فلسفة العلوم هي فرع من الفلسفة يتناول (بالأحرى، يستخلص) الجوانب المعرفيّة في العلوم. وترتبط تلك الفلسفة بتاريخ العلوم. وإذا أراد عالم أو كاتب أن يقدّم فلسفة علم ما، فلا بد له من استعراض تاريخ تطوّر أفكار ذلك العلم ومناهجه وأدواته، منذ نشأته الأولى. وربما كان ذلك الوعي هو الخلفية المعرفيّة لكتاب «ثلاث قصص علميّة: البيولوجيا – التطوّر – الوراثة» الذي وضعه أحمد شوقي، وصدر حديثاً عن «مكتبة الأسرة» في القاهرة. يستند المؤلّف إلى فكرة البناء الهرمي من القاع إلى القمة، كنسق فكري للكتاب. ويرى أن البيولوجيا تحتاج إلى «وحدة»، بمعنى النظرية التي تنظم أنحاءها كافة. وقدّم داروين وحدة إطاريّة لبيولوجيا الكائنات الحيّة، تمثّلت في نظريته الشهيرة (والمثيرة للجدال دوماً) عن التطوّر Evolution. وفي مراحل لاحقة، ظهرت «نظرية الخليّة» Cell Theory بوصفها «وحدة» إطاريّة» للبيولوجيا. ويواصل كتاب «ثلاث قصص علميّة» تتبع تاريخ البيولوجيا، مذكّراً بأنه يبدأ من مصر القديمة وفق رأي المؤرّخ أنتوني سيرافيني (واضع كتاب «التاريخ الملحمي للبيولوجيا») وآخرين. ثم يعرض لذلك التاريخ في ثقافات عدّة، منها الثقافة اليونانية التي اهتم فلاسفتها، حتى قبل سقراط، بالتفسير الفيزيائي للظواهر الطبيعيّة. إذ قدّم هيبوقراط «نظرية الأمزجة» في الطب، بمعنى أن عمل الجسم يستند إلى مزيج من مُكوّنات أساسيّة متوّعة. ثم أحدث أرسطو تقدّماً علميّاً عبر دراسته التجريبية الميدانية للتاريخ الطبيعي للنبات والحيوان. عندما كان للعرب علوم يفرد كتاب «ثلاث قصص علميّة» صفحات كثيرة لمساهمات العرب في البيولوجيا، مشيداً بحفظهم تراث اليونان العلمي من الاندثار، وإنجازاتهم العلميّة البيولوجية الخلّاقة في دراسة النبات والحيوان، وتوصّلهم إلى اكتشافات علميّة مهمّة كتشريح العين (التي قدّم العالِم ابن الهيثم نظرية متقدّمة عن عملها) واكتشاف الدورة الدمويّة على يد الطبيب العربي ابن النفيس وغيرها. وفي الإطار عينه، يشير الكتاب إلى اجتهاد العرب علميّاً في تصنيف الموسوعات في حقول البيولوجيا المتنوّعة، ككتب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» للطبيب ابن أبي أصيبعة الذي يتناول تاريخ الطب، و «الحيوان» للجاحظ، و «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» لأبي عبدالله القزويني. وبعدها، ينتقل الكتاب إلى «عصر نهضة البيولوجيا» الذي بدأ مع تبني الطرق التجريبية في التعامل مع الظواهر الحيّة، ومن بينها جسد الإنسان. ويؤرخ لبداية ذلك العصر مع دراسات أندرياس فيساليوس عن تشريح الإنسان في القرن السادس عشر. تلت ذلك موجة فكريّة أبرزت الاهتمام العام بتعابير الجسد الحيّ، سواء في الإنسان أو الحيوان، وكان المثال الرائد لذلك الاتجاه هو عبقري عصر النهضة ليوناردو دافنشي. وشهد القرنان التاليان ظهور عددٍ من الدراسات والاكتشافات المؤثّرة في مسار