كلما جاءت أخبار ساخنة من بغداد، وكلما توسعت جبهة الحرب، وأصبحت لا تعرف طرفاً محدداً، كلما تعالت تلك الأصوات المطالبة بانسحاب القوات الأميركية والبريطانية من العراق. الحجة التي يتحدث عنها المناهضون لبقاء القوات الأميركية والبريطانية في العراق، ليس لها علاقة بالتطور الذي حصل بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد في 9 نيسان أبريل 2003، إنما يعود ذلك إلى ما قبل هذا التاريخ. تلك الحجة تعتمد أصلاً على الموقف الرافض للحرب وإزاحة النظام الديكتاتوري بالقوة، وضخ الدم فيه لكي يبقى على قيد الحياة. ومهما اختلفت نبرة المناهضين للوجود الأميركي، من النبرة الأبوية لما يُطلق عليه بالاختصاصين بالشرق الأوسط أو بالعراق وهم كُثر الذين يظهرون يومياً في الدردشات التلفزيونية بعضهم زار العراق ربما يوماً واحداً!!، إلى المطالبات الشعبية "البريئة" المناهضة للحرب عموماً، بل ومهما تفاوتت مصالح معسكر الرافضين للحرب، فإنهم لا يخفون تشفيهم بما يحصل هناك يومياً للجنود الأميركيين. وسط زعيق الأصوات التي تطالب بسحب القوات الأميركية فوراً، يضيع السؤال، لمصلحة من ستنسحب تلك القوات؟ وماذا عن العراقيين ذاتهم؟ هل يضعون هذا المطلب فعلاً على رأس جدول أعمالهم؟ من يتابع مجرى العمليات العسكرية لفلول ما يُطلق عليهم "المقاومة العراقية"، سيعرف مباشرة، بأن كل تلك العمليات تتركز في غرب البلاد، في المناطق التي تركز فيها اللوبي العشائري المستفيد من نظام الديكتاتور صدام حسين، حيث نشأت طبقة أرستقراطية جديدة بدوية الأصول، يُمكن تسميتها بطبقة "الساكنين على ضفاف دجلة والفرات"، بسبب استحواذها ومصادرتها كل الأراضي الواقعة على ضفاف النهرين، والتي خرج من صفوفها كل قادة الجيش وكل أصحاب المراتب العليا من ضباط جهاز الأمن والاستخبارات والضباط والجنود النخبة الذين شكلوا قوات الحرس الجمهوري وفدائييّ صدام. تلك المناطق التي تمتد من غرب بغداد وتنتهي في مدينة تكريت، والتي تضم على أرضها، أربع مدن رئيسية: تكريت، عوجة، سامراء، فلوجة إضافة إلى غرب بغداد. حتى لو اعتبرنا أن غالبية سكان هذه المناطق مشاركة في العمليات المضادة للوجود الأميركي ليس من المعقول أن يكونوا جميعهم ضمن العصاة، فإنهم يظلون يشكلون جزءاً ضئيلاً من النسبة التي وضعها المحللون الغربيون للوجود السني في العراق، 13 في المئة. وبحِسبة بسيطة للنسب المتبقية التي وضعها المراقبون ذاتهم للجماعات الدينية والعرقية في العراق، من سنة وشيعة ومسيحيين وأزيدية وصابئة، من عرب وأكراد وتركمان، سنحصل على غالبية عراقية، ما يعادل 24 مليون نسمة من 26 مليوناً نفوس العراق، يتوزع موقفها، في أكثريته مع الوجود الأميركي، وأقلية بينها لا تعرف ما تريد حتى الآن: هل هي مع انسحاب القوات الأميركية أو مع بقائها؟ لكن من اللافت للنظر، ان حتى تلك الأطراف الشيعية التي صعّدت من لهجتها ضد الوجود الأميركي جماعة مقتدر الصدر أو آية الله السيستاني، بدأت تتراجع عن مواقفها السابقة، وتطالب الاميركيين بتحمل مسؤوليتهم كسلطات احتلال، ويحذرون من الفراغ الذي سيحدث في حال انسحاب القوات الأميركية والبريطانية. وهناك الآن شبه إجماع عند غالبية العراقيين الذين يتقاسمون هذا الموقف، ليس عند أولئك الذين يجدون في القوات الأميركية قوات محررة وحسب، إنما عند أولئك الذين يرفضون وجود أي قوات غربية "مسيحية" أصلاً! انسحاب القوات الأميركية والبريطانية سيؤدي إلى نتائج كارثية للبلاد، خصوصاً على الصعيد السياسي، إذ سيقود إلى حرب أهلية لجميع الأطراف وضد كل الأطراف: شيعة، وسنة، عرب وأكراد وتركمان. إضافة إلى ذلك سيؤدي أيضاً إلى تدخل بلدان مجاورة، وليس من المستبعد أن تأخذ حصتها من العراق، خصوصاً إيران وتركيا. ستحاول الأولى بكل الوسائل ضم الجنوب بصورة قسرية وضد رغبات أهله، والثانية إن لم تكتفِ بكركوك فإنها ستصفي حساباً قديماً بضم الموصل لها. ونتيجة كل ذلك ستكون زعزعة للمنطقة كلها وتوسع للحرب في الشرق الأوسط،، وحيث لا يُستبعد استخدام أسلحة الدمار الشامل. ومن مفارقات هذا الوضع، أنه سينتج كل ما كان يحذر منه معسكر الرافضين للحرب ألمانيا وفرنسا وروسيا بصورة خاصة!، والذي لم يحصل الى الآن بسبب وجود القوات الأجنبية بالذات! ولكن، لماذا لا يرى المناهضون للحرب والمطالبون بانسحاب القوات الأميركية هذه الحقيقة، ولماذا يتجاهلون رأي معظم الشعب العراقي، ويصغون لصوت انفجار السيارات المفخخة وقنابل وصواريخ أسامة بن لادن وبقايا فلول صدام حسين، وحلفائهما الآخرين من إرهابيين في المنطقة؟ لماذا يقللون من حجم الأخطار التي ستطاول كل النظام العالمي في هذه الحالة؟ ليس من الخافي أن كتائب الموت السود لفلول النظام البعثي المنهار تستغل بشكل ذكي ما تعتقده "ضعف" الديموقراطيات الغربية: القيمة التي يشكلها الإنسان ورأيه. فإذا كانت قيمة الإنسان في منطقة الشرق الأوسط والعراق بالذات لم تعنِ ولا تساوي شيئاً، وأن أي صوت معارض يُخنق ويُصفى مباشرة، والمقابر الجماعية التي تركها البعثيون خير شاهد، فإنهم يعرفون أن الحكومات الديموقراطية لا تستطيع في المدى البعيد الحكم ضد إرادة الناخبين، وأن سقوط القتلى في الحرب، سيسبب خسارتها الانتخابية. ليس هناك أفضل من صدام حسين، التلميذ النجيب لستالين وهتلر، عرف هذا الأمر" في 19 تموز يوليو 1979 خاطب الديكتاتور الدموي صدام حسين حشداً من الصحافيين الغربيين في أول وأشهر مؤتمر صحافي أقيم في بغداد، بعد تسلمه قيادة البلاد مباشرة حتى ذلك الوقت كان يحكم بالخفاء بصفة نائب الرئيس أحمد حسن البكر، قال: "يجب أن تعرفوا، أن حكومتنا ليست مثل حكوماتكم، تسقط بفارق صوت واحد. انها جاءت بطريقة وتذهب بالطريقة نفسها"، وقبل أن ينهي الجملة مدّ يده إلى مسدسه. إن رجلاً مثل صدام حسين بدأ حياته قاتلاً محترفاً، لا يأخذ أي اعتبار لشعبه، وهذا ما تثبته يومياً العصابات التابعة له. ففي عملياتها العسكرية الإرهابية والتخريبية، لا تفرق بين الأجنبي والعراقي، بين الرجل والمرأة، بين الشيخ والطفل، بين أنابيب المياه ومحطات الكهرباء الوطنية، لكن أن يموت جنود أميركيون في العراق، ومهما كان عددهم، سيسبب إحراجاً للإدارة الأميركية. وكلما كثرت ضحايا الأميركيين والبريطانيين وحلفائهم، كلما تضاعف الضغط على الإدارة الأميركية والبريطانية، وكلما فقدت التعاطف من الرأي العام، وتصاعدت الأصوات في أوروبا تطالب القوات الأجنبية بالانسحاب. تلك هي الرسائل التي بعث بها صدام حسين واسامة بن لادن وقادة الجماعات الإرهابية الآخرين، وذلك ما جعل التهديد بضرب القوات المتحالفة حقيقة، بعد الهجوم الانتحاري على مقر القوات الإيطالية في الناصرية، مثلما حدث قبله على مقر الأممالمتحدة ومقر الصليب الأحمر في بغداد. فالحرب ما عادت تتعلق بالقوات الأميركية "المحتلة"، التي تريد الاسهام في بناء العراق، إنما تستهدف أيضاً الأممالمتحدة التي تريد المشاركة في البناء وكل المنظمات الإنسانية الأخرى. هذه المنظمات، المعروفة بحيادها، يجب جلبها للمعركة بالقوة، من دون أي اعتبار أو رحمة. وعندما تُهاجم مراكز الشرطة العراقية المحلية، التي نشأت حديثاً، والتي يُراد منها السيطرة على الأمن، لكي تقوم هي بهذا الواجب بدل القوات الأميركية، يعرف المرء حجم التخطيط الإرهابي وأهدافه. يجب خلق حال من الفوضى وتوسيع جبهة الإرهاب، تلك هي استراتيجية مهندسي