إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    «العفو الدولية»: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة    كييف تتهم بوتين بعرقلة جهود ترمب لإنهاء الحرب    سان جيرمان يقترب من التأهل لنهائي "أبطال أوروبا" بفوز في معقل أرسنال    جوازات مطار المدينة المنورة تستقبل أولى رحلات ضيوف الرحمن القادمين من الهند    بصوت القلم    أسباب الشعور بالرمل في العين    اختبار للعين يكشف انفصام الشخصية    الجلوس الطويل يهدد الرقبة    مجمع الملك عبدالله الطبي ينفذ تطعيم ل 200 من منسوبي الأمن البيئي المشاركين في الحج    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    نائب وزير الخارجية يشارك في اجتماع وزراء خارجية دول البريكس بريو دي جانيرو    جيسوس بعد الخسارة: الإدارة لا تتحمل الهزيمة    سيناريوهات غامضة في ظل الغارات الإسرائيلية المتكررة على لبنان    دوريات الأمن بالعاصمة المقدسة: القبض على 4 صينيين لارتكابهم عمليات نصب واحتيال    قلعة شامخة    قوميز قبل مواجهة الشباب: سنلعب بروح النهائي على أرضنا وبين جماهيرنا    أمين منطقة القصيم: مبادرة سمو ولي العهد تجسد حرص القيادة    الصوت وفلسفة المكان: من الهمسات إلى الانعكاسات    ورم المحتوى الهابط    من شعراء الشعر الشعبي في جازان.. علي بن حسين الحريصي    "سيماكان" مدافع النصر : فريقنا سيقدم أفضل ما لديه من أجل الفوز والوصول إلى النهائي الآسيوي    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تُتوج بذهبية كرة القدم    أمير تبوك يستقبل محافظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    المسار يسهم في نشر ثقافة المشي والتعرف على المواقع التراثية وجودة الحياة    الداخلية تعلن اكتمال الجاهزية لاستقبال الحجاج    الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    351 مليار ريال تسهيلات المصارف وشركات التمويل للمنشآت    للعام السابع.. استمرار تنفيذ مبادرة طريق مكة في 7 دول    وزير الصناعة الثروة المعدنية يبدأ زيارة رسمية إلى دولة الكويت    أمير جازان يستقبل مدير فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة    نوفو نورديسك ولايفيرا توقعان مذكرة تفاهم لتمكين إنتاج مستحضرات سيماغلوتايد الپپتيد-1    "هيئة تطوير حائل" تنضم رسمياً إلى الشبكة العالمية للمراصد الحضرية التابعة للأمم المتحدة    محمد بن ناصر يتسلّم التقرير الختامي لفعاليات مهرجان "شتاء جازان 2025"    محمد بن ناصر يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس المحكمة العامة بالقطيف    وزير الاستثمار يلتقي قطاع الأعمال بغرفة الشرقية    مدير مكتب صحيفة "الرأي" بجازان يحتفل بتخرج نجله مجاهد من قسم الهندسة الكيميائية بجامعة جازان    Saudi Signage & Labelling Expo يعود إلى الرياض لدعم الابتكار في سوق اللافتات في المملكة العربية السعودية البالغة قيمته 492 مليون دولار    قوات الاحتلال تنفّذ عمليات هدم في رام الله والخليل    كشف النقاب عن مشروع «أرض التجارب لمستقبل النقل» في السعودية    رياح و امطار على عدة اجزاء من مناطق المملكة    الهدد وصل منطقة جازان.. الأمانة العامة تعلن رسميًا عن الشوارع والأحياء التي تشملها خطة إزالة العشوائيات    الأمير فيصل بن سلمان:"لجنة البحوث" تعزز توثيق التاريخ الوطني    الضيف وضيفه    أمير مكة: دعم سخي يؤكد تلمس حاجات المواطن    الانتخابات العراقية بين