تحاط الوثائق الدينية أو ما يصطلح عليه بالنصوص الدينية - سواء النصوص التي خلَّفها المؤسس أو التي وَثَّقت ما صدر عنه من قول وفعل - بكثير من التبجيل وآداب التقديس، فلا تُتداوَل أو تُقرأ أو تُفسَّر كنصوص بشرية، بل يُنظرُ إليها، سواء في مصدرها أو حقيقتها أو نظام إشاراتها أو حقل معناها، كشيء استثنائي ومتعالٍ وجزء من ترتيب إلهي شامل للكون. بل يتسع الاهتمام بتلك النصوص لما هو أوسع من مضمونها ومعنى كلماتها، إلى الاحتفاء بوجود ألفاظها الخارجية، الشفاهية منها والكتابية، والاعتقاد بتأثير تلاوتها على سير الحدث الكوني ومجريات الحياة والتفاعل البشريين، والثقة الراسخة بخرق العادة جراء تجميع النصوص الدينية أو التلفظ بها بطريقة مخصوصة. وقد حظي القرآن في الإسلام بعناية طقوسية واهتمام أدبي وفلسفي ولغوي، تثبيتاً لعلو مكانته وتأكيداً لإعجازه. ونُسج تراث كامل حول القرآن، لجهة ألوهية مصدره وظروف تدوينه وحفظه وشروط قراءته وفهمه وأسس قواعده الضابطة لدلالاته ومعانيه، مع التوغل في وجوه إعجازه وامتناع أن يكون من صنع بشر مهما قويت قريحتهم واشتدت ملكة الكشف لديهم. بل يكاد تأسيس علوم اللغة العربية، من نحو ومعاجم وبلاغة، والذي تأخر زماناً عن تدوين القرآن، يقوم لغرض العناية بالقرآن، والحرص على إزالة اللحن في تلاوته وتبديد الخلل في فهم أو استنباط معانيه. ولعل ذروة التقعيد في البلاغة العربية، التي عنيت بشروط ووجوه إنتاج الخطاب أو فهمه، لم تكن لتحصل لولا دوافع إظهار وجوه البيان القرآني وإبداعات النظم والسبك فيه، ليتحصل معها الوعي ويترسخ بانتفاء القدرة البشرية على الإتيان بمثله أو حتى بما يشبهه. خصوصية النص القرآني والعناية الفائقة به، والبناء على علو مصدره وعجز البشر عن الإتيان بمثله، يستدعي التعامل مع القرآن، سواء في لغته أو نظمه أو نظام دلالاته، بطريقة تختلف عن التعامل مع أي نص آخر، إذ إن استثنائية النص تتطلب هندسة معرفية وآليات فهم وتقنيات قراءة استثنائية أيضاً، تتناسب مع سنخ النص. بعبارة أخرى، تعالي النص ولا بشريته، سواء على مستوى المصدر أو الطبيعة أو التكوين والبنية، يستدعيان منهجية أخرى تختلف عن الآليات والمنهجيات المتبعة في فهم وقراءة وإدراك المعاني والمقاصد في النصوص البشرية بكل مستوياتها وتصنيفاتها، نثرية كانت أو شعرية، خبرية أو إنشائية، منطقية أو اسطورية، واقعية أو خيالية. ولو سلَّمنا مع العالِم اللغوي سايبر بأن"اللغة ليست أداة ولا محتوى وحسب بل هي القالب الذي تُفَصَّل المعرفةُ على اساسه، والجماعة التي تفكر داخل لغة معينة وتتكلم بها، تكون تعمل على تنظيم تجربتها عبر تلك اللغة وعلى صنع عالمها وواقعها الإجتماعي". فإن مقتضى كلام سايبر يعني، أن العبارات والجمل في القرآن ليست حاملاً آلياً للمعنى والفكرة، بل هي مُعبِّر عن نمط تفكير وإنتاج للمعنى. فالنظم اللغوي ليس فقط آلة للمعنى والفكر بل هو ناظم له ومتحكم في مساراته وضابط لتمظهراته. وبتعبير الهرمنوطيقيين المعاصرين أمثال مارشال مكلوهام:"الوسيلة هي الرسالة نفسها"، وأمثال دايفيد جاسبر:"ما تريد قوله ليس في القول فقط بل في الطريقة التي تقوله بها". وعليه فإن خصوصية النص القرآني ليست فقط في المعنى المستقى منه أو في الصور البيانية التي جهد العرب في وضع قوانينها واكتشاف محتملاتها في النص القرآني، بل هي أيضاً في نظام اللغة الذي يتحكم في إنتاج النص القرآني نفسه ويحدد الطريقة التي يوصل الله بها معناه ومقصده، بل ويرسم الكيفية التي ينتج أو