يكشف كتاب "صنعة الشعر" للأرجنتيني خورخي لويس بورخيس 1899 - 1986 عن الوجوه المتعددة لهذا الكاتب الفريد الذي ترك أبلغ البصمات في الثقافة العالمية المعاصرة. فإلى الشعر والقصة القصيرة اللذين برع بورخيس في كتابتهما بدت عبقريته الفكرية والنقدية موازية لإبداعة الأدبي. وقد يكون للعمى الذي أصيب به صاحب"كتاب الرمل"في وقت مبكر من حياته الأثر في انكفاء بصره الى الداخل وفي قدرته الفائقة على الحفظ والتذكر وهضم الثقافات المتنوعة واستيعابها. واذ كان الشفوي عنده موازياً للمكتوب في تسلسله واتساقه فإن قارئ"صنعة الشعر"لا ينتبه على الاطلاق الى كون المادة المقروءة ليست سوى محاضرات حول الشعر كان بورخيس قدمها ارتجالاً في احدى الجامعات الأميركية في الستينات من القرن الماضي. في محاضرته الأولى"لغز الشعر"يذهب بورخيس مع القس بيركلي، الذي تنبأ بعظمة أميركا، الى ان طعم التفاحة لا يكمن في التفاحة نفسها ولا في الفم الذي يأكلها بل في التواصل بين الاثنين. والأمر نفسه يحدث مع الكتاب الذي لا يعدو كونه مجموعة رموز ميتة. وعندما يأتي القارئ المناسب تظهر الكلمات الى الحياة ويظهر الشعر الذي تخبئه الكلمات كما لو أنه ابتعاث مفاجئ للعالم. لكن ما يفاجئ عند بورخيس هو ايلاؤه الأولوية القصوى للقراءة الأولى التي توفر دون سواها الانطباع الحقيقي عن الشعر. وهو انطباع متصل بالحماسة والمتعة والعاطفة الصافية. وما لم يشعر القارئ بالتفاعل الصادق وپ"البريء"مع النص فإنه يحاول عبثاً خداع نفسه في ما بعد للحصول على ما لم يستطع تحصيله في البداية. ومع ذلك، ودفعاً لأي شكوك، يحرص الكاتب على التوضيح بأن الشرارة التي تحدث في القراءة الأولى لا تؤول الى زوال بل تمكن استعادتها في كل قراءةٍ جديدة بحيث يمكن القول"ان الشعر هو في كل مرة تجربة جديدة. وكل مرة نقرأ فيها قصيدة ما تحدث التجربة. وهذا هو الشعر". ومع ذلك فإن الشعر في رأي بورخيس عصي على التعريف. فكل قصيدة جميلة هي برهان عليه ولكنها لا تفلح في قيادتنا الى تعريفه. ونحن عاجزون عن هذا التعريف مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة أو اللون الأصفر أو معنى الحب أو الغضب. أما تعريف من نوع"الشعر هو التعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنية"فلا يصلح إلا في المعاجم أو الكتب التعليمية. ولا يرى بورخيس في هذا السياق أفضل من قول القديس أوغسطين"ما هو الزمن؟ اذا لم تسألوني ما هو فإنني أعرفه. واذا ما سألتموني ما هو فإنني لا أعرفه". والحال نفسه ينطبق في رأيه على الشعر. يتوقف بورخيس في محاضرته الثانية عند"الاستعارة"عند أولى الاستعارات التي يحفظها عن الصينيين وهي اطلاقهم على العالم تسمية"العشرة آلاف شيء"كتعبير عن الكثرة الرمزية التي يتولد عن احتكاك بعضها ببعض وجوهاً كثيرة للحياة والموت. ولكنه اذ يرى آلافاً مماثلة من الاستعارات التي يستخدمها الشعراء في قصائدهم يميل الى الاعتقاد بأن كل هذه الاستعارات الفضفاضة يمكن اختصارها باثنتي عشرة استعارة على الأكثر، مقدماً أدلة وشواهد كثيرة للبرهنة على ذلك. ومن بين الاستعارات التي ينحاز لها قول أفلاطون لحبيبته"أرغب في أن أكون الليل/ لأرى نومك بألف عين"، وقول تشيسترتون"لكنني لن أهرم الى أن أرى الليل الهائل/ سحابة أضخم من العالم/ ومسخاً مكوّناً من عيون"، وقول ستيفنسون عن احدى الفتيات بأنها"حيوان بلون الأزهار"محاولاً أن يشرح الأسباب التي تدفعه للانحياز الى مثل هذا النوع من الاستعارات. في محاضرته الثالثة"فن حكاية القصص"يفاجئنا بورخيس كعادته في انحيازه الى الفن الملحمي الذي يرى فيه وجهاً من وجوه الجمع بين الشعر والحكاية. فالقدماء في رأيه عندما كانوا يتكلمون عن شاعرٍ ما لا يعتبرونه مجرد ناظم للكلمات مشبع بروح الموسيقى بل يرون فيه راوية حكايات يمكن أن نجد فيها كل أصوات البشرية وهو ما تمثله بعمق الملاحم الشعرية الكبرى كالألياذة والأوديسة اضافة الى الأناجيل التي هي"نوع من الملحمة الإلهية". وفي هذا الاطار ينحاز بورخيس للقصة القصيرة التي يرى فيها نزوعاً الى التكثيف وسرد الوقائع والأحداث بشكل متقن ومشوق بخلاف الرواية التي يرى فيها فناً قائماً على الإطالة السقيمة والتكرار الممل ويتنبأ لها بالزوال السريع، خلافاً لمعظم النقاد من مجايليه، كما ويتنبأ بعودة الفن الملحمي الى الازدهار. أما محاضرته الرابعة فيخصصها للترجمة وموسيقى الكلمات محاولاً أن يعقد مقارنات مختلفة بين مدارسها وطرائقها المتباينة موضحاً أن بعض الترجمات يفوق النص الأصلي جمالاً وقوة تأثير. في مسألة"الفكر والشعر"يميز بورخيس بين البحث العلمي أو المقالة وصولاً الى الرواية التي يمكن اختصارها وتحويلها الى حوادث قابلة للإيجاز وبين الشعر الذي لا يمكن شرحه أو اختزاله أو تقديم موجز سردي عما يتضمنه. وهو يرى أن اللغة الشعرية ذات منشأ سحري. ولأنها كذلك فإن الشاعر يعمل على اعادة اللغة الى ينبوعها الأصلي خلافاً لما يفعله الباحثون والعلماء. واللغة عنده ليست من اختراع الأكاديميين والمناطقة بل من اختراع الفلاحين والفرسان وصيادي الأسماك، وهي"لم تنبثق من المكتبات وانما من الحقول والبحار والأنهار". كما يميز بورخيس بين المعنى العقلي والمعنى التخييلي أو الجمالي حيث إن الأخير هو الذي يسمح لنا بالاستمتاع بالقصيدة من دون أن يكون لها معنى واضح ومباشر. وفي محاضرته الأخيرة"معتقد الشاعر"يعود بورخيس لتسليط الضوء على تجربته في الكتابة موضحاً أن الكسل وحده هو الذي يمنعه من كتابة الرواية ومؤكداً مرة أخرى كون الشعر يتجاوز كل معتقد أو فكرة مسبقة أو تعريف. انه يرى في الوعي والتصميم المسبقين افساداً للكتابة التي لا تحتاج الى شيء قدر حاجتها الى الانبثاق التلقائي والاخلاص للمخيلة وارتياد الأحلام.