تعقيدات الخريطة وضغوط المال والسلاح    "مركز استهداف التمويل": جهود فعالة ورائدة في مكافحة جريمة الإرهاب وتمويله    النصر يتوج بكأس دوري أبطال آسيا الإلكترونية للنخبة 2025    العزلة الرقمية    زواجات أملج .. أرواح تتلاقى    أمير المدينة يدشّن مرافق المتحف الدولي للسيرة النبوية    محافظ محايل يكرم العاملين والشركاء في مبادرة "أجاويد 3"    تدشين 9 مسارات جديدة ضمن شبكة "حافلات المدينة"    جامعة جدة تحتفي بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها وطالباتها    السعودية تمتلك تجارب رائدة في تعزيز ممارسات الصيد    ملتقى «توطين وظيفة مرشد حافلة» لخدمة ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قانون النفط العراقي : ليس كل ما يلمع ذهباً
نشر في الحياة يوم 10 - 08 - 2007

في العدد 16188 من جريدة "الحياة" الغراء الصادر بتاريخ 31 تموز يوليو 2007، أدلى السيد حميد جعفر بدلوه في مسألة مشروع قانون النفط والغاز في العراق، والذي أقر في مجلس الوزراء العراقي توطئة لإقراره في البرلمان. والمشروع أثار لغطاً وجدلاً شديدين وتعرض بشكله الحالي الى معارضات حادة من أطراف سياسية عراقية عدة، وكذلك الى اعتراضات شعبية وتظاهرات شاجبة في بعض المدن العراقية.
ومن اللافت ولا بد أن يكون لذلك معنى ما أن الادارة الأميركية ممثلة بكبار مسؤوليها وسفيرها في العراق تروج لهذا المشروع مستعجلة إقراره في البرلمان اقترحت أن يتخلى البرلمان العراقي عن عطلته الصيفية لإقراره معللة ذلك بتطمين كل فئات الشعب بتحقيق العدالة وتوزيع الثروة النفطية بين العراقيين بالتساوي مما يؤدي الى تنفيس الاحتقانات الخانقة التي يعاني منها الشعب، وإطفاء الحرائق المشتعلة في العراق باعتبار القانون عصا سحرية قادرة على إنهاء مشاكلهم مرة واحدة والى الأبد.
وبعيداً عن بيع الأوهام الخادعة ونشر الانطباع بأن ما يحدث في العراق الآن هو فقط نزاع حول الثروة بين مكونات الشعب العراقي وليس أي شيء آخر... واضح تماماً، وارتباطاً بما يجري الآن من صراعات دموية يومية وتشنجات طائفية ومذهبية وعرقية، أن التركيز على موضوعة توزيع الثروة على أهميتها باعتبارها قطب الرحى في المعضلة العراقية، ما هو إلا عملية تبسيطية مقصودة، الغرض منها الترويج لمشروع النفط والغاز وإعطاء أهمية استثنائية لجهة سرعة انجازه وإقراره، بصرف النظر عن المشاكل الراهنة والكوارث اليومية التي يتعرض لها الكيان العراقي والتي تحول دون التوجه السليم لتنشيط الفعاليات الاقتصادية وترشيد التشغيل الأمثل لموارد البلد المادية والبشرية الهائلة. لقد تمت وبشكل صريح عبر مختلف وسائل الإعلام إعادة 90 في المئة من المبالغ المخصصة في الموازنة السنوية للمحافظات العراقية ومؤسسات الدولة المختلفة، بانتهاء السنة المالية 2006 الى خزينة الدولة لعدم التمكن من صرف هذه المبالغ في المشاريع المخطط لها في البرنامج الاستثماري بسبب الوضع الأمني المتردي حتى في مناطق ومحافظات في الجنوب والتي تعتبر آمنة نسبياً تصريح السيد علي بابان وزير التخطيط العراقي بعد نهاية سنة 2006.
بالتأكيد، إن التدقيق المتأني في تفاصيل المشروع وما اشتمل عليه من بنود تتعلق بالوجهة التي يحددها لمسار قضية النفط والجهات التي سوف تنخرط في تفاصيل لتنفيذه إن أقر، على السواء منها العراقية وغير العراقية، هذا التدقيق يمكن أن يكون كفيلاً بتوضيح هذا الاهتمام الاستثنائي للإدارة الاميركية ومؤسساتها ذات العلاقة بهذه القضية.
