انتهت الانتخابات البرلمانية التركية، لكن النقاش الدائر حول نتائجها لم ينته بعد، وبين مغرد بنتيجتها وعازف عن المشاركة في تحليل أبعادها، تكاد المعاني والدلالات العميقة لهذه الانتخابات أن تتوارى لمصلحة التوظيف السياسي السطحي لنتيجتها. حصل حزب"العدالة والتنمية"على 340 مقعداً في البرلمان التركي الجديد، وهي أقل من المقاعد التي شغلها في البرلمان السابق وعددها 367 مقعداً. وبسبب مواد الدستور التركي، التي تمنع الأحزاب من التمثيل بالبرلمان إذا لم تتمكن من تخطي حاجز العشرة في المئة من الأصوات، وتوزع أصواتها الانتخابية على الأحزاب الفائزة. ولأن الانتخابات السابقة شهدت تمثيل حزبين اثنين فقط في البرلمان، فقد حصل حزب"العدالة والتنمية"على مقاعد إضافية. طبقاً للنتائج الرسمية سيخسر الحزب سبعة وعشرين مقعداً في البرلمان الجديد، على رغم فوزه الكبير، ناهيك عن أن هذه النتيجة لن تمكنه من الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعداً. وهي النسبة التي كانت ستمكنه منفرداً من فرض النصاب القانوني على جلسات البرلمان"بل تعديل مواد الدستور، وتجعل منه"كاسحة"بالمعنى السياسي والدستوري. يتمثل المعنى الخافي على التحليلات الموظفة سياسياً في نوعية أو عدد الاستقطابات التي سيشهدها البرلمان التركي، إذ تتشكل الآن خمسة استقطابات وليس استقطاباً واحداً كما في البرلمان السابق. وإذ يستمر الاستقطاب بين"العلمانيين"ممثلين بحزب"الشعب الجمهوري"121 مقعداً، وپ"الإسلاميين"ممثلين بحزب"العدالة والتنمية"في البرلمان الجديد، يشكل فوز المرشحين المستقلين من الأكراد حوالى 24 مقعداً من مقاعد المستقلين استقطاباً قومياً بين الأحزاب التركية من ناحية، والنواب الأكراد من ناحية أخرى. وينشأ الاستقطاب الثالث عن عودة حزب"الحركة القومية"اليميني إلى البرلمان التركي الجديد برصيد 71 مقعداً، إذ سيضغط - بمنطق الأمور - على حكومة أردوغان للتدخل في دول الجوار وفقاً لأجندة قومية متشددة. ومن المحتمل أيضاً أن يعرقل حزب"الحركة القومية"الإصلاحات السياسية الداخلية وفق أجندة الاتحاد الأوروبي، ومن شأن الضغط والعرقلة أن ينتجا استقطاباً من نوع جديد، وهو استقطاب بين"المعتدلين"من نواب كل الأحزاب والتيارات، في مقابل"المتشددين"من حزب"الحركة القومية". ويقوم الاستقطاب الرابع على التناقض بين مؤيدي المؤسسة العسكرية حزب"الشعب الجمهوري"وحزب"الحركة القومية"، في مقابل نواب حزب"العدالة والتنمية"والنواب الأكراد. والاستقطاب الأخير والأهم الذي ينشأ عن نتيجة الانتخابات هو الاستقطاب بين اليمين واليسار"أي بين حزب"العدالة والتنمية"وحزب"الحركة القومية"ممثلين لليمين من جهة، والنواب الأكراد الميالين تاريخياً إلى اليسار، ومعهم بعض نواب حزب"اليسار الديموقراطي"الداخلين في كتلة حزب"الشعب الجمهوري"، ممثلين لليسار من جهة ثانية. ربما يكون الاستقطاب الأخير هو الأهم من بين نتائج الانتخابات، لأنه كان غائباً عن البرلمان التركي لدورات كثيرة، بحيث أصبحت مروحة المقارعات السياسية دائرة حول اليمين ويمين الوسط والوسط ويسار الوسط. ولا يخفى أن النسبة الكبيرة من أصوات حزب"العدالة والتنمية"تتحدر في الأساس من مروحة اليمين ويمين الوسط"الذي يعتبر الخاسر الأكبر في انتخابات البرلمان التركي الأخيرة. والدليل الأبرز على ذلك عدم تمكن الحزبين الشهيرين"الوطن الأم"وپ"الطريق القويم"، اللذين صبغا الحياة السياسية التركية طوال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بانحيازاتهما السياسية والاجتماعية، من تخطي حاجز العشرة في المئة من الأصوات اللازمة للتمثيل في البرلمان. لم يعد البرلمان التركي مستقطباً على خلفية واحدة، بل على خلفيات عدة، وهي نتيجة مهمة لتركيا ودول المنطقة ونخبها السياسية على اختلاف ميولها الفكرية والعقائدية. ومن شأن هذه الحيوية الجديدة أن تسحب المبادرة من يد حزب العدالة والتنمية على رغم فوزه الانتخابي الكبير -، وأن تخفف من غلواء الاستقطاب الإسلامي - العلماني، بسبب