يخلق الله فيها المعنى لنفسه ويوصله إلى غيره. معرفة اللغة تلك لا تقتصر على معرفة طريقة إنتاج الخطاب، بل يتعداها إلى الإجراءات العقلية والفنية في فهم الخطاب، وكل منهما، أي معرفة قواعد إنتاج الخطاب وقواعد فهمه، يوصلان إلى بعضهما البعض، إذ ان فهم الخطاب لا يستقيم إلا بالاطلاع على قواعد إنتاجه، ومعرفة آليات إنتاج الخطاب هي عين فهم مراد الخطاب ومقصده. لا اعتيادية اللغة الدينية تتأكد حين نعلم أن التصورات الدينية ذاتها لا تحتكم الى قواعد عقلية ومنطقية، بل يقبع الكثير من انفعالاتها واختباراتها وصورها في منطقة لا مكان فيها لعلاقات السببية والتعليل المنطقيين التي تنطبق كما يقول إيمانويل كانط في ميدان العالم الفيزيائي الحسي ولا يمكن تطبيقها على الحقائق المتعالية. يقول كانط:"نحن حين نستعمل لغة غير مرتبطة مباشرة بالتجارب الحسية، نكون نتعامل مع أفكار تخمينية Speculative ولا يمكن اعتبارها معرفة عقلية". بعبارة أخرى، تؤدي اللغة المتداولة بيننا وظيفتها بالكامل حين نستعملها للتعبير عن تجاربنا وتصوراتنا الحسية والاجتماعية، فذلك أساس تكوينها، أما حين ننقل التعبير إلى ميدان تعبير وراء التجربة الحسية والاجتماعية، كأن نتكلم عن الله وعن تجربة الاتصال به وحالة الاختبار الذاتي له، فإن اللغة المتداولة لا تعود مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة، بل لا بد من ابتكار نظام تعبير آخر في التلقي والإيصال والاتصال، ومن ممارسة انتهاك لأساليب التعبير المألوفة بتعبير بول ريكور. كان شليرماخر أول من أثار الأبعاد اللاعقلية للدين، حيث اقترح في كتابه"حول الدين"، بأن الدين لا ينبع من قدراتنا العقلية ولكن من اختبارات الكائن المحدود في مواجهته لمحدوديته وهشاشة وجوده. كما أن فكرة المقدس عند رودلف أوتو، وسَّعت من المدى اللاعقلي للتصور الديني وبالتالي للغة الدينية، حيث وصف أوتو المقدس في كتابه"فكرة المقدس"الغامض المدهش Mysterium Tremendum بالذي لا ندركه بعقولنا بل بأحاسيس روحية تثير فينا أحاسيس الرعشة ومشاعر النشوة، وهي تجارب صافية لا يمكن التعبير عنها بلغة اعتيادية، بل الطريق إلى إيصالها وتوصيلها هو الإشارة أو الرمز، يقول أوتو:"مع التجربة مع المقدس Numnous والوعي بالآخر الكليWholly Other، تهرب العبارات اللغوية، ويكون السبيل الوحيد هو التعبير بعبارات رمزية ذات طبيعة مفارقة وغير منطقية". هذا يستدعي النظر في اللغة الدينية، لغة الوحي بالتحديد، لجهة تكوين النص الديني وبنيته، ولجهة القواعد والمبادئ التي يجري على أساسها تركيب الجمل والعبارات والخطاب وكامل النص. ولعل السؤال المحوري في البحث يكون حول ما إذا كانت اللغة الدينية خاضعة في نظمها الخاص ونظام دلالتها الداخلي إلى قواعد ومبادئ اللغة نفسها التي تلفَّظ أو دُوِّن بها الخطاب الديني. بعبارة أخرى: هل هنالك نظام آخر ثانوي وراء نظام اللغة الأوَّلي التي صدر بها النص أو الخطاب الديني؟ بحيث نكون أمام منظومة دلالة وطبقة معاني وراء المعنى الذي تحيل إليه اللغة الأولى، والتي لا يمكن فك رموزها أو الكشف عنها إلا بالتعرف على نظام تركيب خاص ومنطق إحالة أخرى تتماشى وتنسجم مع فكرة تعالي النص الديني ومع طبيعة التجربة الدينية نفسها. وهل لغة النص الديني هي عين اللغة التي يعتمدها البشر في إنتاج الخطاب وتوليد المعنى والتواصل والإيصال؟ أم أن هناك لغة آخرى قابعة وراء المتبادر والظاهر والمألوف، تأخذ اللفظ إلى أمكنة معنى أخرى من دون أن تلغي المعنى الحرفي أو المعجمي، وتدخله في شبكة انتظامات وإحالات جديدة تخلق من ذلك الجديد عالماً جديداً ومتعالياً يناسب تعالي النص نفسه وقدسيته. كون الخطاب القرآني صادراً بلسان عربي مبين، وقول أصوليي الفقه بإمكان فك شفرة اللغة الدينية اعتماداً على علم النحو العربي وعلم المفردات والبلاغة وعلم المعنى، لا يحسم الجواب عن السؤال. لأن استعمال القرآن الكريم للسان العربي من جهة تداوله للمفردات المألوفة وتركيبه المتعارف للكلمات، لا يمنع وجود نظم آخر ذي منطق خاص يقف وراء الاستعمال المألوف للكلمات والتأليف المتعارف للجمل والعبارات، يكون قادراً على توليد معان ذات طبيعة متعالية ومفارقة، وعلى إثارة تصورٍ بشريٍ حول أمور الغيب تعجز قواعد الاستعمال المألوفة ومبادئ النظم المتواضع عليها عن تشكيلها أو إيصالها، لكونها ? أي اللغة المتعارفة - ذات منشأ وجري حسي. فكما أقر عبدالقاهر الجرجاني بوجود نظم خاص للنص وراء القواعد اللغوية المتفق والمتواضع عليها في إنتاج الكلام أو العبارة، وكما أكد وجود معنى المعنى، حيث إن الأول هو ما يتبادر إلى الأذهان وفق الطرق المتعارفة للتعبير، أما الثاني فهو المعنى المُستنبط أو المُدرك بعد اكتشاف نظمٍ خاص وراء النظم اللغوي المتعارف وبعد التعرف على قواعد تأليف خاصة بالنص يصح الاستناد إليها للولوج إلى طبقات دلالية أخرى وراء الدلالات المعجمية. كذلك يمكننا القول بوجود لغة ثانوية أو عُلوية ذات منطق وقواعد تتفرد بهما بنية النص الديني، ويختص به انسياب المعنى وتدفقه داخل النص. ولا تكون تلك اللغة مُلغِيَة للغة الأصلية، بل تكون الأولى بمثابة المادة الخام للثانية وفي موقع المُعطى البديهي الذي تُوظَّفُ فيه جميع إجراءاته وإحالاته كركيزة بناء للتكوين اللغوي الأعلى. إعجاز القرآن، الذي يعني في الدرجة الأولى استحالة الإتيان بآية أو بسورة من مثله، هو ما دفع علماء المسلمين إلى الوقوف على جهات الإعجاز ووجوهه. ولما كان التحدي القرآني منصباً على استحالة الإتيان بنص مشابه لآي القرآن،"وإن كنتم في ريب مما أنزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله"و"فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا"سورة البقرة، من الآيتين 23 ? 24، كان مركز الإعجاز القرآني متمحوراً حول النص القرآني لجهة معناه ومبناه. واتجهت البحوث نحو الكشف عن استعمالات القرآن الكريم للغة وطرق تركيبه وتقنيات الإدهاش في صوره البيانية. توصل عبدالقادر الجرجاني إلى القول إن إعجاز القرآن كامن في نظمه الداخلي الذي لا يتحصل بمجرد توالي الألفاظ في النطق، بل في تناسب دلالاتها وتلاقي معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل. فإعجاز القرآن ? بحسب الجرجاني - كامن في نظمه الداخلي وإن جاء بلسان العرب، وعلى مواضعاتهم اللغوية، ووفق قواعد لغتهم النحوية. إذ لا بد من أن يكون نظم القرآن مفارقاً لنظم غيره من النصوص، ومن ثم معجزاً لأن المتكلم بالقرآن الله سبحانه وتعالى لا يقارن في علمه بسواه من المتكلمين. فعلى رغم أن للغة دوراً في نظم آي القرآن وسوره وفي تحديد معاني الألفاظ المفردة، وعلى تحديد القوانين النحوية العامة التي تجعل الكلام ممكناً. إلا أن مفارقة القرآن لغيره من النصوص لا يرتد إلى مواضعات اللغة، سواء في مستواها اللفظي أو مستواها التركيبي، بل يرتد إلى المقدرة الخاصة للمتكلم على صوغ اللغة وإعادة تشكيلها. إنه يرتد إلى النظم الذي يفرق بين شعر وشعر، وبين كلام وكلام. اللافت هنا، أن على رغم التأكيد