ولنعد الآن الى دراسة السيد حميد جعفر التي كتبها لجريدة"الحياة"ونشرت على حلقتين تحت عنوان"فرصة ذهبية لسياسة نفطية صحيحة في العراق"، قُدم فيها السيد حميد جعفر بوصفه خبيراً في شؤون النفط والغاز، وهذا صحيح تماماً، فكاتب الدراسة هو نجل المرحوم الدكتور ضياء جعفر الذي عمل وزيراً ولمرات عدة في حكومات النظام الملكي في العراق قبل ثورة 14 تموز 1958 وشقيق الدكتور جعفر ضياء جعفر عالم الذرة العراقي المعروف. وقد ظهر المرحوم الدكتور ضياء جعفر بعد عام 1958 كمشارك في ملكية آبار نفطية في المياه الاقليمية لدولة الامارات العربية المتحدة مع مواطنين آخرين في دولة الامارات، وتولى مسؤولية في ادارة شركة الهلال المالكة لهذه الآبار حتى وفاته - رحمه الله - حيث حل نجله السيد حميد محله والذي لم يكن بعيداً عن شركة الهلال، فهو أحد مدرائها في عهد والده.
يبتدأ السيد حميد دراسته بمقدمة قصيرة تتعلق بضرورة هذا المرفق الاقتصادي الحيوي للعراق، باعتباره سبيلاً مضموناً لتحقيق الرخاء للعراقيين بعد عقود من الإدارة السيئة والاستغلال السياسي الرخيص ربما يشير الى فضيحة كابونات النفط الشهيرة على عهد صدام حسين ثم يقرر، وبناءً على مجموعة من الأسباب الوجيهة، على ضرورة اقتناص فرصة اتخاذ قرار صائب، وتطوير الاحتياطات النفطية بطريقة مثالية، ثم يتساءل ماذا يعني"التطوير الأمثل"من الناحية العملية؟ فيجيب"انه ببساطة زيادة الانتاج الى أقصى حد ممكن في أقرب وقت ممكن"من أجل زيادة عائدات الدولة.!
هكذا بهذا الجزم وهذه البساطة يختزل الكاتب كل تعقيدات القضية وتفرعاتها، والمعالجات الضرورية والتفصيلية ذات الطابع المتخصص الواجبة كمداخل علمية للولوج الى هذا النشاط الاقتصادي لصناعة شديدة التعقيد بسبب ارتباطها بالنظام الاقتصادي والسياسي الدولي، يختصر كل ذلك بتقريره أن المشكلة تتعلق بما يسميه تطويراً أمثل هو"زيادة الانتاج الى أقصى حد ممكن في أقرب وقت ممكن"... كيف؟ وبأية وسائل؟ وهل ان هذا الهدف واقعي وممكن؟ كما يريد الكاتب!
بلا شك، يحاول كاتب الدراسة أن يتوفر على الأسباب والدوافع التي تسوغ لاقتراحه. لكن السؤال يبقى قائماً، هل استطاعت الأسباب التي قدمها أن توفر القبول لاقتراحه وخلق القناعة به بحيث يكون مساهمة موضوعية في إغناء البحث في هذه القضية وحل ما تواجهه من اشكالات...؟ لنتأمل ذلك.
ان أول ما يستوجب المناقشة والفحص اختبار المقولة أو الهدف الأساسي الذي يضعه مدخلاً لدراسته"زيادة الانتاج الى أقصى حد ممكن في أقرب وقت ممكن"والتي تمثل العمود الفقري للحلقتين اللتين تم نشرهما في"الحياة"، ويبقى خلاف هذا المدخل عبارة عن تنويعات على هذا اللحن الأساس.