الاستقطابات الأخرى الممثلة في البرلمان الجديد. وهكذا يمكن اعتبار الفوز الانتخابي الكبير لحزب"العدالة والتنمية"بمثابة"هزيمة كاسحة"للأحزاب اليمينية التقليدية، ونجاح كبير للبرنامج الانتخابي الذي يمثله حزب"العدالة والتنمية"في احتكار تمثيل اليمين ومصالح النخبة الاقتصادية التركية في البرلمان الجديد. تجلت البراعة السياسية لحزب"العدالة والتنمية"في دمج الشرائح المليونية المهمشة في المدن التركية الكبرى إسطنبول وإزمير وأنقره، والمتحدرة من شرق تركيا وجنوبها - أردوغان نفسه مثالها الحي -، مع مصالح جمعيات رجال الأعمال والبازار التركي. وهما تناقضان نجح أردوغان وحزبه - حتى الآن - في دمجهما معاً. وفي هذا المعنى يشكل حزب"العدالة والتنمية"تسوية تركية شديدة الخصوصية، تعطي النَفَس الإسلامي المتمسك بالجذور الثقافية والدينية لمهمشي المدن الكبرى، هؤلاء الذين يشكلون الوعاء الانتخابي الأوسع للحزب. وفي المقابل يحول الحزب دون انتقال هذا النَفَس إلى تغيير في منطلقات الجمهورية الكمالية وأسسها، حرصاً على مصالح النخبة الاقتصادية الداعمة له. ولذلك فالتوصيف الأدق لحزب"العدالة والتنمية"هو الحزب اليميني المحافظ بكل ما تعنيه الكلمة سياسياً وتركياً، والذي يؤمن عبر"توليفته الأردوغانية"للشرائح التركية العليا مصالحها، عبر استقرار سياسي واقتصادي لم تشهد تركيا مثيلاً له منذ سنوات. والشرط الأساس لتأمين هذه المصالح بناء حزب اليمين الكلاسيكي المتصالح مع الميول الثقافية والقومية للأتراك والمتشح بإيحاءات إسلامية"من دون أن يتجاوز هذا التصالح حدوده المرسومة. ويسمح التصعيد المحسوب على محور الاستقطاب الإسلامي - العلماني بحشد هذه الشرائح المليونية المهمشة خلف حزب"العدالة والتنمية""لتثبيت مواقعه في المشهد السياسي التركي. ويجسد حزب"العدالة والتنمية"تمييعاً للاستقطاب الحقيقي في المجتمعات، نعني الاستقطاب الطبيعي بين"اليمين واليسار"، ويدمج هذا التمييع في عناصره الخصوصيات التركية المحددة، من دون أن يستطيع حسم خياراته لمصلحة قاعدته الشعبية. وبالتوازي مع ذلك تساهم"الأحزاب العلمانية"في استمرار نجاحات"الحل التوفيقي"الذي يقتات منه حزب"العدالة والتنمية". ومرد ذلك أن هذه الأحزاب قد وضعت، بأدائها السياسي الرث، العلمانية في مقابل الدين، وما الاعتراضات على ترشيح عبدالله غل لرئاسة الجمهورية، بسبب معلن هو حجاب زوجته، إلا المثال الأسطع على ذلك. لم تعد العلمانية علمانية في تركيا، من حيث هي فلسفة فصل الدين عن الدولة وكفالة حقوق المواطنة والحريات المدنية، بل صارت"ديناً"بامتياز، وهو ما يحشد مهمشي المدن التركية وساكني الأناضول وراء حزب"العدالة والتنمية"في مواجهته الصورية المحدودة مع"الدين العلماني الجديد". وما يميز حزب أردوغان في المواجهة السالف ذكرها مقارنة مع الأحزاب التي قادها نجم الدين أربكان، هو بالتحديد"التوليفة السياسية"التي يقوم عليها. وهذه التوليفة تستمد عناصرها الأساسية من تحالفاته الداخلية المتماهية مع مصالح النخبة الاقتصادية التركية النافذة، وتحالفاته الخارجية مع إدارة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة الأميركية، وإسرائيل. ويؤمن الانخراط المتراوح في شؤون المنطقة على قياس مصالحهما، للحزب ستاراً دولياً واقياً من هجمات خصومه في المؤسسة العسكرية التركية وپ"الأحزاب العلمانية". في حين تضمن القاعدة الشعبية، المهمشة والمستنفرة في المواجهة الصورية على محور الإسلاميين -العلمانيين، نسبة كبيرة من الأصوات الانتخابية. لكن هذه التحالفات الداخلية والخارجية، على فاعليتها البراغماتية، تفرغ حزب"العدالة والتنمية"التركي من أي مضمون تقدمي وديموقراطي حقيقي. وهكذا ينهض"انتصار"حزب"العدالة والتنمية"وكيلاً عن انتهازية سياسية قلّ نظيرها، بحيث يشبه الاثنان: النتيجة وپ"التوليفة"التي أدت إليها، الفاكهة المعدلة وراثياً ... ضخامة الحجم لا تستطيع أن تغطي على غياب النكهة. * كاتب مصري - خبير في الشؤون الإيرانية والتركية