بين السياق الدموي الجنوني في العراق، وما تتجمع في أفقه من سحب داكنة، والتحضير لمؤتمر دولي في شأن العراق في شرم الشيخ مصر، بمشاركة الكتل الدولية والاقليمية المعنية بأمره. بين هذا وذاك فجوة هائلة في الطبيعة والنوع، ومنهج التفكير والعمل. المخدور الذي يتعرض له "المؤتمر الدولي" ان يكون مجرد مسحة تجميلية من هذا المكياج الحديث الذي يحول القبيحة، لساعات فقط، الى ملكة جمال! وهو مكياج عالمي لم يعد مقتصراً على "تبييض الوجوه" الشنيعة، وانما على "تبييض" السياسات والزعامات والدعوات، فضلاً عن الأموال! ما يزيد القلق ان اللاعب الأكبر في الساحة العراقية، وهي الولاياتالمتحدة الأميركية، يبدو انها تسابق الزمن بالحسم الدموي الى هدفين لن يزيدهما تفجر الدم إلا ابتعاداً، وهما المؤتمر الدولي في شأن العراق الذي يحتاج الى إعداد وتحضير أهدأ، وأكثر حكمة وحذراً، بين القوى المشاركة فيه. وها هو ذا الرئيس الفرنسي جاك شيراك ينتقد السياسة الأميركية الراهنة في العراق، وبلاده ستكون أبرز المشاركين الدوليين، في المؤتمر الدولي العتيد في شأنه، وينتقدها، من أين؟ من بريطانيا أقرب الحلفاء... فهل هو تحذير لها من مغبة التطرف وإعداد لمواجهة معها في المؤتمر... أم تمهيد لاتفاق "ودي" دولي جديد، كالذي ذهب شيراك للاحتفال بمئويته مع الشركاء الانكليز الذين قد يحثهم على أن يكونوا "وسطاء" المفاهمة الجديدة... وذلك من باب: "اشتدي أزمة... تنفرجي!". أما الهدف الثاني الذي يبدو ان الطلقات العسكرية الأميركية بين الفلوجة والموصل لا تقرّب من حدوثه ونجاحه فهو الانتخابات العراقية التي تحتاج، كأية انتخابات، الى أجواء هادئة ومسالمة ومنفتحة تدعو الى الاطمئنان ليذهب المواطن العراقي العادي اليها ويعود سالماً الى بيته، في ظل شعار تدركه الولاياتالمتحدة جيداً: "Ballots not Bullets" أي صناديق الاقتراع لا رصاص القتل. فكيف المخرج للعراق إذا أريد ألا يستمر في هذا النزيف الطويل وحتى يستعيد وضعه الطبيعي؟ لا توجد حلول سحرية ولا وردية. ولكن يبدو ان التوصل الى اقامة "شرعية دولية" في شأن العراق- من خلال المؤتمر الدولي المزمع بشأنه - أفضل من بقائه محتلاً من طرف دولي واحد، في واقع الأمر. واعتقد ان السؤال الذي طرحه صلاح النصراوي في "الحياة" بتاريخ 11/ 10/ 2004: ماذا يضير لو جرب العراقيون حلاً آخر تحت مظلة دولية هذه المرة؟ سؤال جدير بالمحاولة في ظل ما يعانون. كما ان مقالة وحيد عبدالمجيد "الحياة": 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 بعنوان "هل تغير موقف مصر من المسألة العراقية؟" تحوي طروحات جديدة بالنظر والمتابعة. ولكن الأوروبيين، ومعهم بعض القوى الكبرى في الشرق الآسيوي، يقولون: لماذا نخلص أميركا من ورطتها في العراق، وفي مقابل ماذا؟ وهي التي أصرت على الانفراد ضمن "تحالفها" الدولي المحدود؟ وبيت القصيد سؤالهم: في مقابل ماذا؟ وإذا أرادت اميركا الخروج من ورطتها بالفعل، فإنها فرصة جديدة أمامها للعودة الى منطق الشرعية الدولية، كما فعلت بصبر ودأب في حرب تحرير الكويت، وكان وضعها "القانوني" الدولي أفضل بكثير مما هو عليه الآن وهي تحتل اليوم العراق بقضها وقضيضها. ولكن لكل شيء ثمنه. فإذا أرادت الولاياتالمتحدة دعماً فعلياً من القوى الأوروبية وغيرها من دول العالم، فلا بد من أن تتنازل عن احتكارها لبعض الامتيازات والمصالح البترولية. ولعل عقد المؤتمر الدولي المزمع في شأن العراق في هذا الوقت بالذات، أي بعد اتضاح من هو صاحب القرار في البيت