اننا نعتقد وببساطة شديدة ان الأخذ بهذا الاقتراح يمكن أن يكون من أخطر ما يمكن أن تتعرض له قضية النفط في العراق. وربما يكون هذا الأمر هو الهدف الحقيقي وراء الدعوة لتشريع هذا القانون وفق هذا الاقتراح من دون تحفظ أو دراسة حيث يتحول الى منزلق خطير لما يشتمل عليه من مواصفات براقة ووعود كاذبة بآمال وأحلام غير قابلة للتحقيق، الغرض منها إغراء الشارع العراقي، وربما المشرع أيضاً، الى الدفع باتجاه إخراج القانون بهذه الصورة وقد دس فيه هذا الاقتراح اضافة الى أفكار أخرى خطيرة تهدد بأوخم العواقب لصناعة النفط في العراق. ذلك ان صيغة"زيادة الانتاج الى أقصى حد ممكن في أقرب وقت ممكن"سوف تؤدي بالضرورة"إذا تمت كما يريد الكاتب وبالوسائل التي يقترحها"الى دخول مقادير كبيرة من النفط المنتج الى السوق بشكل مفاجئ وغير مدروس، يؤدي بالضرورة ايضاً الى انهيار أسعار بيع النفط بشكل حاد بسبب هذه الكميات الاضافية وحينها يضيع العنب وتضيع السلة. إذ أن المعروف أن أسعار بيع النفط باعتباره سلعة تخضع لقانون العرض والطلب ليس إلا، وأن ادارات التسويق في البلدان المنتجة بقيادة منظمة الأوبك تراجع كميات النفط المنتجة بشكل دائم وتقوم بتعديل لكميات الانتاج زيادة وانقاصاً، آخذة في الاعتبار ظروف سوق النفط العالمية ومتطلباتها حفاظاً على مستوى معقول للأسعار يراعي حاجات التنمية للدول المنتجة من دون إفراط في عمليات انتاج كبيرة غير مدروسة تعرض الأسعار لمخاطر الانهيار الكبير والمفاجئ للسعر يحرم مشاريع التنمية من التمويل اللازم. وبالمقابل فإن السيطرة على معدلات الانتاج وإبقاءها ضمن مستويات مدروسة يؤديان ايضاً الى عدم الارتفاع الحاد للأسعار بسبب نقص الانتاج والذي يؤدي بدوره الى توترات حادة وخطيرة في العلاقات الدولية، وزيادات واضحة على أسعار السلع المصنعة، اضافة الى إيقاع الدول الفقيرة ودول العالم الثالث والكثير منها دول شقيقة وصديقة تقف شعوبها في خندق واحد مع شعوب منظمة الدول المصدرة للنفط"أوبك"في الصراع الدولي السلمي حامي الوطيس من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي الناجز لهذه المنظومة وتخليصها من براثن الاستغلال ونهب الثروات والهيمنة الاقتصادية الدولية، نقول إيقاعها في مشاكل صعبة بسبب عجزها عن توفير التخصيصات المالية اللازمة لتغطية هذه الزيادات الباهظة في استيراداتها من الامدادات النفطية، مما يجبرها على إيقاف عمليات التنمية فيها، أو اضعافها بشكل كبير، أو لجوئها الى الاستدانة وأخذ القروض من المؤسسات المالية الاقليمية والدولية لسد هذا النقص، مما يفاقم ظاهرة العجز الدائم في موازناتها وإدامة مشاكل التخلف فيها ومنعها من تضييق الفجوة الواسعة بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة ويكرس تبعية هذه البلدان للهيمنة الاقتصادية والسياسية للخارج.
