ذهبت إلى العراق ؟ أوّلاً لاستمع خلال ثلاثة أيّام إلى جميع العراقيين ? شيعة وأكراداً وسنّة ومسيحيّين - من دون استثناء. استمع لكي أشعر وأفهم وإنّما أيضاً لأؤكّد على دعم بلادنا الكامل لهدف المصالحة الوطنية، وهو هدف أساسي، ولضرورة الحوار السياسي"الجامع". لقد حرصت على الاجتماع بكلّ الفاعلين وأحسست لديهم بالحاجة إلى أن يتمّ الاعتراف بهم وأن يكون لديهم اتصال مجدّد بفرنسا وأوروبا. فلدى العراقيين، المعزولين منذ فترة طال أمدها، شعور بأنهم منبوذون ومهملون من الأسرة الدولية. بعد سنوات من التفسير والتأويل حول الوجود الأميركي في العراق، آن الأوان للاهتمام بالعراقيين. ذهبتُ للعراق ثانياً لأظهر عودة فرنسا إلى حيث يتحدّد مصير جزء من مستقبلنا ومستقبل أولادنا. فبرغم محافظتنا على سفارتنا في بغداد، بفضل موظفين شجعان يستمرّون في تشغيلها، فإن نظراتنا السياسية كانت قد حادت عنه. فلم يقم أيّ وزير فرنسي للخارجية بزيارة بغداد منذ 1988. والحال أن بلادنا تتمتّع بمسؤوليات خاصّة كعضو دائم في مجلس الأمن. ولا يسعها أن تتجاهل هذه الأزمة الضخمة التي لا تطال العراق وحسب، وإنما تهدّد أيضاً استقرار المنطقة بأسرها وما يتعدّاها. إنها أزمة ترمز إلى جميع الأزمات التي تقلق العالم. ولا يسعنا التغاضي عن الاهتمام بها بحجّة أن البلد فريسة ثقافة العنف التي أضحى فيها الاغتيال كهدف سياسي أمراً مألوفاً. ولا يمكننا أن نغضّ الطرف عن العراقيين لأنهم حُرّروا، ضدّ إرادتنا، ثمّ قُيّدوا على يد قوّات للأميركيين والإنكليز الحلفاء. لأن العراق واقع في قلب رهانات عالمية : مواجهات بين الطوائف وضمنها، عدم التسامح والتعصّب الديني، نزاعات بين الحضارات، تأثيرات ذات طابع ازدواجي للبلدان المجاورة بما في ذلك ضمن سياق الانتشار النووي، عولمة الإرهاب... أخيراً ذهبت إلى العراق لأكرّم، وذلك منذ وصولي إلى بغداد، في 19 آ ب أغسطس، بعد أربعة أعوام يوماً بيوم من الاعتداء على مقرّ الأممالمتحدة، ذكرى صديقي سرجيو فييرا دي ميلو وواحد وعشرين من معاونيه، وقد عمل العديد منهم معي في كوسوفو. وفيما يتعدّى التأثر والعاطفة، فقد أردت لهذه الإيماءة أن تكون دعوة إلى تجديد لا غنى عنه لدور الأممالمتحدة في العراق. ماذا يمكن أن تفعله فرنسا لمساعدة هذا البلد الجريح كي يستعيد الأمل؟ عليها أولاً أن تكون متواضعة. فمن يمكنه أن يتصوّر أننا نملك صيغة سحرية؟ ولكن، كما أشار إليه مسؤول عراقي سألته عن الدور الذي يمكن لفرنسا أن تلعبه وماذا يمكن أن تقدّمه لمساعدة العراقيين،"تستطيع منذ الآن أن تقدّم نظرة جديدة، a new look"، وأضاف مسؤول آخر :"أن تعيد لنا شرفنا". لا يخفى على أحد أن فرنسا لم تدعم تدخّل التحالف في عام 2003. في الواقع، وعلى رغم أن هذا التدخّل أتاح الإطاحة بدكتاتورية دموية، فإن الطريقة المتّبعة بعد ذلك لبناء عراق آمن وديموقراطي لم تكن صائبة. وهذا أقلّ ما يُقال. والحصيلة اليوم مروعة. يجب أن نقلب الصفحة، وأن نتصرّف على نحو مختلف. لا يوجد حلّ عسكري دائم لهذه الأزمة. ليس هناك سوى حلّ سياسيّ. وعلى رغم أن العراقيين أنفسهم، بمن فيهم الأكثر مناهضة للوجود الأميركي، لا يرغبون في انسحاب فوري للقوات الأجنبية، فإن هذا الانسحاب يجب أن يُبرمج مع ذلك بالتشاور مع السلطات العراقية. وفي الوقت نفسه، لا بدّ لحكومة اتحاد وطني واسعة أن تبصر النور، وفرنسا على استعداد لتقديم عونها كوسيط. نعم، بمقدور فرنسا أن تقدّم نظرة جديدة، لا سيّما أنها لم تشترك في تدخّل 2003، ولكنها ظلّت، منذ ذلك الحين، إلى جانب الشعب العراقي، في المنطقة الحمراء - حيث بقيت سفارتها مفتوحة. وما يسهّل الأمر عليها أن صداقة قديمة تربطها بالعراق وأنها تتمتّع في هذا البلد بأوسع طيف من الاتصالات مع مختلف الطوائف، جميع الطوائف، وأننا الحلفاء - المشاكسين أحياناً - للأميركيين، كما يكون الأصدقاء الحقيقيون. ومن الأرجح أن فرنسا - وهو أوّل بلد غربي غير مشترك في التحالف يقوم بإرسال وزير خارجيته إلى العراق منذ 2003 - تستطيع أن تبني، مع شركائها الأوروبيين، مقاربة جديدة في خدمة السلام تعطيها الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي شكلها. وفرنسا تدعم المبادرات الدولية المتخذة في الأشهر الأخيرة والتي تبشر بمعالجة سياسية ودولية للأزمة. إن توسيع دور الأممالمتحدة كما حدّده القرار 1770 في 10 آب أغسطس الماضي، يسير في الاتجاه الصحيح. ويتعيّن الآن ترجمته على أرض الواقع. كما يتعيّن أيضاً أن تخرج البلدان المجاورة من ازدواجيتها لتصبح عناصر فاعلة في الخروج من الأزمة. لا يمكن أن يتحقّق شيء صلب من دونها. وعلى فرنسا أن تساهم في إقناعها بذلك. إن العملية التي انطلقت في شرم الشيخ في شهر أيار مايو إيجابية وعلى التدابير الملموسة التي خلصت إليها أن تنفّذ من دون تأخير، ولا سيّما ما يتعلّق منها بفرق العمل الثلاثة التي تنصّ عليها والتي تطال ثلاثة مواضيع جوهرية ? ألا وهي الطاقة ومسألة اللاجئين والأمن - كما عليها أن تفضي إلى إجراءات ملموسة. إن عراقاً في سلام مع نفسه ليس حلماً مستحيل المنال. والكثير من الجهد والوضوح والاقتناع من شأنه أن يجعله حقيقة واقعة. شرط أن نتحلّى جميعاً بالجرأة. ولنحذر الأسوأ إذا تهرّبنا. وزير خارجية فرنسا