على تعالي النص القرآني ولا بشريته، فإن مدار التعرف على سر الإعجاز القرآني ? بحسب الجرجاني - يكون بالرجوع إلى الشعر العربي، ويكون الذين يُهوِّنُون من قيمة الشعر في التراث الديني، بمثابة من يصد عن سبيل الله ويمنع من حجته. هذا يعني أن العلم بالإعجاز القرآني يكون بقياس النص القرآني على مثال سابق عليه ألا وهو النص الأدبي الشعري بالتحديد. أي أن مبادئ النظم في القرآن ليست من داخل النص بل مستندة إلى الاستعمالات الشعرية والأدبية للعرب قبل نزول القرآن، وبالتالي يتم بناء الإعجاز على الشرط البشري، أي باستعمال قواعد ومبادئ استعمال وإجراءات تركيب منجزة وسابقة على النص القرآني، ويتخذ أي استعمال بلاغي وممارسة نظمية في القرآن مشروعيتهما من استعمال مماثل بلاغي ونظمي للعرب سابق عليه. هذا بذاته أحد الالتباسات في فهم النص الديني وتصوير طبيعته. فطالما أن مرجعية الاستعمال تقوم على نظام بشري سابق، فإن الإعجاز يكون ممتنعاً، لأن مشروعية كل آية يحددها استعمال بشري سابق عليها، ويكون بالتالي الإتيان بتركيب يماثل الآية أو العبارة القرآنية ممكنا. أما إذا كان الإعجاز مستنداً إلى نظام ذاتي في النص الديني، فإن إمكان إتيان العرب بمثله تكون ممتنعة، لغياب قواعد النظم الخاصة بالقرآن لديهم، أو غياب إجراءات اللغة الثانوية ومبادئها الخاصة الكامنة في القرآن، والتي لا تقتصر على ضم الكلمات إلى بعضها بطريقة مخصوصة، بل بشبك العبارات بعضها ببعض، لتجعل من السورة أو القرآن بمجمله نصاً خاصاً وكلياً يحيل كله إلى جزئه ويحيل جزؤه إلى كُلِّه. وهذا ما كان غائباً في كل مباحث اللغة العربية والدراسات القرآنية، حيث اقتصر النظم على طريقة ضم الكلمات بعضها إلى بعض بطريقة مخصوصة، من دون العناية بالنص الذي يعنى بضم العبارات بعضها إلى بعض، ومن دون النظر في كلية القرآن، كوحدة كلامية وبنية نصية ذات إيقاع وشبكة إحالات ومنطق توزيع ونظام دلالة شامل، تكشف جميعها عن جِدة القرآن ولغته الخاصة التي تجد قواعدها ومبادئها في حيوية القرآن الداخلية ومنطق تأليفه الخاص. بقاء البحث القرآني داخل فضاءات اللغة العربية، وبناء قواعد نظمه وبنيته الدلالية على مبادئ وقواعد مُنجزة ومتداولة ومألوفة عند العرب قبل نزول القرآن، ألجأ الفقهاء والمفسرين، إلى القول إن الكلام الصادر عن الله والواصل إلينا، يندرج ضمن كلام العقلاء حين يُعبِّرُون عن أنفسهم ويُبلِّغُون مرادهم إلى الآخرين. بعبارة أخرى، القول إن مبادئ النظم وقواعد المعنى في القرآن هي قواعد ومبادئ ناشئة من مواضعة عقلاء العرب عليها قبل الوحي، يستلزم القول إن توليد أيَّ كلام والتعبير عن المراد بالإستناد إلى تلك المبادئ والقواعد، لا بد من أن يندرج ضمن طريقة تعبير العقلاء عن مرادهم ومقاصدهم. هذا يعني أن الله في مقام الكلام وتبليغ المراد هو أحد العقلاء بل هو بتعبير الفقهاء"سيد العقلاء"، ويعني أيضاً أن تفسير كلامه يتم وفق ما نفهمه من العاقل العربي حين يوجه كلامه إلينا ويُبلِّغَنا مقاصِدَهُ. وهو ما أدَّى لاحقاً، إلى تغليب بل همينة ظهور اللفظ على كل معاني القرآن، وإلغاء الاحتمال بوجود طبقات معنى ونُظم دلالة وراء ظهور اللفظ، وتغييب أي تصور عن وجود لغة مفارِقة أو متعالية، تقف وراء لغة الوضع والتداول، تكون المعبر والمفتاح إلى مستويات معنى كامنة في باطنه ومتموضعة داخل حروفه وكلماته وجُمله. ولعل أحد التباسات تأسيس العرب في فهم النص الديني، أنهم، خصوصاً الفقهاء والمتكلمين، نَزَّلوا المتكلم الذي هو