واستناداً لكل هذا، فإن عملية السيطرة على معدلات الانتاج وربطها بتحقيق مزايا سعرية مناسبة تساعد على استقرار السوق النفطية وابعادها قدر الامكان عن الأزمات الناجمة عن التذبذب الحاد في الأسعار صعوداً وهبوطاً، هي الهدف الذي تجب مراعاته كاستراتيجية آمنة تؤمن تدفق الموارد المناسبة للدول المنتجة وتحافظ ايضاً على مصالح الأطراف الأخرى الداخلة في عمليات المتاجرة الدولية كمستهلكين للنفط والغاز، وليس الفتوى القائلة بزيادة الانتاج الى أقصى حد ممكن وفي أقرب وقت ممكن!! صحيح، أن العراق وبسبب ما انتهت إليه أوضاعه الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية من حالات مزرية لا تتناسب مع موقعه بثرواته المعدنية الهائلة، والنفطية منها بشكل خاص، وكذلك موارده البشرية الكبيرة، وتدني مستوى العمالة فيه وتفشي أنماط عالية جداً وغير مسبوقة من البطالة لقواه البشرية، كل هذا وغيره والذي كان إرثاً ثقيلاً وكريهاً خلفته عقود من الحكم الديكتاتوري الظالم الذي أنزل أفدح الخسائر بالعراق وأهله، وبذر بطريقة متخلفة رعناء ثروات العراق الوفيرة باعتماده سياسات سقيمة وحروباً عبثية غبية كادت أن تودي بالبلد وأهله، ولم تخلف سوى الخراب والدمار وأفواج من اليتامى والأرامل والمعاقين ومواكب طويلة من الشهداء والمظلومين. صحيح هذا هو واقع العراق الراهن وهو بحاجة ملحة وأكثر من أي وقت آخر في تاريخه الحديث الى الاستفادة القصوى من موارده الوفيرة وتعويض شعبه الصابر المظلوم عن سنوات القهر والحرمان وعقود الظلم الفادح التي أحاقت به، لكن كل هذا على قسوته لا يقوم مبرراً لحرق المراحل كما يقال وسلق الحلول من دون دراسة متعمقة وتأمل طويل لاختيار ما هو مناسب للحال في العراق ومتناسب مع ما تراكم عبر السنين. ايضاً من جوانب ايجابية في مسيرته النفطية، لا يجوز وبموجب شروط للعدالة والنزاهة ضرورية، أن يتم الشطب بخفة على كل ما دار في العراق من جهاد وتعب من أبنائه وكوادره النفطية المشهود لها بالكفاءة والتفاني. ان كاتب الدراسة، وهو خبير عراقي ورئيس تنفيذي لمؤسسة نفطية معروفة، يعرف أكثر من أي أحد آخر بحكم موقعه وخبرته ما هي امكانات وكفاءة الكوادرالنفطية العراقية... ليس من مسؤولية العاملين في الصناعة النفطية في العراق ما آلت إليه حاله وصناعته.
ان المسؤول الأول والوحيد هو النظام السياسي الذي تسلط على العراق ومقدراته وفي القلب منها صناعته النفطية، فقد حارب الكوادر النفطية الوطنية وأجبرها على النزوح عن بلدها العراق الى خارجه، وطوح بها في الآفاق لتقوم على أكتافها وبفضل خبراتها الثمينة جملة الصناعات النفطية في البلدان المنتجة المجاورة، ولعل السيد كاتب الدراسة بحكم انخراطه الكامل في هذه القضية يعرف بالتفصيل أعداد وأسماء مجموعة من أفضل العاملين في مجموعته"الهلال"النفطية من المهندسين والفنيين العراقيين... ليس انصافاً أن نهون من دور وتاريخ شركة النفط الوطنية العراقية وما قامت به من جهود ناجحة في تطوير الحقول النفطية وصناعة النفط في العراق عموماً. وليس عدلاً كذلك أن نعتبرها مسؤولة عن السياسات غير المسؤولة والمغامرة للسلطة القائمة آنذاك. فلا بد أن السيد كاتب الدراسة يعرف كما يعرف الجميع أن العراق كان يتوفر قبل نشوب الحرب العراقية - الايرانية على أكثر من ثلاثين بليون دولار مركونة في خزائن البنك المركزي العراقي خارج مبالغ الموازنات السنوية للبلد على شكل وفورات صافية كان يمكن أن يتم استثمارها في مشاريع اقتصادية وانتاجية كفيلة بتغيير وجه العراق الحضاري مع الأخذ بالاعتبار القيمة الشرائية العالية للدولار آنذاك. لقد تم حرق كل ذلك مع عشرات المئات من بلايين الدولارات التي سجلت ديوناً على العراق سيطال غرم تسديدها ربما أحفاد أحفاد الجيل الحاضر من العراقيين.