علم البيولوجيا. ففي عام 1628 درس وليام هارفي وظائف الدم ووضع وصفاً علميّاً منهجيّاً لدورتيه في الجسم. ودرس الإيطالي سانتوريو سانتوريو التمثيل الغذائي («الأيض» Metabolism) في الجسم البشري. وأدخل روبرت هوك العين البشريّة إلى مرحلة الدراسات الدقيقة، بفضل صنعه الميكروسكوب المُركّب. وسرعان ما أدخل الهولندي أنطوني ليفنهوك تحسيناً على قوة تكبير عدسات الميكروسكوب، لتبلغ مئتي ضعف الحجم الطبيعي. في الفترة نفسها، نشأت دراسة الأحفوريات Fossils وأثيرت التحفظات الدينية بسبب مخالفتها العقائد المسيحيّة التي كانت سائدة حينها، حول عمر الأرض والإنسان. وعلى أثر ذلك، بدأت في الظهور المفاهيم والنظريات والاكتشافات الكبرى في تاريخ العلوم. إذ برز مفهوم أن الحفريات هي بقايا أنواع منقرضة، وليست بقايا كائنات ما زالت حيّة في أماكن أخرى غير معروفة، كما كان رائجاً. من التطوّر إلى الجينوم في القرن التاسع عشر، ظهر ما يمكن وصفه ب «الاكتشاف الأكبر» في تاريخ البيولوجيا، بل المفهوم المحوري في ذلك العلم، المتمثّل في نظرية التطوّر للعالِم الإنكليزي تشارلز داروين. وتدور النظرية حول «فكرة داروين الخطيرة»، كما وصفت في ذلك الوقت، عن أصل الأنواع وتطوّرها عبر الانتخاب الطبيعي Natural Selection. ثم أجرى العالِم آرنست ماندل، وكان راهباً أيضاً، دراسات موثّقة عن توارث الصفات في النبات، ما أوصله إلى وضع قوانين الوراثة للكائنات الحيّة، ما يعتبر الاكتشاف المحوري الثاني في تاريخ علم البيولوجيا الحديث. ومهّدت تلك التطوّرات لظهور فكرة تقول إن الخليّة هي الوحدة البنائية للكائن الحي، بمعنى أن الخليّة المفردة تتميز بكل خصائص الحياة. ومع «نظرية الخليّة» استكمل علم البيولوجيا تحوّله من علم وصفي إلى علم تجريبي. ومع القرن العشرين، بدأت البيولوجيا مسيرة متصاعدة قادت إلى اللحظة البيولوجية التي نعيشها حاضراً. ووفق الكتاب عينه، شهد القرن العشرون ظهور البيولوجيا الجزيئيّة، والتعرّف على تركيب حمض الوراثة النووي «دي آن إيه» DNA، وتفكيك شيفرة الوراثة، والدخول في عمليات التحوير الوراثي للكائنات عبر نقل الجينات من كائن إلى آخر، إضافة إلى تأسيس علوم البرامج الوراثية الكاملة للكائنات الحيّة. ومع القرن الواحد والعشرين الذي يوصف بأنه «قرن البيولوجيا»، يمكن القول أن البيولوجيا تحوّلت بالكامل من علم تجريبي إلى علم تقني، يمول وتنظم نشاطاته وفاعلياته لتحقيق أهداف علميّة متنوّعة. وبلغة مبسّطة، يسهب الكتاب في شرح تفاصيل علميّة دقيقة تهدف إلى التعريف بالفروع الجديدة في البيولوجيا، وهي ظهرت بفضل التفاعل بين البيولوجيا وعلوم حديثة، على غرار ال «بيومعلوماتية» («بيوأنفورماتيكس» Bio Informatics)، و«البيولوجيا التركيبيّة» Synthetic Biology وغيرهما. وينظر إلى تلك الفئة من العلوم بأنها قمينة بإحداث تغيير في وجه الحياة على الأرض خلال العقود المقبلة.