الله منزلة المتلقي أو المستمع الذي هو البشري، حيث بنوا أن الوسيلة الوحيدة التي يُوصل الله بها مُراده ومقصده إلينا، هي أن يتكلم ويفكر كبشر مثلنا، وبالتالي يكونُ المرجعُ في فهم مراده هو مواضعتنا وقواعدنا في نظم الكلام وليس أي شيء آخر. وغفلوا عن أن الاختلاف في الطبيعة بين المتكلم والمستمع تستدعي أيضاً الاختلاف في طبيعة التخاطب وطبيعة الخطاب نفسه ونظام العلاقة المألوفة بين الخطيب والمخاطَب. فلا الله تكلم إلى الناس مباشرة بل كان كلامه لهم عبر وسيطين رئيسيين، أولهما جبرائيل وثانيهما النبي صلى الله عليه وسلم. ولا النبي صلى الله عليه وسلم تلقى الوحي بطريقة التحاور المتعارف عليها بين البشر، بل كانت تعتريه أثناء الوحي ارتعاشات قوية وحالات إعياء شديدة تصل به إلى حد الإغماء. مما يعني أن الذي نَزَل شيئاً آخر، لم تكن اللغة العربية إلا قناة عبوره وترجمانه ووسيلة إيصاله للناس، مع ضرورة أن يكون لتكوينه الخاص ومنطق نظمه، مرجعية أخرى تتجاوز اللغة المتداولة، ولا يمكن الكشف عنها أو تلمس سماتها إلا من داخل النص القرآني نفسه بما يتجاوز مواضعات العرب واتفاقهم في معاني الكلمات وطرقهم في التعبير. فالاختلاف بين كلام الله وكلام البشر ليس اختلافاً في الدرجة، كما صور بذلك الجرجاني، حينما اعتبر الإعجاز منتهى الكمال في استعمال قواعد البلاغة العربية ومبادئها. بل إن الاختلاف هو اختلافٌ في النوع، كما أكد ذلك بول ريكور، الذي اعتبر أن اللغة الدينية تختلف عن اللغة اليومية بالنوع لا بالدرجة. فنحن لا نتكلم عن كلام في منتهى الكمال مقارنة بكلام من نفس الطبيعة والنوع، بل عن كلام من طبيعة مختلفة ونوع آخر لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله حينها لعدم توافر قواعد ومبادئ النظم ولغة التأليف الخاصتين بالقرآن الكريم. بحيث إن الوصول إلى المقصد الإلهي في النص الديني، لا يكون بتموضع المستمع أو القارئ البشري داخل اللغة اليومية التي يستعملها، أو وفق منطق إحالاته ونظام علاقاته اللذين يحكمان فضاءه الاجتماعي والثقافي فقط، بل يكون بالارتقاء والتصاعد في فهمه للنص، من المعنى الظاهر له، الذي هو بداية تشكل المعنى ونقطة انطلاق للترفع إلى دوائر دلالة أعلى وفق عملية لا تنتهي ولا تقف عند حد. فمهمة القارئ والمفسر كما يقول شليرماخر:"هي الدخول في محادثات جديدة مع النص لتحصيل رؤى جديدة. كما لو كنا نتسلق جبلاً، وحين نظن أننا وصلنا إلى القمة، نُدرك فقط هناك، أن هنالك قمة أخرى أعلى وراءها، تختبئ وراء شعورنا الموقت بالنصر. لقد ضاعت قمة الهرمنيوطيقا النهائية في الغيوم إلى الأبد". فحين يوحي الله كلامه إلينا، يكون كلامه القرآن في حالة نزول، أي من أعلى إلى أسفل، أما حين نريد التعرف الى مُراده ومقصده والوقوف على الدقيق من معنى كلامه، فلا بد من حركة تصاعدية تبدأ بالأدنى وتتدرج إلى الأعلى، ومن انتقال المستمع والمتلقي إلى موقع القارئ الذي لا يكتفي بما يخلق فيه النص من انطباع وتبادر أولي، بل يخوض تجربة الاحتكاك بالقول الثقيل، كما وصف القرآن نفسه:"إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، وهي تجربة تتطلب يقظةً للحواس الظاهرة والباطنة، وتستدعي استنفاراً عقليا، لا يقتصر على قدرات الكشف والتعرف، بل تستوجب فعل خلق وابتكار لا يقتصر غرضه على تصور المرادات المباشرة للعبارة القرآنية، بل للارتقاء إلى أنظمة معنى أرفع، تنقل علوم القرآن بأسرها من قواعد رقابة على الفكر إلى مُحفِّزَات سفر إلى القرآن بالقرآن.