لقد تم حرقها في النار التي أشعلها نيرون العراق في المنطقة والعالم، فهل كان لشركة النفط الوطنية العراقية أي دور في هذه الحماقة؟ ولماذا يريد السيد كاتب الدراسة أن يحجم دور الشركة في الخطة الجديدة وفق تقسيمه لسلطات وأدوار الجهة التنظيمية، وهي هنا الحكومة؟ والجهة التي تخضع للتنظيم، وهي الشركات الاستثمارية وشركات القطاع الخاص بما فيها شركة النفط الوطنية.
هكذا، وببساطة يتم التفريط بدور شركة النفط الوطنية العراقية وينسف بسهولة شديدة هذا الدور الوطني القائد والضامن لمسيرة انتاج نفطية جديدة وسليمة، والتعامل معها أسوة بالشركات الاستثمارية الأجنبية وشركات القطاع الخاص الهادفة الى تعظيم أرباحها عبر"عقود المشاركة"التي يلطف من وقع اسمها فيدعوها ب"عقود المخاطرة والربح"، مستبعداً وبشكل بات"عقود الخدمة"التي هي أكثر ملاءمة لظروف العراق، حيث ينتهي مفعولها بانتهاء المهمات المحددة للجهة الموقعة لعقد الخدمة، خلاف عقود المشاركة التي يدعو لها الكاتب والتي تفسح المجال لشركات القطاع الخاص وهي بالمناسبة شركات أجنبية في الغالب بمشاركة العراق وإلى الأبد بموارده النفطية وتعيد مرة أخرى ارتهان قضايا النفط والغاز بمصالح الشركات الاحتكارية.
يحسن الكاتب المحترم صنعاً حين يبدي حرصاً على تطبيق مواد الدستور العراقي، مستشهداً بالمادة 110 المتعلقة بالسياسة النفطية وتشريعاتها التي تتطلب"الاعتماد على أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار"... إلا أن هذا لا يعني فقط"من دون أي معنى آخر"ابرام عقود المخاطرة والربح واستدعاء الشركات الأجنبية لاستثمار بلايين الدولارات تنفيذاً لهذه العقود، في حين يتقلص دور الدولة وشركاتها الوطنية وينحصر في الأدوار والمهمات التنظيمية حصراً.
وهذا هو ما يراه ويريده كاتب الدراسة، مبيناً بفصاحة مدهشة وصراحة شديدة"أن كل الأهداف الأخرى التي يتم الادعاء بها والتصريحات المنمقة حول تحقيق الوحدة الوطنية وحماية المصلحة الوطنية ضد الملكية الأجنبية، وما إلى ذلك، ما هي إلا محاولات تضليلية من مخلفات الماضي، والاعيب فجة لتحويل أنظار العراقيين الذين ملوا سماعها طوال العقدين الماضيين"هكذا تتحول الوحدة الوطنية وحماية المصلحة الوطنية ضد الملكية الأجنبية... الخ، الى مجرد محاولات تضليلية والاعيب فجة، يراد منها صرف أنظار العراقيين عن مصالحهم الحقيقية والمتمثلة في"خيرات"عقود المخاطرة والربح!!
إن الثروة النفطية العراقية لا تتمثل ببضع آبار مستنزفة تعد بضعة ملايين من البراميل النفطية الناضبة بعد عدد قليل من السنين ربما تعد على أصابع اليد الواحدة أو اليدين.
