يشهد عالمنا المعاصر تحولات سريعة الخطى في الميدان الاقتصادي، في ظل العولمة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول النامية المتخلفة والعالم العربي بالطبع منها، هذه العولمة التي فرضها النظام الاقتصادي العالمي هدفها تأسيس المجتمع الإنساني على نظرية تضمن للأقلية من سكان العالم حوالى 20 في المئة الثراء وضمان العمل وتأمين حياة مترفة بعيدة كل البعد عن الفقر والعوز، أما الغالبية المطلقة من سكان هذا الكوكب الأرضي فنصيبهم الفتات، بل إن بعض منظري العولمة يرون أن هذا الفتات يعتبر كثيراً عليهم. وتحت جناح الرأسمالية ظهر الفساد الإداري والمالي من رشاوى وعمولات واحتكار للسلع بكل أنواعها للبعض في الوظائف تطبيقاً للمحسوبية... الخ، ولا يعني ذلك احتكار الفساد في ذلك المجتمع، فهو ظاهرة كالحة بارزة للعيان في كل المجتمعات، ومنها الدول العربية التي غزاها الفساد كالجراد عندما تهب ريحه على كل أخضر من الشجر فتدمره تدميراً. لكن الفساد العولمي يظهر دخانه في تلك الدول المتقدمة في معظم الأحوال سريعاً فتطفأ ناره وتستأصل رؤوسه، وأمثلة كثيرة قرأنا عنها وشاهدناها عبر وسائل الإعلام، وأطاحت برؤوس عدة، وآخرها ولن يكون الأخير أحد أعمدة الإعلام في الغرب، والحملة الصينية أخيراً على بعض متلقي الرشاوى والهدايا، والسبب تطبيق أساليب قاسية وقانونية دقيقة مدعومة برقابة الإعلام والرأي العام... الخ، وتطبيق دول الغرب والشرق لقوانينها وقرارات الأممالمتحدة لمكافحة الفساد بكل أنواعه. وفي الدول العربية أصبح الفساد متفشياً لدرجة جعلته يمثل أخطر القضايا التي تهدد اقتصادياتها، فهو ينخر في جسد الاقتصاد والإدارة، ويتأثر بسببه إيقاع حركتهما، وتتعثر عملية بناء الاقتصاد والتنمية في كل وجوهها وعلى كل الأصعدة والميادين، ويتعدى ضرره الفادح إلى التأثير المباشر على الحياة الاجتماعية والثقافية... الخ، ولم نسمع شيئاً يكاد يسجل في متابعة رؤوس الفساد باستثناء ما تنشره بعض الصحف على استحياء. والفساد والرشوة والمحسوبية تبدأ عندما تغلب مصالح بعض الأشخاص على مصالح الأمة، ولذا تحوّل الفساد إلى قضية تهدد مناحي الحياة، على رغم ان الجرح ما زال بالإمكان استئصاله إذا وضع المبضع بالشكل السليم لاستئصال المرتشين، الذين يعطّلون مصالح الناس ويستولون على المال العام ويكابرون بالثراء الذي لم يأت من عرق جبينهم، وإنما تحت برد المكيفات واستغلال النفوذ وتعطيل مصالح الناس، وتحويل بعض الأجهزة إلى مطية لهم لارتكاب مفاسدهم المالية والإدارية. الفساد تزايدت خطورته بعد ان عشش في الجهات الإدارية والمالية وبعض شركات وهيئات القطاع العام والشركات المساهمة التي تساهم بها الدول، وفشلت أدوات الرقابة المالية والإدارية والقضائية، بل والسياسية في الحد من الفساد الذي أصبح متغلغلاً كالسوس في جسم تلك الجهات الضعيفة أصلاً ببعدها عن التنظيم الإداري والمالي الحديث، فاتسع المجال الذي تبرز فيه الرشاوى، والاستيلاء على المال العام من خلال عقد الصفقات والمشتريات والعقود الضخمة والمتوسطة والصغيرة، مغلفة بأبشع مظاهر استغلال النفوذ والسلطة من قبل فئة غلّبت مصالحها بشكل بشع على مصالح الدول والجماعات والأفراد، فمثلت تلك الفئة الفاسدة خطراً لا يستهان به على المال العام والاقتصاد والتنمية والتطوير ومصالح البلاد والعباد. إذاً الفساد بكل أشكاله إذا استشرى - وهو كذلك - في كل ربوع العالم العربي للأسف فنتيجته الحتمية الإسهام الفاعل في القضاء على أجهزة الإدارة بكل مؤسساتها وهيئاتها وفروعها، بل يتعدى خطره القاتل إلى تقويض قواعد المجتمعات بل الأوطان، لأن الفساد الذي يدير دفته المفسدون يعصف بالنمو الاقتصادي، ويحد من التنمية، وينشر الظلم، ويزيد من آفة الفقر، ويشعر هنا المواطنون بالضيم من فئة قليلة استغلت سلطاتها للاستيلاء على المال العام، وفئة أخرى أصغر منها سهل لها رؤساؤها الفاسدون ركوب صهوة الرشوة والمحسوبية. وبذا يتعاون الفاسدون الكبار والصغار على نهب المال العام وتعطيل مصالح المواطنين في هذا العالم العربي، الذي وصل تعداد سكانه إلى حوالى 300 مليون نسمة، لكنه يحوي بين جنباته أكثر من 75 مليون إنسان تحت خط الفقر، بل إن 76 في المئة من الشعب الفلسطيني المناضل هم فقراء معدمون، ناهيك عن أن أكثر من 10 ملايين عربي يعانون من سوء التغذية، وحوالى 46 في المئة ضحية الأمية! فساد بعض الكبار الذين بحكم موقعهم