الأبيض، من شأنه أن يمهد الطريق نحو هذا الامكان. إذا تمت مثل هذه "التسوية" أو الصفقة الدولية، فإن "الشرعية الدولية" الجديدة في شأن العراق، يمكن أن تتولد في ظلها شرعية داخلية عراقية بحيث تجرى الانتخابات تحت مظلة الاممالمتحدة، وذلك هو الاخراج الوحيد الممكن لجعل الانتخابات المنشودة تكتسب الصدقية اللازمة. من المؤكد ان اجراء الانتخابات العامة أمر ملح للغاية في بلد كالعراق. لكن التسرع في اجرائها في ظل الظروف القائمة، وباستخدام القوة العسكرية المفرطة، من شأنه أن ينقلب الى ضده كما أشار الى ذلك أخيراً الباحث السياسي العراقي د. غسان العطية في ندوة تلفزيونية. وظهرت مؤشرات على ان الانتخابات قد لا تجرى في كل أنحاء العراق، كما تبدو استحالة اجراء تعداد سكاني لا بد منه تمهيداً لهذه الانتخابات، كما يتم الاعتراف بذلك اميركياً وعراقياً. وحتى لو افترضنا، جدلاً، انها جرت في ظل القوة المفرطة، وكانت "نزيهة"، فإن كل من يخسر فيها من القوى المعارضة سيجد الحجة للطعن في شرعيتها والقول إنها جرت تحت حراب اميركا، وهكذا تتولد جذور الشقاق من جديد، ويعود العراق الى نقطة الصفر مرة أخرى. وبيانات "مقاطعة الانتخابات" من قوى عراقية من مختلف ألوان الطيف السياسي تزيد من هذه المخاوف. إذاً، فلا بديل عن الشرعية الدولية ومظلة الأممالمتحدة. ولكن هل هذا ما تريده اسرائيل وعصبة "المحافظين الجدد" النافذة في واشنطن؟ وفي سبيل نجاح ذلك علينا ألا نتصور ان قوات الشرعية الدولية اذا شاركت ستكون في مأمن من الهجمات، فعليها ان تأتي بأسنان قوية ولديها العزم على المواجهة ان لزم الأمر، فلا أحد يستطيع ان ينسى ان من أبرز الهجمات الارهابية الأولى في العراق كان تفجير مبنى الأممالمتحدة في بغداد، وقتل الكثيرين فيه وعلى رأسهم مندوب الأمين العام للمنظمة الدولية. وفي تقديرنا، فإن الدول العربية والدول المجاورة للعراق لن تستطيع مد يد العون له إلا بسعيها الى اقامة الشرعية الدولية والعمل من خلالها وصولاً الى "شرعية عراقية" لا تتهم بالعمالة للاميركيين. فهل هذا ممكن؟ أعلم أن أصواتاً عربية راديكالية "وفضائية" ستصرخ بانفعال ضد البديل الدولي أيضاً، من دون ان يكون لديها بديل غير الصراخ والحرب الصوتية مثلما رفضنا القرار الأممي في شأن فلسطين عام 1948 ونطالب بأقل منه اليوم. لكن العمل للشرعية الدولية نحو إعادة بناء الشرعية الوطنية للعراق هو الحل العملي الممكن، وليس الحل المثالي... القومي أو الوطني أو الاسلامي فالعجز مشترك... ومرغم أخاك، لا بطل!، وفي السياسة لا يوجد اختيار بين الأسوأ والأحسن، وانما بين الأسوأ والأقل سوءاً. وهو درس ابتدائي في ممارسة السياسة، ولكن ما قيمته لدى "جماهير" سيسها المتاجرون بمشاعرها حتى العظم؟ ولا بد من التنبه، اذا استمر المزايدون في المتاجرة بآلام الناس وخوفهم لأمد طويل، فإن من المحتمل جداً أن يقدموا حريتهم ثمناً لأمنهم فيحتموا بأية ديكتاتورية قادرة على منحهم الأمن سواء جاءت من الداخل أو من وراء الحدود أو مزيجاً من تحالف بينهما. وسيكون ذلك "عقاباً" لكل القوى المتفلتة اليوم والتي لم تعرف كيف تنتهز الفرصة لإقامة نظام سياسي متوافق عليه مع رفقاء الطريق وشركاء الوطن. كما جاء نظام صدام عقاباً مريراً للقوى التي قام نظامه على أنقاضها لأنها لم تحسن التوافق والشراكة في المصير. وبموازاة ذلك، الجيد المطلوب، اقليمياً ودولياً، فإن اجراء الانتخابات لمجرد اجرائها في العراق لن يكون الحل الناجع حتى لو تم تحت مظلة الأممالمتحدة... لأن التركيبة النيابية التي ستفرزها الانتخابات يمكن أن تتصدع وتنهار إذا لم تدعمها تركيبة متلاحمة من القوى السياسية الفاعلة على أرض العراق... وربما "تحت" أرضه! وفي تقديرنا، فإن ائتلافاً وطنياً محدد الأهداف، وإن تكن محدودة ومتواضعة، بين هذه القوى السياسية الفاعلة في العراق، يعتبر مطلباً لا مفر منه لإقامة وضع سياسي في العراق من أهل "الحل والعقد" بالمفهوم السياسي الشامل، قادر على ايقافه على رجليه، فليس بالانتخابات وحدها، ولا بصناديق الاقتراع تستقر الدول. وحتى في الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا وغيرها من "ديموقراطيات" العالم "الحر" الانتخابات وصناديق الاقتراع واجهات ومظاهر لتوافق القوى الفاعلة في الساحة اقتصادياً وإعلامياً وأمنياً، وبالتالي... سياسياً وانتخابياً! نعلم ليس هذا سهلاً... ولكن الأصعب منه الاستمرار وراء منطق أو لا منطق الصراع الدموي الأعمى إلى آخر مواطن عراقي. ولا بد من الاشادة في هذا الصدد، مراراً وتكراراً، بموقف آية الله العظمى علي السيستاني الذي يحمل فقهه النيّر بشارة التقدم السياسي ليس للعراق وحده. وهذا لا يعني الاقتصار في "الائتلاف" المنشود على القوى "المعارضة" للوضع الراهن. إن رجال الحكومة العراقية القائمة - من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة وأركانها - يظهرون من الشجاعة والرغبة في إعادة البناء، بواقعية، ما يؤهلهم اليوم ومستقبلاً للمشاركة في الائتلاف الوطني، على رغم اضطرارهم للتعامل مع واقع الاحتلال، فما حيلة المضطر إلا ركوبها وعلى الآخرين الذين يوزعون صكوك الخيانة، لا الغفران، أن يقتصدوا في ذلك. فشيء من الانصاف لا بد منه لمصلحة الأوطان. و"من لم يصانع في أمور كثيرة... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم" كما نبّه الشاعر الجاهلي قومه العرب منذ جاهليتهم...! وليس أسهل من تسجيل المواقف كلامياً... وليس أصعب من القدرة على التضحية من أجلها فعلاً، "وكبر مقتاً عن الله أن تقولوا ما لا تفعلون". وعبر تاريخ الاستقلال الوطني في مختلف البلاد العربية، كان رجال الاستقلال يضطرون للتعامل مع واقع الاستعمار والانتداب في سبيل الهدف الوطني، ولا بد من "تكبير العقل" لاستيعاب مختلف عناصر الصف الوطني وألوانه. واضطرار وطني مثل سعد زغلول زعيم الوفد وحركة الاستقلال في مصر إلى التعامل مع سلطة الاحتلال البريطاني لم يدخله في زمرة "الخونة" وان حاول البعض الايحاء بذلك في حينه لاعتبارات الصراع السياسي. من لا يستفيد من أخطاء تاريخه مكتوب عليه تكرارها... وقد حان الوقت، بل تأخر، للاتعاظ بتجارب الواقع المر ودروسه. ثمة خيار مشرف واحد لا غير: عراق متحد قائم على التعايش الحر دستورياً وديموقراطياً... ليس فقط بعد تجاوز إرث النظام السابق، بل إرث التاريخ الاقتتالي كله! ... ليس - فقط - في العراق، وإنما في أوطان العرب كافة... هكذا يقف المؤتمر الدولي في شأن العراق في منعطف ليس باليسير: بين أن يكون مؤتمراً تجميلياً أو انجازاً تاريخياً... ولعل استضافته في مصر، برعايتها، يعيد لدورها في المنطقة وللدور العربي بعامة، التأثير الطبيعي الذي لا بد للعرب بمبادرة مصر، من أن يمارسوه نحو بلد عربي لا يمكن التخلي عن مكانته في المنطقة العربية وفي الوجدان العربي، بل في صميم الكيان العربي ذاته... وتلك هي "الرسالة" العربية التي ينبغي أن تصل للمشاركين كافة في المؤتمر الدولي في شأن العراق، وهي بالتأكيد رسالة ايجابية لإعادة بنائه... * مفكر بحريني.