إن الاحتياطي النفطي المؤكد والهائل في العراق هو واحد من أكبر الاحتياطات النفطية في العالم، وقد يستمر الانتاج من حقول العراق النفطية، سواء منها المنتجة حالياً أو التي سيتم اكتشافها وتطويرها كحقول منتجة في المستقبل، إلى أكثر من مئة سنة مقبلة. وهذه الحقيقة تتطلب تدبراً وتأملاً عميقين، وترتب على العراقيين مسؤوليات مهمة وخطيرة أولاها الحيلولة دون تسرب نفوذ الشركات الأجنبية بأساليبها الشيطانية الى هذا المرفق الاقتصادي الحيوي تحت أي ذريعة كانت وفي مطلق الظروف والأحوال، بما فيها حجة عدم توافر المبالغ اللازمة حالياً للاستثمار في الصناعة النفطية أو النقص الحاد في الموارد المالية مستقبلاً، أو الحجة الأخرى المتمثلة في تخلف تقنيات الانتاج وقلة الكوادر البشرية المؤهلة، فهي على وجاهتها مشكلة قابلة لحل، إذ أن التقنيات الحديثة يمكن توفيرها تدريجاً بموجب"عقود خدمة"تتكفل بنقل المعدات والاساليب المتقدمة في عمليات التطوير والانتاج... وبالأسلوب ذاته، أي بواسطة"عقود خدمة"يمكن توفير رؤوس أموال تمس الحاجة إليها لأغراض الاستثمار والتطوير ينص فيها على طريقة التسديد مع هامش الأرباح عن المبالغ الدائنة من كميات النفط المنتجة وضمن أقساط سنوية خلال مدة معينة.
تبقى قضية توفير الكوادر البشرية المؤهلة وكيفية التغلب عليها. نحن نعتقد، وقد أوضحنا ذلك بجلاء في تضاعيف هذا البحث، أن الكوادر النفطية العراقية العاملة خارج العراق هي موضع ثقتنا واعتزازنا، وهي كوادر مؤهلة تأهيلاً جيداً، وبالإمكان استعادتها للعمل داخل الوطن ضمن خطط مدروسة تتعلق بتسهيل إعادة استقرارها مجدداً وتوفير الحوافز المادية والحياتية الضرورية المناسبة لها. وبما أن مرحلة الانتاج النفطي في بلدنا ستمتد لسنوات وسنوات مقبلة، وفق الاحتياطي المؤكد، لذا تكتسب قضية عودة الكوادر العراقية التي توفرت لها فرصة الاحتكاك المباشر بالحلقات المتقدمة في مجالات التقنيات والأساليب الحديثة في أمور الانتاج في مواقع عملها خارج العراق. أقول تكتسب أهمية استثنائية تتمثل في إمكان تحويلها الى ما يشبه الأكاديمية التي تتكفل بتدريب وتأهيل أجيال لاحقة من المتخصصين في الصناعة النفطية لمواصلة انتقال الخبرة بين هذه الأجيال على امتداد الفترة المقدرة للانتاج.
لا أحد يدعي أن هذا البرنامج سيكون سهلاً، وأنه سيمر ويتكامل من دون صعوبات أو أخطاء. إنها صعوبات محسوبة ومحتملة وأخطاء مقبولة، إذ كان ثمنها تحصين الصناعة النفطية الوطنية وحمايتها من الوقوع في الشراك الخطيرة المنصوبة لها على الطريق.
يقرر كاتب الدراسة أن هناك ثمانية مبادئ أساسية يمكن أن تفعل أو تقوض سياسات العراق النفطية والإطار التنظيمي لها كما يتصور، ويقوم بتعداد هذه المبادئ وشرحها بتفصيل واضح، وكنت أود أن أناقشها حسب تسلسلها، إلا أن ما منعني من ذلك هو أن هذه المبادئ الثمانية لا تخرج عن منهج كاتب الدراسة ورؤيته الفكرية المتمثلة في تحجيم الدور الوطني في الصناعة النفطية وسياساتها في العراق، وفتح الباب على مصراعيه من دون حذر أو تحفظ أمام رؤوس الأموال الأجنبية ونشاط شركاتها الدولية الاحتكارية لتتكفل هي بمقدرات ومستقبل السياسة النفطية لعقود طويلة قادمة عبر رقابة مزعومة على أعمالها.
لقد أشرت في مفتتح هذا البحث الى أن ما لفتني هو تهالك الدوائر الاميركية بمختلف مستوياتها، على سرعة إجازة قانون النفط والغاز المقترح وإخراجه الى حيز التنفيذ وقلت: لا بد أن يكون لذلك معنى ما!؟ وأخشى أن تكون دراسة السيد حميد جعفر"موضوع بحثنا"تصب في هذا المعنى.
* كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.