الإرهاب، وفي مقدمهم صدام حسين، الذي يأمل بالرجوع، وهو واثق من إعادة الاعتبار إليه أوروبياً، أو فرنسياً وألمانياً بالمعنى الضيق للكلمة! من الخطأ الظن، أن القضية لها علاقة بالوجود الأميركي، وبدور أميركا الطبيعي في النظام العالمي، إنما لها علاقة بما يقارب 24 مليون إذا نحينا المثلث "المقاوم" تعسف عراقياً، ليست لهم مصلحة برجوع الديكتاتور الدموي. ومساعدتهم بعد 35 عاماً من الإرهاب والقتل، هو واجب إنساني يقع على عاتق البشرية، وعلى أوروبا "عصر الأنوار" بالذات. وهذا الواجب لا يسمح بالوقوف موقف المراقب، وفرك اليدين للتشفي und die H8nde reiben aus Schadenfreude، لأن "على المحافظين الجدد والصقور الأميركيين تعلم الدرس". فمن ينتقد الولاياتالمتحدة ويطالب بانسحاب القوات الأجنبية، عليه ألا يضع نفسه محامياً عن العراقيين على رغم أنفهم بالطبع، فحتى الآن لم يطلب العراقيون ذلك من أحد!، وأن يفصح بصراحة عن خلافاته الخاصة به مع الولاياتالمتحدة الأميركية. لأن من يريد مساعدة العراقيين بحسن نية، عليه أن يفعل ذلك بغض النظر، عما إذا كانت تلك الحرب شرعية أم لا، لأن الحرب حدثت ولا يمكن إرجاع عقارب الساعة الى الوراء، مثلما عليه أن يكف عن المطالبة بسحب القوات، لأن سحب القوات سيخلق فوضى ودماراً أكثر. من الأصح مطالبة الإدارة الأميركية بأن تساعد وتسرّع بخلق البنى الاقتصادية والمادية والسياسية، وكل ما يقود الى تحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي للسكان ويساعد باستتباب الأمن والاستقرار في البلاد، وأن يضمن عمل المنظمات الإنسانية والمدنية. لتحقيق ذلك، يجب العمل على كل ما يساعد العراقيين بالنجاح بالتغلب على وضعهم الحالي، وجعلهم يشعرون في المقام الأول، بأنهم المعنيون بعمليات البناء، وأن المسؤولية تقع على عاتقهم في النهاية. أولاً عندما يخرج العراقيون من هذا النفق المظلم، ويتسلمون قدرهم بأيديهم، يبدأ مستقبلهم. ففي المسؤولية الذاتية تكمن الديموقراطية الحقيقية، التي تنتصر على الاستبداد، وليس كما يعتقد البعض من الذين يُطالبون الآن بإجراء انتخابات برلمانية مباشرة، وينسون أن بلاداً خرجت للتو من عسف نظام ديكتاتوري استمر أكثر من ثلاثة عقود، تحتاج إلى فترة استعادة نفس "ديموقراطي" قصيرة، وأن تهيأ كل البنى التحتية اللازمة لنجاح الانتخابات أصلاً، وإلا فإنها ستُسلم نفسها إلى الديكتاتورية من جديد. في المحصلة، من يدعو الى انسحاب القوات الأجنبية من العراق، وترك العراقيين لوحدهم في محنتهم، مثلما تركوا عقوداً طويلة مع احد أعتى الديكتاتوريين دموية في العالم، فهو في النتيجة إن لم يشأ أن يغسل يده من الدماء عندما صافح سابقاً صدام حسين، لأنه يأمل بمصافحته مجدداً، فإنه يدعو بوعي لبلبلة الوضع في المنطقة المحيطة بالعراق وفي العالم، وفي الوقت نفسه يقول وداعاً لعملية "البناء القومي nation building" التي يعرف صعوبتها، كما حصل في ألمانيا بعد سقوط النازية في عام 1945، ولليابان بعد سقوط الفاشية احتاجت ألمانيا 5 سنوات حتى إجراء أول انتخابات ديموقراطية، أما اليابان فقد احتاجت 10 سنوات. ومن لا يساعد في عملية البناء في العراق، فهو يترك الدول الناشئة "الفاشلة" لمصيرها، مع كل النتائج المحتملة التي ستقود الى زعزعة الأمن في العالم. البعثيون السابقون وكل أولئك الذين ينضمون إليهم، من إرهابيين وصانعي قنابل محترفين، والذين يزورون بغداد في هذه الأيام، قادمين من كل حدب وصوب، يعرفون ذلك. وهم سيبذلون كل ما في وسعهم لكي يوصلوا العالم إلى هذه النتيجة الكارثية. فمن يمنعهم؟ * كاتب عراقي. والمقال ينشر بالتزامن مع صحيفة Die Zeit الأسبوعية الألمانية.