الوظيفي يملكون سلطة واسعة في اتخاذ القرار والتحايل على القوانين واللوائح، بلغ حد البذخ غير المحدود في الصرف من الأموال التي استولوا عليها من القطاع العام وما يتبعه من هيئات ومؤسسات وشركات، حتى إن القاصي والداني يعرف ويشاهد هذا الفساد المنظم! ويأتي فساد بعض الصغار في السلم الإداري ليستولي على الفتات على حساب المواطنين الغلابة ليصبحوا أغنياء ومن وجهاء المجتمع في فترات زمنية قصيرة، بعد أن أصبحوا وحوشاً مفترسة متسلحة بالرشوة والاختلاس، فبالأمس كان هؤلاء الصغار يعانون من عسر الحال، وبقدرة قادر ترفع الدراهم رؤوسها، فالمنازل والسيارات الفارهة والأرصدة المتناثرة في البنوك والأراضي المتعددة وغيرها... وغيرها! هؤلاء الحيتان من بعض القادة الإداريين الذين استغلوا نفوذهم أسوأ استغلال، وبعض صغار الموظفين الذين دفع بهم الطمع والجشع إلى قبول الرشوة لأداء أعمالهم لخدمة المواطنين، التي هي أصلاً من صلب واجباتهم الوظيفية، يدركون أنهم داسوا على القوانين ولوائحها، وأنهم خانوا الضمير والوطن والأمانة، وقبل كل شيء الدين، فالأمة تحكمها العقيدة الخالدة، وتتمتع بقيم أخلاقية تستند على تلك العقيدة، ومثل هؤلاء الفاسدين المندسين بين ثنايا المجتمع بعيدون كل البعد عن هذه المثل الخلاقة. هؤلاء - وهم قلة في المجتمع - يعرفون أن الأمانة تعني في ما تعني ألا يستغل الموظف وظيفته لأي غرض لمنفعة شخصية أو لقريب أو صديق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من استعملناه على عمل ورزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول"رواه أبو داود لكن وازعهم الديني الضعيف لم يقف رادعاً لهم، وواجب الأمانة يقتضي من كبار الموظفين وصغارهم أن يترفعوا عن الدنايا والرشاوى والهدايا، وقد نهى الله عنها في قوله تعالى"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون"البقرة 188. وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش، والراشي هو الذي يقدم الرشوة، والمرتشي هو الذي يتقبلها، أما الرائش فهو الذي يسعى بين المقدم للرشوة ومتقبلها، واللعنة هنا جاءت في مكانها لمن يقبل على نفسه أن يأكل حق الغير من دون حق، أو يأخذ مالاً أو غيره عن طريق الرشوة، وينطبق ذلك على الراشي والرائش. ولعل البعض يعتبر الرشوة من باب الهدية تلطيفاً مصطنعاً لهذا الجرم الكبير، وهذه المسألة الخطيرة التي تبرز الاستغلال والفساد الوظيفي نجد إجابتها واضحة بشكل لا غبار عليه عندما جاء رجل من الارد يقال له ابن اللتبية، وهو أحد عمال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان والياً حصل على بعض المال خلال ولايته، وعندما قدم قال:"هذا لكم وهذا أهدي إلي"، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيته فينتظر أيهدى إليه أم لا؟"أخرجه البخاري في صحيحه. والفاسدون يعتقدون أن ما يجري في الخفاء بعيداً عن الناس والرأي العام، لكنهم كاذبون، فأفعالهم معروفة لدى الكثيرين، وكم من نفوس متأثرة بل ومنكسرة من الفقراء والمساكين الذين يرون بأم أعينهم الأموال وهي تنهب والحقوق وهي تضيع، والمعاملات تتوقف، والوظائف تعطى لغير مستحقيها، والمستحقات لا تصرف والابتزاز لا ينتهي، يرى هؤلاء الغلابة كل هذه المفاسد وليس بيدهم فعل شيء سوى الدعاء عليهم! الفساد بهذا الوصف المبسط لا يترك أثره على المواطنين وتحطيم أجهزة الدولة، بل يتعدى إذا استشرى وهو بالفعل كذلك إلى الدول نفسها، فقراءة التاريخ السياسي تؤكد أن الفساد هو معول رئيسي في تهديد الدول وأنظمتها، ومن واجب الجميع حكاماً ومحكومين علماء وأصحاب فكر ومسؤولين في المجتمع التصدي لهذا المرض الخطير، لأن الفساد ينافي العدل والأمانة والمساواة والإنصاف والأخلاق. وعلى طريق الحد من تلك الظاهرة الشنيعة التي تعد أهم عوائق الاقتصاد والتنمية والبناء والتطوير في العالم العربي، ضرورة التركيز على غرس الوازع الديني والسلوك الأخلاقي الذي هو عنوان المواطن الصالح، واختيار القائد الإداري والموظف المناسب في المكان المناسب، بناء على صلاح المعتقد وسلامة المنهج والقيم الروحية والأخلاقية والفضيلة والأمانة والمؤهلات والخبرة والكفاءة والجدارة، بعيداً عن الأغراض والعواطف الشخصية والمحسوبية. والمظلومون والمقهورون ممن دفعوا أو سقطوا ضحايا للفساد، فعليهم قول"لا حول ولا قوة إلا بالله". * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية.