صدر في مجلة "نايتشر" Nature العلمية أخيراً، مقال علمي حمل توقيعاً خارجاً عن المألوف : "صاحب الجلالة امبراطور اليابان"! المقال الامبراطوري على مستوى رفيع من التمكّن العلمي بحيث تبنّته"نايتشر"الذائعة الصيت، فنشرته ضمن موقعها على الانترنت. ويلخّص المقال محاضرة ألقاها الامبراطور الياباني في لندن بمناسبة مرور 300 سنة على ميلاد الطبيب وعالم البيولوجيا السويدي كارل فون لينيه 1707-1778، الذي اشتهر باسمه اللاتيني لينايوس. وقد شرح مقال الامبراطور الياباني الانجاز الأبرز للينايوس، أي اقتراحه تصنيفاً شاملاً لأنواع الكائنات الحيّة، الذي عرضه في كتابه الشهير"نظام الطبيعة". وتضمن ذلك الكتاب تصنيفاً لمختلف النباتات والحيوانات المعروفة حينها فشمل 4400 نوع. وبنى العلماء على أساس ذلك الإنجاز العلمي وطوّروه، حتى صارت المنظومة عينها تضم مليوني نوع حي! ومن يعرف الامبراطور أكيهيتو يعلم أن كتابته مقالاً علمياً لا يعتبر طفرة مفاجئة، إذ يشتهر الامبراطور الذي يتربع على عرش"الشمس الصفراء"بأنه خبير في علم الاسماك، ولو أنه هاو. وسبق له أن كتب 38 مقالاً علمياً عن تلك الكائنات البحرية في مجلات علمية يابانية. ولعله ورث شيئاً من اهتمام أبيه الامبراطور السابق هيرو هيتو الذي توفي في العام 1989. وعُرف عن هيرو هيتو ولعه بالتجارب العلمية التي اعتاد انجازها في مختبر خاص في قصره. كما ألف إجراء تجارب مماثلة في مقر الإقامة الصيفية للعائلة الإمبراطورية المطل على شاطئ هياما قرب طوكيو. ويُسجل لهيرو هيتو علمياً أنه اكتشف بعض أنواع القشريات البحرية. ويعرف عن أكي هيتو أيضاً شغفه بالأسماك، إذ شَيّد في قصره حوضاً للأسماك الاستوائية. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن الأمير أكيشينو، وهو ابن ل أكي هيتو، يُبدي شغفاً علمياً بصنف من الاسماك اليابانية تعرف باسم"السمك القط". ولا يخلو الأمر من وجود بعض العقول اليابانية التي تشكك في الخبرة العلمية للعائلة الامبراطورية، فيما يميل كثير من الصحف المحلية لملاحظة الجدية العلمية لأبحاث الأسرة الحاكمة. لينيه وتحديه لمقولات أرسطو من هو لينايوس هذا؟ وما أهمية تصنيفه للكائنات النباتية والحيوانية؟ يأتي بعض الاكتشافات العلمية نتيجة لإعادة صوغ الحقائق، وصبّها في إطار أفضل. ومهّدت إعادة الصيغة التي أجراها الطبيب السويدي كارل فون لينيه، لتقدّم علم البيولوجيا خلال قرنين لاحقين. وُلِدَ في مدينة راشولت جنوبالسويد، في العام 1707. وشارك أباه، الذي عمل قسّاً للبلدة، حب النباتات. درس الطب في جامعة أوبسالا. وسرعان ما تحوّل للاهتمام بعلم النبات، الذي درّسَهُ في هذه الجامعة. وفي العام 1732، قاد حملة جامعية لدراسة النباتات التي تعجّ بها منطقة لابلاند. وفي العام 1735، بعد سفرات عدّة إلى انكلترا وأوروبا الغربية، نشر كتاباً ضمن له شهرة باقية، وسماه"نظام الطبيعة". واقترح فيه طريقة لتصنيف النباتات والحيوانات مختلفة عما ساد قبلاً. فمنذ أيام أرسطو، اعتمد تصنيف للأشكال الحيّة يرتكز على مظاهرها الخارجية. وهجر لينايوس هذه الطرق كلها. وأسس تصنيفه على الخصائص المُشتركة الأساسية. فمثلاً، جمع الحيتان والفئران معاً في فئة الحيوانات اللبونة. وصنّف النباتات المُزهرة على حدّة، ليميزها عن تلك التي لا تُعطي أزهاراً. وتميّز نظامه بمفهوم"التصنيف الهرمي"، حيث تنقسم الفئات الكبرى إلى مجموعات أصغر. فمثلاً، تُقَسّم فصيلة الحيوانات الفقارية، إلى اللبونات والعصافير والزواحف وغيرها. ثم تتوزع الحيوانات اللبونة إلى آكلات اللحوم، وملتهمات العشب والمقتات بالحشرات وغيرها. واتخّذ نظام لينايوس وجهة عالمية، ارتكازاً أساساً إلى دراسته النباتات، التي قادته إلى الانشغال بمسألة تكاثر الكائنات الحيّة. وخصّص صفحات كثيرة لوصف عملية التكاثر في النبات تحديداً. وساهم هذا الانشغال في تعزيز الطابع العلمي لدراساته، ما أدخل علم النبات في صورة العلم الحديث، كما غيّر من وجه دراسة علوم البيولوجيا كلها. وإضافة إلى التقسيم الهرمي، تبنى لينايوس نظام التسمية المزدوجة، بحيث يحمل كل نوع اسمه اللاتيني، مضافاً اليه اسم المجموعة التي ينتمي اليها. وهكذا حملت الأسود اسم"فليس ليو"، فيما سُميّت القطط البريّة"فليس سيلفيسترس"، باعتبارهما ينضويان تحت مجموعة القطط فليس. ولا يزال هذا النظام أساساً للتسميات الراهنة في البيولوجيا. ظهرت النسخة الأولى من نظام الطبيعة في كتيب من 7 صفحات. وعند ظهور النسخة العاشرة، تحوّل الكتيب، بأثر من شغف لينايوس بالتصنيف وبالتسميات، إلى كتاب من 2500 صفحة. ولا يزال نظامه في التصنيف والتسمية مُعتمداً راهناً، لكن العلم تقدم كثيراً في معرفة الصفات الأساسية التي يعتمد تصنيف الأنواع عليها، ما ولّد الكثير من التغيّرات في النظرة إلى أنواع الكائنات الحيّة. ولذا، دأب علماء البيولوجيا على إعادة تصنيف الفصائل والأنواع، اعتماداً على تعمّقهم في معرفة خصائص العائلات البيولوجية. وأدى ميله لينايوس إلى الشكل الهرمي في التصنيف إلى رسم نوع من شجرة عائلة للأنواع، ما أوحى بفكرة الأصل المشترك. وعندما توفي في العام 1778، بعد تكريسه اربعين سنة للتصنيف والتسمية، ساهمت أعماله في التمهيد لظهور نظرية النشوء والارتقاء على يد تشارلز داروين. وأقرّ نظام لينايوس بأربعة تقسيمات: الفصيلة والصنف والجنس والنوع. ولأنه آمن بأن الأنواع مستقرة، فقد بنى نظامه للمساعدة على التعرّف على الأنواع، وليس لتتبع أصولها. ولذا، لم يستعمل التقسيمات العليا، مثل الشعبة والمملكة. فمثلاً، وباستخدام المصطلحات المُعاصرة، يمكن وصف لينايوس نفسه كانسان بأنه كائن حي، ينتمي إلى مملكة الحيوان، ويحل في شعبة الكائنات ذات الجهاز العصبي، وبالتحديد شعيبتها المُسماة الفقاريات. ولمزيد من الدقة، فإنه من فصيلة الحيوانات اللبونة، التي تندرج تحت صنف الحيوانات الرئيسية"وكذلك فإن عائلته البيولوجية تحمل اسم انسان، بمعنى أنها من الجنس الانساني، وحصراً من نوع الانسان العاقل. ويُخبر ذلك بأنه حيوان يمتلك حبلاً شوكياً وعموداً فقرياً، وانه لبون، وانه يتشارك صفات مع القردة، وانه يتشارك صفات مع عائلات منقرضة مثل الانسان المنتصب، وانه عضو في النوع نفسه مع كل انسان شهدته الأرض في المئة الف سنة الماضية. الارجح ان اهتمام الإمبراطور أكي هيتو بتذكر لينايوس هو من الأمور التي تحمل على التفكير مجدداً بعلاقة السياسة بالعلم. ويشارك في هذا السياق إلى الاهتمام الذي أبداه الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بالكومبيوتر والانترنت وانتشارهما، وكذلك حماسة نائبه آل غور للبيئة، وقد ألف في ذلك كتاباً تحوّل فيلماً سينمائياً فشارك فيه أيضاً.